عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قبل الإسلام
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الأولى
أولاً: اسمه، ونسبه، وكنيته، وألقابه:
هو عمر بن الخطَّاب بن نُفيل بن عبد العُزَّى بن رياح بن عبد الله بن قُرط بن رَزاح ابن عدي بن كعب بن لؤيبن غالب القرشيُّ العدويُّ، يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي بن غالب، ويكنى أبا حفصٍ، ولقِّب بالفاروق، لأنَّه أظهر الإِسلام بمكَّة ففرَّق الله به بين الكفر والإِيمان.
ثانياً: مولدُه، وصفته الخَلْقية:
ولد عمر ـ رضي الله عنه ـ بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة. وأمَّا صفته الخَلْقية، فكان رضي الله عنه أبيض، أمهق، تعلوه حمرةٌ، حسن الخدَّين، والأنف، والعينين، غليظ القدمين، والكفَّين، مجدول اللَّحم، وكان طويلاً، جسيماً، أصلع، قد فرع النَّاس، كأنَّه راكبٌ على دابَّةٍ، وكان قويّاً، شديداً، لا واهناً، ولا ضعيفاً، وكان يخضب بالحنَّاء، وكان طويل السَّبلة، وكان إِذا مشى أسرع، وإِذا تكلَّم أسمع، وإِذا ضرب أوجع.
ثالثاً: أسرته:
أمَّا والده، فهو الخطَّاب بن نفيل، فقد كان جدُّ عمر نفيل بن عبد العزَّى ممَّن تتحاكم إِليه قريش، وأمَّا والدته؛ فهي حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، وقيل: بنت هاشم أخت أبي جهل، والذي عليه أكثر المؤرِّخين هو أنَّها بنت هاشم ابنة عمِّ أبي جهل بن هشام.
وأمَّا زوجاته، وأبناؤه، وبناته؛ فقد تزوَّج في الجاهلية زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، فولدت له عبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة، وتزوَّج مليكة بنت جرول، فولدت له عبيد الله، فطلَّقها في الهدنة، فخلف عليها أبو الجهم بن حذيفة، وتزوَّج قُرَيْبة بنت أبي أميَّة المخزومي، ففارقها في الهدنة، فتزوَّجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر، وتزوَّج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد زوجها عكرمة بن أبي جهل حين قتل في الشام، فولدت له فاطمة، ثمَّ طلقها، وقيل: لم يطلقها، وتزوَّج جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح من الأوس، وتزوَّج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر، ولمَّا قتل عمر تزوَّجها بعده الزُّبير بن العوَّام ـ رضي الله عنه ـ ويقال: هي أمُّ ابنه عياض، فالله أعلم.
وكان قد خطب أمَّ كلثوم ابنة أبي بكر الصِّدِّيق، وهي صغيرة، وراسل فيها عائشة فقالت أمُّ كلثوم: لا حاجة لي فيه، فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين ؟ قالت: نعم، إِنَّه خشن العيش، فأرسلت عائشة إِلى عمرو بن العاص، فصدَّه عنها، ودلَّه على أم كلثوم بنت عليِّ بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: تعلق منها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخطبها من عليٍّ فزوَّجه إِيَّاها، فأصدقها عمر ـ رضي الله عنه ـ أربعين ألفاً، فولدت له زيداً، ورقيَّة، وتزوَّج لُهْيَة امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن الأصغر، وقيل: الأوسط. وقال الواقديُّ: هي أمُّ ولد، وليست بزوجةٍ.
قالوا: وكانت عنده فكيهة أمُّ ولد، فولدت له زينب؛ قال الواقديُّ: وهي أصغر ولده.
فجملة أولاده ـ رضي الله عنه ـ ثلاثة عشر ولداً، وهم: زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرَّحمن الأكبر، وعبد الرَّحمن الأوسط، وعبد الرَّحمن الأصغر، وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقيَّة، وزينب، وفاطمة رضي الله عنهم. ومجموع نسائه اللاتي تزوجهنَّ في الجاهليَّة والإِسلام ممَّن طلَّقَهُنَّ، أو مات عنهن سبع.
وكان رضي الله عنه يتزوَّج من أجل الإِنجاب، والإِكثار من الذرِّيَّة، فقد قال رضي الله عنه: ما اتي النِّساء للشَّهوة، ولولا الولد؛ ما باليت ألا أرى امرأةً بعيني.
وقال رضي الله عنه: إِنِّي لأُكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله منِّي نسمةً تسبِّحه، وتذكره.
رابعاً: حياته في الجاهليَّة:
أمضى عمر في الجاهلية شطراً من حياته، ونشأ كأمثاله من أبناء قريش، وامتاز عليهم بأنَّه كان ممَّن تعلَّموا القراءة، وهؤلاء كانوا قليل ينجداً، وقد حمل المسؤوليَّة صغيراً، ونشأ نشأةً غليظةً شديدةً، لم يعرف فيها ألوان التَّرف، ولا مظاهر الثَّروة، ودفعه أبوه الخطَّاب في غلظةٍ وقسوةٍ إِلى المراعي يرعى إِبله، وتركت هذه المعاملة القاسية من أبيه أثراً سيئاً في نفس عمر ـ رضي الله عنه ـ فظلَّ يذكرها طيلة حياته، فهذا عبد الرَّحمن بن حاطب يحدِّثنا عن ذلك، فيقول: كنت مع عمر بن الخطاب بضجنان، فقال: كنت أرعى للخطَّاب بهذا المكان، فكان فظّاً غليظاً، فكنت أرعى أحياناً، وأحتطب أحياناً... ولأنَّ هذه الفترة كانت قاسيةً في حياة عمر، فإِنَّه كان يكثر من ذكرها، فيحدِّثنا سعيد بن المسيِّب رحمه الله قائلاً: حجَّ عمر، فلما كان بضجنان قال: لا إِله إِلا الله العلي العظيم، المعطي ما شاء، لمن شاء، كنت أرعى إِبل الخطاب بهذا الوادي، في مِدْرَعة صوف، وكان فظّاً، يتعبني إِذا عملت، ويضربني إِذا قصرت، وقد أمسيت ليس بيني وبين الله أحدٌ، ثمَّ تمثَّل:
لا شَيْءَ ممَّا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ يَبْقَى الإِلهُ ويُرْدَى المَالُ والوَلَدُ
لَمْ تُغْنِ عَنْ هُرْمُزٍ يوماً خَزائِنُه والخُلْدَ قَدْ حَاوَلَتْ عادٌ فَمَا خَلَدُوا
وَلا سُلَيْمَانَ إِذْ تَجْرِي الرِّياحُ لَهُ وَالإِنْسُ وَالجِنُّ فِيمَا بَيْنَهَا بُرُدُ
أَيْنَ المُلوكُ الَّتِي كَانَتْ نَواهِلُهَا مِنْ كُلِّ أَوبٍ إِلَيْهَا رَاكِبٌ يَفِدُ
حَوْضَاً هُنَالِكَ مَوْرُودٌ بِلاَ كَذِبٍ لابدَّ مِنْ وِرْدِهِ يوماً كَمَا وَرَدُوا
ولم يكن ابن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ يرعى لأبيه وحدَه، بل كان يرعى لخالاتٍ له من بني مخزومٍ، وذكر لنا ذلك عمر ـ رضي الله عنه ـ نفسه حين حدَّثته نفسُه يوماً وهو أمير المؤمنين: أنَّه أصبح أميراً للمؤمنين فمن ذا أفضل منه... ولكي يُعرِّف نفسه قدرها ـ كما ظنَّ ـ وقف يوماً بين المسلمين يعلن: أنَّه لم يكن إِلا راعي غنم، يرعى لخالاتٍ له من بني مخزومٍ. يقول محمَّد بن عمر المخزومي عن أبيه: نادى عمر بن الخطاب بالصَّلاة جامعةً، فلمَّا اجتمع النَّاس، وكبَّروا، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلَّى على نبيِّه ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ ثمَّ قال: أيُّها الناس ! لقد رأيتني أرعى على خالاتٍ من بني مخزومٍ، فيقبضن لي قبضةً من التَّمر، أو الزَّبيب، فأظلُّ يومي، وأيَّ يوم !! ثمَّ نزل، فقال له عبد الرَّحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين ! ما زدت على أن قمَّأت نفسك ـ عبْتَ ـ فقال: ويحك يا بن عوف !! إِنِّي خلوت، فحدَّثتني نفسي، قالت: أنت أمير المؤمنين، فَمَنْ ذا أفضل منك ؟! فأردت أن أعرِّفها نفسها. وفي روايةٍ: إِنِّي وجدت في نفسي شيئاً، فأردت أن أطأطئ منها.
ولا شكَّ: أنَّ هذه الحرفة ـ الرَّعي ـ الَّتي لازمت عمر بن الخطَّاب في مكَّة قبل أن يدخل الإِسلام قد أكسبته صفاتٍ جميلةً، كقوَّة التَّحمُّل، والجلد، وشدَّة البأس، ولم يكن رعي الغنم هو شغل ابن الخطاب في جاهليته، بل حذق من أول شبابه ألواناً من رياضة البدن، فحذق المصارعة، وركوب الخيل، والفروسيَّة، وتذوَّق الشِّعر، ورواه، وكان يهتمُّ بتاريخ قومه وشؤونهم، وحرص على الحضور في أسواق العرب الكبرى، مثل (عكاظ) و(مجنَّة) و(ذي المجاز) واستفاد منها في التِّجارة، ومعرفة تاريخ العرب، وما حدث بين القبائل من وقائع، ومفاخرات، ومنافرات، حيث تُعرض تلك الأحداث في إِطار اثارٍ أدبيَّة، يتناولها كبار الأدباء بالنَّقد على مرأى، ومسمع من ملأ القبائل وأعيانها ممَّا جعل التَّاريخ العربيَّ عرضاً دائم الحركة، لا ينسدل عليه ستار النِّسيان، وربَّما تطاير شرر الحوادث، فكانت الحرب، وكانت عكاظ ـ بالذَّات ـ سبباً مباشراً في حروبٍ أربع، سمِّيت حروب الفجار.
واشتغل عمر ـ رضي الله عنه ـ بالتِّجارة وربح منها ما جعله من أغنياء مكَّة، وكسب معارف متعدِّدةً من البلاد التي زارها للتِّجارة، فرحل إلى الشَّام صيفاً، وإِلى اليمن شتاءً، واحتلَّ مكانةً بارزةً في المجتمع المكِّيِّ الجاهلي، وأسهم بشكلٍ فعَّالٍ في أحداثه، وساعده تاريخ أجداده المجيد، فقد كان جدُّه نُفيل بن عبد العزَّى تحتكم إِليه قريش في خصوماتها، فضلاً عن أنَّ جدَّه الأعلى كعب بن لؤي كان عظيم القدر والشَّأن عند العرب، فقد أرَّخوا بسنة وفاته إِلى عام الفيل، وتوارث عمر عن أجداده هذه المكانة المهمَّة الَّتي أكسبته خبرةً، ودرايةً، ومعرفةً بأحوال العرب وحياتهم، فضلاً عن فطنته، وذكائه، فلجؤوا إِليه في فضِّ خصوماتهم، يقول ابن سعد: « إِنَّ عمر كان يقضي بين العرب في خصوماتهم قبل الإِسلام ».
وكان ـ رضي الله عنه ـ، رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قويّاً، حليماً، شريفاً، قويَّ الحجَّة، واضح البيان، ممَّا أهَّله لأن يكون سفيراً لقريش، ومفاخراً، ومنافراً لها مع القبائل، قال ابن الجوزي: كانت السِّفارة إِلى عمر بن الخطَّاب؛ إِن وقعت حربٌ بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً، أو نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر، بعثوه منافراً، ومفاخراً، ورضوا به، رضي الله عنه.
وكان يدافع عن كلِّ ما ألفته قريش من عاداتٍ، وعبادات، ونظم، وكانت له طبيعةٌ مخلصةٌ، تجعله يتفانى في الدِّفاع عمَّا يؤمن به، وبهذه الطَّبيعة الَّتي جعلته يشتدُّ في الدِّفاع عمَّا يؤمن به قاوم عمر الإِسلام في أوَّل الدَّعوة، وخشي عمر أن يهزَّ هذا الدِّين الجديد النِّظام المكي الَّذي استقرَّ، والَّذي يجعل لمكَّة بين العرب مكاناً خاصّاً، ففيها البيت الَّذي يُحَجُّ إِليه، والَّذي جعل قريشاً ذات مكانةٍ خاصَّةٍ عند العرب، والَّذي صار لمكَّة ثروتها الرُّوحيَّة، وثروتها المادِّيَّة، فهو سبب ازدهارها، وغنى سراتها، ولهذا قاوم سراةُ مكَّة هذا الدِّين، وبطشوا بالمستضعفين من معتنقيه، وكان عمر من أشدِّ أهل مكَّة بطشاً بهؤلاء المستضعفين.
ولقد ظلَّ يضرب جاريةً أسلمت، حتَّى أعيت يداه، ووقع السَّوط من يده، فتوقَّف إِعياءً، ومرَّ أبو بكر، فراه يعذِّب الجارية، فاشتراها منه، وأعتقها.
لقد عاش عمر في الجاهلية وسبر أغوارها، وعرف حقيقتها، وتقاليدها، وأعرافها، ودافع عنها بكلِّ ما يملك من قوَّةٍ، ولذلك لمَّا دخل في الإِسلام؛ عرف جماله، وحقيقته، وتيقَّن الفرق الهائل بين الهدى والضَّلال، والكفر والإِيمان، والحقِّ والباطل، ولذلك قال قولته المشهورة: إِنَّما تُنْقَضُ عُرا الإِسلام عروةٌ عروةٌ؛ إِذا نشأ في الإِسلام مَنْ لا يعرف الجاهليَّة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي