دخول الفاروق رضي الله عنه الإسلام
الظروف والحيثيات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثانية
كان أوَّل شعاعة من نور الإِيمان لامست قلبه، يوم رأى نساء قريش يتركْنَ بلدهنَّ، ويرحلْنَ إِلى بلدٍ بعيدٍ عن بلدهنَّ، بسبب ما لقين منه ومن أمثاله، فرقَّ قلبُه، وعاتبه ضميره، فرثى لهنَّ، وأسمعهنَّ الكلمة الطَّيبة الَّتي لم يكنَّ يطمعْنَ أن يسمعْنَ منه مثلها.
قالت أمُّ عبد الله بنت حنتمة: لمَّا كنَّا نرتحل مهاجرين إِلى الحبشة؛ أقبل عمر حتَّى وقف عليَّ، وكنا نلقى منه البلاء، والأذى، والغلظة علينا، فقال لي: إِنَّه الانطلاق يا أمَّ عبد الله ؟ قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله ! اذيتمونا، وقهرتمونا، حتَّى يجعل الله لنا فرجاً. فقال عمر: صحبكم الله ! ورأيت منه رقَّةً لم أرها قطُّ. فلمَّا جاء عامر بن ربيعة وكان قد ذهب في بعض حاجته، وذكرت له ذلك، فقال: كأنَّك قد طمعت في إِسلام عمر ؟ قلت له: نعم، فقال: إِنَّه لا يسلم حتَّى يسلم حمارُ الخطَّاب.
لقد تأثَّر عمر من هذا الموقف، وشعر: أنَّ صدره قد أصبح ضيقاً حرجاً؛ فأيُّ بلاءٍ يعانيه أتباع هذا الدِّين الجديد، وهم على الرَّغم من ذلك صامدون ! ما سرُّ تلك القوَّة الخارقة ؟ وشعر بالحزن، وعصر قلبَه الألم ، وبعد هذه الحادثة بقليلٍ أسلم عمرـ رضي الله عنه ـ وبسبب دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كانت السَّبب الأساسي في إِسلامه، فقد دعا له بقوله: « اللهم أعزَّ الإِسلام بأحبِّ الرَّجلين إِليك: بأبي جهلِ بن هشام، أو بعمرَ بن الخطَّاب ». قال: وكان أحبَّهما إِليه عمر.
وقد ساق الله الأسباب لإِسلام عمر ـ رضي الله عنه ـ فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: ما سمعت عمر لشيءٍ قطُّ يقول: إِنِّي لأظنُّه كذا إِلا كان كما يظنُّ، بينما عمر جالسٌ إِذ مرَّ به رجلٌ جميلٌ، فقال عمر: لقد أخطأ ظنِّي، أو إِنَّ هذا على دينه في الجاهليَّة، أو لقد كان كاهنهم، عليَّ بالرَّجل ! فدُعي له، فقال له ذلك. فقال: ما رأيت كاليوم استُقبل به رجلٌ مسلم. قال: فإنِّي أعزم عليك إِلا ما أخبرتني.
قال: كنت كاهنهم في الجاهليَّة.
قال: فما أعجب ما جاءتك به جِنِّيَّتُك ؟ قال: بينما أنا يوماً في السُّوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجنَّ، وإِبلاسها، ويأسها من بعد إِنكاسها، ولحوقها بالقلاص، وأحلاسها.
قال عمر: صدق، بينما أنا نائمٌ عند الهتهم؛ إِذ جاء رجلٌ بعجلٍ، فذبحه، فصرخ به صارخٌ ـ لم أسمع صارخاً قطُّ أشدَّ صوتاً منه ـ يقول: يا جليح! أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إِله إِلا الله. فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتَّى أعلم ما وراء هذا، ثمَّ نادى: يا جليح ! أمرٌ نجيحٌ، رجلٌ فصيح، يقول: لا إِله إِلا الله. فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبيٌّ.
وقد ورد في سبب إِسلام الفاروق ـ رضي الله عنه ـ الكثير من الرِّوايات، ولكن بالنَّظر إِلى أسانيدها من النَّاحية الحديثيَّة؛ فأكثرها لا يصحُّ، ومن خلال الرِّوايات الَّتي ذكرت في كتب السيرة، والتَّاريخ يمكن تقسيم إِسلامه، والصَّدع به إِلى عناوين، منها:
1ـ عزمه على قتل رسول الله:
كانت قريش قد اجتمعت فتشاورت في أمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: أيُّ رجلٍ يقتل محمَّداً ؟ فقال عمر بن الخطَّاب: أنا لها، فقالوا: أنت لها يا عمر ! فخرج في الهاجرة، في يوم شديد الحرِّ، متوشِّحاً سيفه، يريد رسول الله ورهطاً من أصحابه، فيهم: أبو بكر، وعليٌّ، وحمزة ـ رضي الله عنهم ـ في رجالٍ من المسلمين ممَّن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة، ولم يخرج فيمن خرج إِلى أرض الحبشة، وقد ذكروا له: أنَّهم اجتمعوا في دار الأرقم في أسفل الصَّفا. فلقيه نُعَيم بن عبد الله النَّحَّام. فقال: أين تريد يا عمر ؟! قال: أريد هذا الصَّابىء؛ الَّذي فرَّق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب الهتها، فأقتله. قال له نُعَيم: لبئس الممشى مشيت يا عمر ! ولقد والله غرَّتك نفسك من نفسك، ففرَّطت، وأردت هلكة بني عديٍّ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمَّداً ؟ فتحاورا، حتَّى علت أصواتُهما، فقال عمر: إِنِّي لأظنُّك قد صبوت، ولو أعلم ذلك؛ لبدأت بك، فلمَّا رأى النَّحَّام: أنَّه غير مُنْتَهٍ؛ قال: فإِنِّي أخبرك: أنَّ أهليك، وأهل ختَنك قد أسلموا، وتركوك، وما أنت عليه من ضلالتك. فلمَّا سمع مقالته؛ قال: وأيُّهم؟ قال: خَتَنُك، وابنُ عمِّك، وأختُك.
2ـ مداهمة عمر بيت أخته، وثبات فاطمة بنت الخطَّاب أمام أخيها:
لمَّا سمع عمر: أنَّ أخته، وزوجها قد أسلما؛ احتمله الغضب، وذهب إِليهما، فلمَّا قرع الباب؛ قالا: من هذا ؟ قال: ابن الخطَّاب. وكانا يقرأان كتاباً في أيديهما، فلمَّا سمعا حسَّ عمر؛ قاما مبادرين فاختبأ، ونسيا الصَّحيفة على حالها، فلمَّا دخل، ورأته أخته؛ عرفت الشَّرَّ في وجهه، فخبَّأت الصَّحيفة تحت فخذها. قال: ما هذا الْهَيْنَمَة، والصَّوت الخفي، الَّذي سمعته عندكم ؟ « وكانا يقرأان طه » فقالا: ما عدا حديثاً تحدَّثناه بيننا. قال: فلعلَّكما قد صبوتما ؟ فقال له ختنه: أرأيت يا عمر ! إِن كان الحقُّ في غير دينك ؟ فوثب عمر على ختنه سعيدٍ، وبطش بلحيته، فتواثبا، وكان قويّاً شديداً، فضرب بسعيدٍ الأرض، ووطئه وطئاً، ثمَّ جلس على صدره، فجاءت أخته، فدفعته عن زوجها، فنفحها نفحةً بيده، فدمَّى وجهها، فقالت، وهي غَضْبَى: يا عدو الله ! أتضربني على أن أوحِّد الله ؟ قال: نعم ! قالت: ما كنت فاعلاً فافعل، أشهد أن لا إِله إِلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله، لقد أسلمنا على رغم أنفك ! فلمَّا سمعها عمر ندم، وقام عن صدر زوجها، فقعد، ثمَّ قال: أعطوني هذه الصَّحيفة؛ الَّتي عندكما فأقرأها، فقالت أخته: لا أفعل ! قال: ويحك قد وقع في قلبي ما قلت، فأعطنيها أنظر إِليها، وأعطيك من المواثيق ألا أخونك حتَّى تحرزيها حيث شئت. قالت: إِنَّك رجس فـ {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *} [الواقعة: 79] فقم، فاغتسل، أو توضَّأ فخرج عمر؛ ليغتسل، ورجع إِلى أخته، فدفعت إِليه الصَّحيفة، وكان فيها طه، وسور أخرى، فرأى فيها:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
فلمَّا مرَّ بالرَّحمن الرَّحيم؛ ذُعِرَ، فألقى الصحيفة من يده، ثمَّ رجع إِلى نفسه فأخذها فإِذا فيها: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى *وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى *اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى *} [طه: 1 ـ 8].
فعظمت في صدره. فقال: مِنْ هذا فرَّت قريش ؟ ثمَّ قرأ. فلمَّا بلغ إِلى قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي *إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى *فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى *} [طه: 14 ـ 16].
قال: ينبغي لمن يقول هذا ألا يُعْبَدَ معه غَيْرُه، دلُّوني على محمَّد.
3ـ ذهابه لرسول الله وإِعلان إِسلامه:
فلمَّا سمع خبَّاب ـ رضي الله عنه ـ ذلك؛ خرج من البيت، وكان مختفياً، وقال: أبشر يا عمر ! فإِنِّي أرجو أن تكون قد سبقت فيك دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإِثنين: « اللهمَّ أعز الإِسلام بأحبِّ هذين الرَّجلين إِليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطَّاب ».
قال: دلُّوني على مكان رسول الله، فلمَّا عرفوا منه الصِّدق؛ فقالوا: هو في أسفل الصَّفا. فأخذ عمر سيفه، فتوشَّحه، ثمَّ عمد إِلى رسول الله وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلمَّا سمعوا صوته؛ وَجلوا، ولم يجترىء أحدٌ منهم أن يفتح له، لما قد علموا من شدَّته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا رأى حمزة ـ رضي الله عنه ـ وجَلَ القوم قال: ما لكم ؟ قالوا: عمر بن الخطَّاب ! قال: عمر بن الخطَّاب ؟ افتحوا له، فإِن يرد الله به خيراً، يُسلم، وإِن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هيناً، ففتحوا، وأخذ حمزة، ورجل اخر بعضديه حتَّى أدخلاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أرسلوه، ونهض إِليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ بحجزته، وبجمع ردائه ثمَّ جبذه جَبْذَة شديدةً، وقال: « ما جاء بك يا بن الخطاب ؟ والله ما أرى أن تنتهي حتَّى يُنزل الله بك قارعة »، فقال له عمر: يا رسول الله ! جئتك اُؤمن بالله، ورسوله، وبما جئت به من عند الله ! قال: فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أنَّ عمر قد أسلم، فتفرَّق أصحاب رسول الله من مكانهم، وقد عزُّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إِسلام حمزة بن عبد المطلب، وعرفوا: أنَّهما سيمنعان رسول الله، وينتصفون بهما من عدوِّهم.
4ـ حرص عمر على الصَّدع بالدَّعوة، وتحمُّله الصِّعاب في سبيلها:
دخل عمر في الإسلام بإِخلاصٍ متناهٍ، وعمِلَ على تأكيد الإِسلام بكلِّ ما أوتي من قوَّةٍ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! ألسنا على الحقِّ إِن متنا، وإِن حيينا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : « بلى، والَّذي نفسي بيده إِنَّكم على الحقِّ، إِن متّم، وإِن حييتم ». قال: ففيمَ الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحقِّ لَتَخرجنَّ ! وكان الرسول صلى الله عليه وسلم (على ما يبدو) قد رأى أنَّه قد ان الأوان للإِعلان، وأنَّ الدَّعوة قد غدت قويَّةً تستطيع أن تدفع عن نفسها، فأذن بالإِعلان، وخرج صلى الله عليه وسلم في صفَّيْن، عمر في أحدهما، وحمزة في الاخر، ولهم كديدٌ ككديد الطَّحين، حتَّى دخل المسجد، فنظرت قريش إِلى عمر، وحمزة، فأصابتهم كابةٌ لم تصبهم قطُّ، وسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: الفاروق.
لقد أعزَّ الله الإِسلام والمسلمين بإِسلام عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فقد كان رجلاً ذا شكيمة، لا يرام ما وراء ظهره، وامتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحمزة.
وتحدَّى عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ مشركي قريش، فقاتلهم حتَّى صلَّى عند الكعبة، وصلَّى معه المسلمون، وحرص عمر ـ رضي الله عنه ـ على أذيَّة أعداء الدَّعوة بكلِّ ما يملك. ونتركه يحدِّثنا عن ذلك بنفسه. قال رضي الله عنه: كنت لا أشاء أن أرى رجلاً من المسلمين، فذهبت إِلى خالي أبي جهل ـ وكان شريفاً فيهم ـ فقرعت عليه الباب، فقال: مَنْ هذا ؟ قلت: ابن الخطَّاب. فخرج إِليَّ، فقلت: أعلمت أنِّي قد صبوت ؟ قال: فعلت ؟ قلت: نعم ! قال: لا تفعل ! قلت: بلى ! قال: لا تفعل ! ثمَّ دخل، وأجاف الباب (أي: ردَّه) دوني، وتركني. قلت: ما هذا بشيءٍ. فذهبت إِلى رجلٍ من أشراف قريش، فقرعت عليه بابه، فقيل: من هذا ؟ قلت: ابن الخطَّاب، فخرج إِليَّ، فقلت: أشعرت أنِّي صبوت ؟ قال: أفعلت ؟ قلت: نعم ! قال: لا تفعل ! ودخل، فأجاف الباب دوني، فقلت: ما هذا بشيءٍ، فقال لي رجلٌ: أتحبُّ أن يُعلَم إِسلامُك ؟ قلت: نعم. قال: إذا جلس النَّاس في الحِجْرِ؛ جئت إِلى ذلك الرَّجل (جميل بن معمر الجمحي) فجلست إِلى جانبه، وقلت: أعلمت أنِّي صبوت ؟ فلمَّا جلس النَّاس في الحجر؛ فعلت ذلك، فقام فنادى بأعلى صوته: إِنَّ ابن الخطَّاب قد صبأ. وثار إِليَّ النَّاس يضربونني، وأضربهم.
وفي رواية عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: لمَّا أسلم عمر؛ لم تعلم قريش بإِسلامه، فقال: أيُّ أهل مكَّة أنقلُ للحديث ؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي. فخرج إِليه، وأنا معه، أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كلَّ ما رأيت، وسمعت. فأتاه، فقال: يا جميل ! إِنِّي قد أسلمت، فوالله ! ما ردَّ عليه كلمةً؛ حتى قام يجرُّ رداءه، وتبعه عمر، واتَّبعت أبي، حتَّى إِذا قام على باب المسجد؛ صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش ! ـ وهم في أنديتهم حول الكعبة ـ ألا إِنَّ عمر بن الخطاب قد صبأ. وعمر يقول مِنْ خلفه: كذب، ولكنَّني أسلمت، وشهدت أن لا إِله إِلا الله، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله. فثاروا إِليه، فوثب عمر على عتبة بن ربيعة، فبرك عليه، وجعل يضربه، وأدخل إِصبعيه في عينيه، فجعل عُتبة يصيح، فتنحَّى النَّاس عنه، فقام عمر يجعل لا يدنو منه أحدٌ إِلا أخذ شريفَ مَنْ دنا منه، حتَّى أحجم النَّاسُ عنه، واتبع المجالس الَّتي كان يجلسها بالكفر، فأظهر فيها الإِيمان، وما زال يقاتلهم حتَّى ركدت الشَّمس على رؤوسهم وفتر عمر، وجلس، فقاموا على رأسه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنَّا ثلاثمئة رجلٍ؛ لتركتموها لنا، أو تركناها لكم. فبينما هم كذلك؛ إِذ جاء رجلٌ عليه حلَّة حريرٍ، وقميصٌ مُوَشَّى، قال: ما بالكم ؟ قالوا: ابن الخطاب قد صبأ. قال: فَمَه ؟ امرؤ اختار ديناً لنفسه، أتظنُّون: أنَّ بني عديٍّ يُسلمون إِليكم صاحبهم ؟! فكأنَّما كانوا ثوباً انكشف عنه، فقلت له بالمدينة: يا أبت ! مَنِ الرَّجل ردَّ عنك القوم يومئذٍ ؟ قال: يا بني ! ذاك العاص بن وائل السَّهمي.
5ـ أثر إِسلامه على الدَّعوة:
قال عبد الله بن مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ: ما زلنا أعزَّةً منذ أسلم عمر، ولقد رأيتُنا، وما نستطيع أن نطوف بالبيت، ونصلِّي؛ حتَّى أسلم عمر، فلمَّا أسلم؛ قاتلهم حتَّى تركونا، فصلَّينا، وطفنا. وقال أيضاً: كان إِسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إِمارته رحمةً، لقد رأيتُنا وما نستطيع أن نصلِّي، ونطوف بالبيت؛ حتَّى أسلم عمر، فلمَّا أسلم قاتلهم حتَّى تركونا نصلِّي، وقال صهيب بن سنان: لمَّا أسلم عمر بن الخطَّاب، ظهر الإِسلام، ودعي إِليه علانيةً، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطُفنا بالبيت، وانتصفنا ممَّن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
ولقد صدق في عمر ـ رضي الله عنه ـ قول القائل:
أَعْنِي به الفَارُوقَ فَرَّق عَنْوةً بالسَّيْفِ بَيْنِ الكُفْرِ والإِيْمَانِ
هُوَ أَظْهَرَ الإسْلامَ بَعْدَ خَفَائِهِ وَمَحَا الظَّلاَمَ وَبَاحَ بالكِتْمَانِ
6ـ تاريخ إِسلامه، وعدد المسلمين يوم أسلم:
أسلم عمر ـ رضي الله عنه ـ في ذي الحِجَّة من السَّنة السَّادسة من النُّبوَّة، وهو ابن سبعٍ وعشرين سنة، وكان إِسلامه بعد إِسلام حمزة ـ رضي الله عنه ـ بثلاثة أيَّام، وكان المسلمون يومئذٍ تسعةً وثلاثين، قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلا تسعةٌ وثلاثون رجلاً، فكمَّلتهم أربعين، فأظهر الله دينه، وأعزَّ الإِسلام. (وروي): أنَّهم كانوا أربعين، أو بضعة وأربعين رجلاً، وإِحدى عشرة امرأةً، ولكنَّ عمر لم يكن يعرفهم كلَّهم؛ لأنَّ غالب من أسلم كان يخفي إِسلامه خوفاً من المشركين، ولا سيَّما عمر، فقد كان عليهم شديداً، فذكر: أنَّه أكملهم أربعين، ولم يذكر النِّساء؛ لأنَّه لا إِعزاز بهنَّ لضعفهنَّ.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي