الإثنين

1446-06-22

|

2024-12-23

الدَّوريات العمريَّة الليليَّة (العَسَسُ)؛ من وسائل حفظ الأمن الإجتماعي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الحادية والثلاثون

كان (العَسَسَ) هو نواةَ الشُّرطة، فقد ذكر بعض المؤرِّخين: أنَّ عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كان أميراً على العسس في عهد أبي بكرٍ، وأنَّ عمر بن الخطاب تولَّى هو نفسه العَسَسَ، وكان يستصحب معه أسلم مولاه، وربما استصحب عبد الرحمن بن عوف. والعسس: هو الطَّواف بالليل لتتبع اللُّصوص، وطلب أهل الفساد، ومن يُخشى شرُّهم. ومن الحق أن نعدَّه الخطوة الأولى في تنظيم مؤسسة الشُّرطة؛ لأنَّ المؤمنين كانوا يتولَّون حراسة أنفسهم، ومنع المنكر من بينهم في النَّهار، حتَّى إِذا ناموا؛ تولَّى السَّهر عنهم رجال العسس، ثمَّ لمَّا تكاثر المفسدون، وتظاهروا بالمنكر في وضح النَّهار؛ أحوج الأمر إِلى من يترصَّدهم نهاراً أيضاً، فأنشئت الشُّرطة.. فالشرطة إِذاً (عَسَسٌ دائمٌ) إِذا صح هذا التَّعبير.
كان الفاروق ـ رضي الله عنه ـ يقوم بنفسه على حراسة المسلمين، وقد ساعده ذلك على الإِلمام بواقع المجتمع الإِسلاميِّ، ففي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي يومئذٍ عاصمة الدَّولة الإِسلاميَّة الكبرى، وملتقى البشر، ومقرُّ الحكم ـ كان يسعى في دروبها ليلاً؛ ليرى بنفسه، ويسمع ما قد يتردَّد عماله في أن يحملوه إِليه، أو يفوت عليهم ما يحملوه إِليه، وكم وضع من القواعد، وكم عدَّل من القواعد، الَّتي وجد: أنَّ الواقع يفرض عليه وضعها، أو يفرض عليه تعديلها، وإِلغاءها، وإِليك بعض الأمثلة الدَّالة على ما ذهبتُ إِليه:

ـ النَّهي عن تعجيل فطام الصِّبيان:
عن أسلم مولى عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم المدينة رفقةٌ من تجَّارٍ، فنزلوا المصلَّى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم اللَّيلة ؟ قال: نعم. فباتا يحرسانهم، ويصلِّيان، فسمع عمر بكاء صبيٍّ فتوجَّه نحوه، فقال لأمِّه: اتقي الله، وأحسني إلى صبيِّك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان اخر الليل، سمع بكاء الصَّبيِّ، فأتى أمَّه فقال لها: ويحك ! إِنَّك أمُّ سوءٍ، مالي أرى ابنك لا يقرُّ منذ الليلة من البكاء ؟ فقالت: يا عبد الله ! إِنِّي أشغله عن الطَّعام فيأبى ذلك. قال: ولم ؟ قالت: لأنَّ عمر لا يفرض إِلا للمفطوم ـ وكان عمر قد فرض لكلِّ مفطومٍ رزقاً، أو عطاء ـ قال: وكم عمر ابنك هذا ؟ قالت: كذا، وكذا شهراً، فقال: ويحك لا تعجليه عن الفطام، فلمَّا صلَّى الصُّبح، وهو لا يستبين للنَّاس قراءته من البكاء، قال: بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين ! ثمَّ أمر مناديه فنادى: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإِنَّا نفرض لكلِّ مولودٍ في الإِسلام، وكتب بذلك إِلى الافاق.
ما أجملها من حادثةٍ ! وما أعظمها من عدالة ! وبذلك أصبح كلُّ مولودٍ مسجَّلاً في ديوان العطاء ويُفرض له من بيت مال المسلمين، لأنَّ بيت المال حقٌّ لكلِّ مسلمٍ، ولأنَّ المسؤول عنه إِنَّما هو أمينٌ، وقائمٌ عليه، لا يجوز له أن يصرف منه شيئاً في غير محلِّه، ولا أن يمنع منه حقّاً وجب فيه.
ـ تحديد مدَّة غياب الجنود عن زوجاتهم:
ومن ثمار عسس عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه خرج ذات ليلةٍ يطوف في المدينة، فسمع امرأةً تقول في ضيقٍ شديدٍ:
تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ تَسرِي كَوَاكِبُه وأرَّقني ألا ضَجِيعَ أُلاَعِبُه
أُلاَعبُه طَوْرَاً وَطَوْراً كَأنَّما بَدا قَمَراً في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حَاجِبُه
يُسَرُّ بِهِ مَنْ كَانَ يَلْهُو بِقُرْبِهِ لَطِيْفُ الحَشَا لاَ تَجْتَوِيْهِ أَقَارِبُه
فَوَاللهِ لَوْلاَ اللهُ لاَ شَيْءَ غَيْرُه لَنُقِّضَ مِنْ هذا السَّرِيرُ جَوَانِبُه
وَلكِنَّني أَخْشَى رَقِيْبَاً مُوَكَّلاً بأنْفُسِنَا لاَ يَفْتُرُ الدَّهْرَ كاتِبُه
فقال عمر: يرحمك الله ! ثمَّ أرسل إِليها بكسوةٍ، ونفقةٍ، وكتب في أن يقدم عليها زوجُها، وجاء في روايةٍ: ثمَّ خرج، فضرب الباب على حفصة ابنته ـ رضي الله عنها ـ فقالت: يا أمير المؤمنين ! ما جاء بك في هذه السَّاعة ؟ فقال: أي بنية ! كم صبر المرأة عن زوجها ؟ قالت: تصبر الشَّهر، والشَّهرين، والثَّلاثة، وفي أربعةٍ ينفد الصَّبرُ. فكتب عمر ألا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر. فهذه سياسة عمر في تحديد مدَّة غياب الجندي عن زوجته، ولم يخالف عمر ـ رضي الله عنه ـ في ذلك مخالفٌ.
وأمَّا الجنود الَّذين لم يلتزموا بالمدَّة؛ فقد وضع لهم الفاروق نظاماً قبل تحديد مدَّة الغياب، فبعد أن عرف عدد الغائبين غيبةً طويلةً، والَّذين لم ينفقوا على زوجاتهم في غيابهم، لمَّا عرف بأسمائهم كتب إِلى أمراء الجيوش أن يطلبوا هؤلاء، ويعرضوا عليهم الاتي: إِمَّا أن يرجعوا إِلى نسائهم، وإِما أن يبعثوا إِليهنَّ بنفقةٍ كافيةٍ، وإِما أن يطلِّقوا، وإِذا طلقوا؛ ألزموا ببعث نفقة ما مضى.
ـ حماية أعراض المجاهدين:
ومن ثمار تفقُّده لأحوال الرَّعية حمايةُ أعراض المجاهدين، فقد خرج ذات ليلةٍ يطوف في المدينة، فسمع شعراً فيه ريبةٌ، امرأةٌ في جوف اللَّيل تتمنَّى الوصول إِلى شربة خمرٍ، والقرب من شابٍ طالما تمنَّته، سواءٌ أكان التمنِّي حقّاً، أم كان تغزُّلاً فقط دون قصد شيءٍ، فظاهر ما قالت الرِّيبة، فقد تغنت بالبيت التَّالي:
هَلْ مِنْ سَبِيْلٍ إِلى خَمْرٍ فَأشْرَبَها هَلْ مِنْ سَبِيْلٍ إِلى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
سمع هذا عمر، فأصبح، وطلب نصر بن حجَّاج، وإِذا هو أصبح النَّاس وجهاً، وأحسنهم شعراً، فأمره بحلق شعره، فازداد جمالاً، فأمره بالعمامة فازداد جمالاً، فنفاه إِلى البصرة، خشية افتتان النِّساء به، وسدّاً للذَّريعة ومحافظةً على أعراض الجنود المرابطين في سبيل الله. وهذا الفعل من عمر يعطي لنا بعداً في سياسته العامَّة، وحكمته في تقديم المصلحة العامَّة، ففي جمال نصرٍ، وولوعه بنفسه، وغياب الجنود عن نسائهم، وتوفُّر الرَّاحة، والأمن في المدينة ذريعةٌ إِلى الوقوع في الفتنة، فأولى بهذا الشَّاب المتدلِّل أن ينتقل إِلى مدينةٍ عسكريَّةٍ علَّه يكتسب خبرةً في القتال، أو يستفيد ممَّا يراه من بطولات، وهمم الرِّجال، والبصرة ـ المدينة العسكريَّة آنذاك ـ أضمنُ لعلاج مثل هذا الشَّاب.
وخشيت المرأة الَّتي سمع منهـا عمر أن يبدر إِليها بشيءٍ، فدسَّت إِليه أبياتاً تقولُ فيها:
قُلْ لِلإِمَامِ الَّذِي تُخْشَى بَوَادِرُهُ مَالِيْ وَلِلْخَمْرِ أَوْ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
إِنِّي عَنَيْتُ أبا حَفْصٍ بِغَيْرِهِمَا شُرْبِ الحَلِيْبِ وَطَرْفٍ فَاترٍ سَاْجي
إِنَّ الهَوى زَمَّه التَّقوى فَقَيَّدَهُ حَتَّى أَقَرَّ بإِلجامٍ وإِسْرَاجِ
لاَ تَجْعَلِ الظَّنَّ حقّاً لاَ تُبَيِّنُهُ إِنَّ السَّبِيْلَ سَبِيْلُ الخَائِفِ الرَّاجِي
فبعث إِليها عمر ـ رضي الله عنه ـ: قد بلغني عنك خير، إِنِّي لم أخرجه من أجلك، ولكنِّي بلغني: أنَّه يدخل على النِّساء، فلست امنهنَّ، وبكى عمر، وقال: الحمد لله الذي قيَّد الهوى، وقد أقرَّ بإِلجامٍ، وإِسراج. ثمَّ إِن عمر كتب إِلى عامله بالبصرة كتاباً، فمكث الرَّسول عنده أيَّاماً، ثُمَّ نادى مناديه، ألا إِنَّ بريد المسلمين يريد أن يخرج، فَمَنْ كانت له حاجةٌ فليكتب، فكتب نصرُ بن حجَّاج كتاباً، ودسَّه في الكتب: بسم الله الرَّحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين سلامُ الله عليك، أمَّا بعد:
لَعَمْرِي لَئِنْ سَيَّرتَنِي أَوْ فَضَحْتَنِي وَمَا نِلْتَهُ منِّي عَلَيْكَ حَرَامُ
فَأصْبَحْتُ مَنْفِيَّاً عَلَى غَيْرِ رِيْبَةٍ وَقَدْ كَانَ لي بِالْمَكَّتَيْنِ مُقَامُ
أإِنْ غَنَّتِ الزَّلْفَاءُ يَوْمَاً بِمُنْيَةٍ وَبَعْضُ أَمَانِيِّ النِّساءِ غَرَامُ
ظَنَنْتَ بِيَ الظَّنَّ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ بقاءٌ فَمَالِي في النَّدِي كَلاَمُ
وَيمْنَعُنِي مِمَّا تَظُنُّ تَكَرُّمي وَابَاءُ صِدْقٍ سَالِفُونَ كِرَامُ
وَيَمْنَعُهَا مِمَّا تَظُنُّ صَلاَتُهَا وَحَالٌ لَهَا فِي قَوْمِهَا وَصِيَامُ
فَهَـذانِ حَالاَنَا فَهَلْ أَنْتَ رَاجِعي فَقَدْ جَبَّ مِنِّي كاهِلٌ وَسَنَامُ
إِمامَ الهُدَى لاَ تَبْتَلي الطَّرْدَ مُسْلِمَاً لَهُ حُرْمَةٌ مَعْرُوْفَةٌ وَزِمَامُ
فقال عمر: أَمَّا ولي سلطانٌ؛ فلا، فَمَا رجع إِلى المدينة إِلا بعد وفاة عمر، رضوان الله عليه.
ووقعت قصَّةٌ أخرى شبيهةٌ بهذه، واجهها الفاروق في طوافه باللَّيل أيضاً، فبينما هو ذات ليلةٍ يطوف في المدينة؛ إِذ سمع نساءً يتحدَّثن، ويتساءلن: أيُّ فتيان المدينة أصبحُ وجهاً ؟ فقالت إِحداهنَّ: أبو ذؤيب. فطلبه عمر، وإِذا هو من أجمل النَّاس، فقال له: أما إِنَّك لذئبهنَّ، اذهب فلن تساكنني أبداً ! فقال الفَتَى: أمَّا إِنْ كنت فاعلاً؛ فألحقني بابن عمِّي نصر بن الحجَّاج، وكان الاثنان من بني سليم، فألحقه بابن عمِّه.
وهذا الفعل العمريُّ يفرضه واقع الأمَّة، وينسجم مع شخصية الفاروق القويَّة الَّتي تستوعب طاقات الأفراد المتنوِّعة، وعهد الفاروق عهد تعبئةٍ، وتحشيدٍ للجيوش، وإِرسالها للقتال في سبيل الله لكلِّ القادرين عليه، فكيف يسمع عمر بهذين الشَّابين في المدينة وليس هناك ما يمنعهما من القتال، فإِخراجهما من المدينة أولى من تصفيف الشَّعر، ومجالسة النِّساء.
ـ أأنت تحمل عنِّي وزري يوم القيامة:
عن أسلم مولى عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: خرج عمر إِلى حَرَّة واقمٍ وأنا معه حتَّى إِذا كنا بصرار، إِذا نارٌ تؤرت ـ أي: تشعل ـ قال: يا أسلم ! إِنِّي أرى ها هنا ركباناً قصَّر بهم اللَّيل، والبرد، انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتَّى دنونا منهم، فإِذا بامرأةٍ معها صبيانٌ، وقدرٍ منصوبةٍ على نارٍ، وصبيانها يتضاغون (أي: يتصايحون) فقال عمر: السَّلام عليكم يا أهل الضوء ! وكره أن يقول: يا أصحاب النَّار ! فقالت: وعليكم السَّلام. فقال: أأدنو ؟ فقالت: ادن بخيرٍ، أو دع، فدنا منها، فقال: ما بالكم ؟ قالت: قصَّر بنا اللَّيل، والبرد. قال: وما بال هؤلاء الصِّبية يتضاغون ؟ قالت: الجوع، قال: وأي شيء في هذا القدر ؟ قالت: ماءٌ أسكتهم به حتَّى يناموا، واللهُ بيننا وبين عمر، فقال: أي رحمك الله ! وما يدري عمر بكم، قالت: يتولَّى أمرنا، ثمَّ يغفل عنَّا ؟! فأقبل عليَّ، فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدَّقيق، فأخرج عدلاً من دقيقٍ، وكبَّة شحمٍ، وقال: احمله عليَّ، قلت: أنا أحمله عنك، قال: أأنت تحمل وزري يوم القيامة ؟ لا أمَّ لك ! فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إِليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدَّقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذرِّي عليَّ أنا أحرُّ لك، وجعل ينفخ تحت القدر، فرأيت الدُّخان يخرج من خلال لحيته حتَّى طبخ لهم، ثمَّ أنزلها، وقال: ابغيني شيئاً، فأتته بصحفةٍ فأفرغها فيها، فجعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم ـ أي: أبسطه حتَّى يبرد ـ فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك، وقام، وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت بهذا الأمر أولى من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً، إِذا جئت أمير المؤمنين، وجدتني هناك إِن شاء الله ! ثمَّ تنحَّى ناحيةً عنها، ثمَّ استقبلها فربض مربضاً، فقلت له: لك شأن غير هذا ؟ فلا يكلمني، حتَّى رأيت الصبية يصطرعون، ثمَّ ناموا، وهدؤوا، فقام يحمد الله، ثمَّ أقبل عليَّ فقال: يا أسلم ! إِن الجوع أسهرهم، وأبكاهم، فأحببت ألا أنصرف حتَّى أرى ما رأيت.
وهذا حافظ إِبراهيم يصوِّر لنا هذا المشهد العظيم:
وَمَنْ رَاهُ أَمَامَ القِدْرِ مُنْبَطِحَاً والنَّارُ تَأْخُذُ مِنْهُ وَهُوَ يُذْكِيْهَا
وَقَدْ تَخَلَّلَ في أَثْنَاءِ لِحْيَتِهِ مِنْهَا الدُّخَانُ وَفُوْهُغَابَ في فِيْهَا
رَأَى هُنَاكَ أَمِيْرَ المُؤمنين عَلَى حالٍ تَرُوعُ ـ لعمر الله ـ رَائِيْهَا
يَسْتَقْبِلُ النَّارَ خَوْفَ النَّارِ فِيْ غَدِهِ وَالْعَيْنُ مِنْ خَشْيَةٍ سَالَتْ ماقِيْهَا
ـ يا أمير المؤمنين ! بشِّر صاحبك بغلامٍ:
بينما عمر يعسُّ ذات ليلةٍ؛ إِذ مرَّ برحبةٍ من رحاب المدينة فإِذا هو بيت شعرٍ لم يكن بالأمس، فدنا منه، فسمع أنين امرأةٍ، ورأى رجلاً قاعداً، فدنا منه، فسلَّم عليه، ثمَّ قال: من أنت ؟ قال: رجل من أهل البادية جئت إِلى أمير المؤمنين أصيب من فضله، قال: ما هذا الصَّوت؛ الذي أسمعه في البيت ؟ قال: رحمك الله، امضِ لحاجتك، قال: عليَّ ذاك؛ ما هو ؟ قال: امرأة تمخض، قال: هل عندها أحدٌ ؟ قال: لا ! فانطلق حتَّى أتى منزله، فقال لامرأته أمِّ كلثوم بنت عليٍّ: هل لك في أجرٍ ساقه الله إِليك ؟ قالت: وما هو ؟ قال: امرأةٌ غريبةٌ تمخض، ليس عندها أحدٌ. قالت: نعم، إِن شئت ؟ قال: فخذي معك ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق، والدُّهن، وجيئي ببُرمةٍ (أي: قدر) وشحمٍ، وحبوبٍ. فجاءت به، فقال: انطلقي، وحمل البُرمة، ومشت خلفه حتَّى انتهى إِلى البيت، فقال لها: ادخلي إِلى المرأة، وجاء حتَّى قعد إِلى الرَّجل فقال له: أوقد لي ناراً، ففعل، فأوقد تحت البُرمة حتَّى أنضجها، وولدت المرأة، فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين ! بشر صاحبك بغلامٍ.
فلمَّا سمع الأعرابيُّ بأمير المؤمنين، كأنَّه هابه، فجعل يتنحَّى عنه، فقال له: مكانك كما أنت، فحمل البرمة، فوضعها على الباب، ثمَّ قال: أشبعيها، ففعلت ثمَّ أخرجت البُرمة فوضعتها على الباب، فقام عمر، فأخذها، فوضعها بين يدي الرَّجل، وقال: كل، ويحك ! فإِنَّك قد سهرت من الليل. وقال لامرأته: اخرجي، وقال للرَّجل: إِذا كان غداً فائتنا نأمر لك بما يصلحك. فلمَّا أصبح؛ أتاه، ففرض لابنه في الذُّرِّيَّة، وأعطاه.
ـ والله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلا:
عن أسلم مولى عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما أنا مع عمر بن الخطَّاب، وهو يعسُّ بالمدينة؛ إِذ عيي، فاتكأ على جانب جدارٍ في جوف اللَّيل، وإِذا امرأةٌ تقول لابنتها: يا بنتاه ! قومي إِلى ذلك اللَّبن، فامذقيه بالماء، قالت: يا أمَّاه ! أو ما علمت بما كان من عزمة أمير المؤمنين ؟ قالت: وما كان عزمته ؟ قالت: إِنَّه أمر مناديه، فنادى: لا يشاب اللَّبن بالماء، فقالت لها: يا بنيَّة ! قومي إِلى اللَّبن فامذقيه بالماء، فإِنَّك بموضعٍ لا يراك عُمَرُ، ولا منادي عمر، فقالت الصَّبيَّة: والله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلا ! وعمر يسمع كلَّ ذلك، فقال: يا أسلم ! علِّم الباب، واعرف الموضع، ثمَّ مضى في عسسه، فلمَّا أصبح قال: يا أسلم ! امض إِلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها، وهل لهم من بعلٍ ؟ فأتيتُ الموضع، فنظرت، فإذا الجارية أيِّمٌ لا بعل لها، وإِذا تيك أمُّها، وإِذا ليس لها رجلٌ، فأتيت عمر، فأخبرته، فدعا ولده، فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إِلى امرأةٍ، فأزوجه ؟ ولو كان بأبيكم حركةٌ إِلى النِّساء ما سبقه منكم أحدٌ إِلى هذه الجارية، فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصمٌ: يا أبتاه لا زوجة لي، فزوجني، فبعث إِلى الجارية، فزوَّجها من عاصم، فولدت له بنتاً، وولدت البنت بنتاً، وولدت البنت عمر بن العزيز رحمه الله تعالى.
قال ابن عبد الهادي: قال بعضهم: هكذا وقع في روايةٍ، وهو غلطٌ، وإِنَّما الصَّواب: فولدت لعاصم بنتاً، وولدت البنت عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وهكذا كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يتفقَّد الرَّعيَّة بنفسه، ويعسُّ في الليالي، ويقوم بواجبه نحو رعيته محتسباً عند الله تعالى أجره، ولم يكن رضي الله عنه في حرصه على الإلمام بواقع دولته يقتصر على العاصمة وحدها، بل كان يمتدُّ إِلى جميع أرجاء الدَّولة الإِسلاميَّة، كما سنرى في الصَّفحات القادمة بإِذن الله تعالى
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022