الإثنين

1446-06-22

|

2024-12-23

الفاروق رضي الله عنه واهتمامه الكبير بالعبادات

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة التاسعة والعشرون

فهم الفاروق ـ رضي الله عنه ـ من كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم: أنَّ الدِّين كلَّه داخلٌ في العبادة، والدِّين منهاج الله، جاء؛ ليسع الحياة كلَّها، وينظِّم جميع أمورها من أدب الأكل، والشُّرب، وقضاء الحاجة إِلى بناء الدَّولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال وشؤون المعاملات، والعقوبات، وأصول العلاقات الدَّوليَّة في السِّلم، والحرب، وأنَّ الشَّعائر التعبديَّة من صلاةٍ، وصومٍ، وزكاةٍ، وحجٍّ، لها أهمِّيَّتها، ومكانتها، ولكنَّها ليست العبادة كلَّها، بل هي جزءٌ من العبادة الَّتي يريدها الله تعالى، وتطبيق هذا الفهم للعبادة في دنيا النَّاس من شروط التَّمكين في الأرض، كما أنَّ العبادة لها أهمِّيَّةٌ في حياة الإِنسان في تثبيت الاعتقاد، وتثبيت القيم الأخلاقيَّة، وإِصلاح الجانب الاجتماعيِّ. وإِليك بعض اهتمامات الفاروق بشعائر الصَّلاة، والزَّكاة، والحجِّ، والصَّوم، والذِّكر، وحرصه على تحقيق معاني العبادة في نفسه، وفي المجتمع الإِسلاميِّ.
ـ الصَّلاة:
كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين بالصَّلاة، ويبالغ في الإِنكار على من يتخلَّف عن الجماعة، ويشتدُّ نكيره على تاركها، وسار الصِّدِّيق على هديه، ولما تولَّى الفاروق الخلافة؛ اهتمَّ بأمر الصَّلاة، وحمل النَّاس عليها، وتعقَّب تاركها، وكتب إِلى عماله: إِنَّ أهمَّ أمركم عندي الصَّلاة، فمن حفظها، وحافظ عليها؛ حفظ دينه، ومن ضيَّعها؛ فهو لما سواها أضيع. وكان رضي الله عنه شديد الحرص على الخشوع في الصَّلاة، فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: صلَّيت خلف عمر، فسمعت حنينه من وراء ثلاثة صفوفٍ.
وجاء في روايةٍ: أنَّه قرأ في صلاة الفجر: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وبكى حتّى سُمِع نشيجُه من اخر الصُّفوف.
وقد قال رضي الله عنه لمن يعبث في صلاته: لو خشع قلب هذا؛ لخشعت جوارحه.
وكان رضي الله عنه إذا أبطأ عليه خبر الجيوش قنت.
وكان يدعو للمجاهدين في صلاته، ويقنت لذلك، فعندما قاتل أهل الكتاب؛ قنت عليهم في الصَّلاة المكتوبة، وكان رضي الله عنه يربي النَّاس، ونفسه على الاهتمام بأمر الصَّلاة: فرائضها، وسننها، ويرشد النّاس إِلى السُّنَّة، وينهاهم عن البدع، فعندما تأخَّر رضي الله عنه في صلاة المغرب حتّى طلع نجمان بسبب شغله ببعض الأمور؛ أعتق رقبتين بعد الصَّلاة، وكان يرى الجمع بين صلاتين من غير عذرٍ من الكبائر، وكان ينهى من يصلِّي بعد العصر، وكان يؤنِّب من تأخَّر عن التقدُّم لصلاة الجمعة، فعن سالم بن عبد الله، وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم ـ: أنَّ عمر بن الخطاب بينما هو قائمٌ في الخطبة يوم الجمعة؛ إِذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأوَّلين من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فناداه عمر: أيَّة ساعةٍ هذه ؟ قال: إِنِّي شغلت، فلم أنقلب إِلى أهلي حتى سمعت التَّأذين، فلم أزد أن توضَّأت، فقال: والوضوء أيضاً ؟! وقد علمتَ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغُسل.
وكان رضي الله عنه يمنع رفع الأصوات في المسجد، فعن السَّائب بن يزيد، قال: كنت قائماً في المسجد، فحصبني رجلٌ، فنظرت فإِذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما ؟ أو: من أين أنتما ؟ قالا: من أهل الطَّائف، قال: لو كنتما من أهل البلد؛ لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان رضي الله عنه يعظِّم توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا استأذنت أحدكم امرأتُه أن تأتي المسجد فلا يمنعها » قال: وكانت امرأة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تصلِّي في المسجد، فقال لها: إِنَّك لتعلمين ما أحبُّ. فقالت: والله لا أنتهي حتى تنهاني! قال: فطُعِنَ عمر، وإِنَّها لفي المسجد.
فهذا الخبر يدلُّ على تعظيم أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ لأمور الشَّريعة ووقوفه عند كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قدَّم تنفيذ ذلك على ما تحبُّه نفسه.
وكان رضي الله عنه يحبُّ الصَّلاة في كبد الليل ـ يعني: وسط اللَّيل ـ وكان يصلِّي ما شاء الله حتّى إِذا كان من اخر اللَّيل؛ أيقظ أهله، ويقول: الصَّلاة ! الصَّلاة ! ويتلو هذه الآية {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى *} [طه: 132] ، وقد قام ذات ليلةٍ، فغشيه همٌّ عظيمٌ من تفكيره في أمور النَّاس، فما استطاع أن يصلِّي، وما استطاع أن يرقد، فقد قال: فواللهِ ما أستطيع أن أصلِّي، ولا أستطيع أن أرقد ! وإِنِّي لأفتتح السُّورة فما أدري أفي أوَّلها أنا، أم في اخرها، فلمَّا سئل: ولم يا أمير المؤمنين ؟ قال: من همِّي بالنَّاس.
وكان يعوِّض ما فاته من قيام باللَّيل بالنَّهار، فقد روى رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: « مَنْ نام عن حزبه، أو عن شيءٍ منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظُّهر؛ كتب له كأنَّما قرأه من اللَّيل ». وكان رضي الله عنه يتمنّى أن يكون مؤذِّناً، فقد قال: لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة؛ لأذَّنت. وكان كثير الدُّعاء، والتَّضرُّع لله ـ عزَّ وجلَّ ـ ومن أدعيته، وأقواله في شأن الدُّعاء: اللَّهُمَّ اجعل عملي كلَّه صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئاً! ومن دعائه أيضاً: اللَّهُمَّ إِن كنت كتبتني شقيّاً فامحني، واكتبني سعيداً ! فإِنَّك تمحو ما تشاء، وتثبت.
وكان يقول: إِنِّي لا أحمل همَّ الإِجابة، وإِنما أحمل همَّ الدُّعاء، فإِذا أُلهِمت الدُّعاء؛ فإِنَّ الإِجابة معه، وكان يحثُّ النَّاس على الاقتراب من المطيعين، ويقول: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإِنَّهم تتجلّى لهم أمورٌ صادقةٌ.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يحبُّ التذكير بالله، فقد كان يقول لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ: يا أبا موسى ! ذكِّرنا ربَّنا. فيقرأ، ويستمع عمر، ومن معه، فيبكون.
وكان يحبُّ الجلوس مع أهل الذِّكر، فعن أبي سعيدٍ مولى أبي أسيد قال: كان عمر يعسُّ في المسجد بعد العشاء، فلا يرى فيه أحداً إِلا أخرجه، إِلا رجلاً قائماً يصلِّي، فمرَّ بنفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبي بن كعب، فقال: مَنْ هؤلاء ؟ قال: نفرٌ من أهلك يا أمير المؤمنين ! قال: ما خلَّفكم بعد الصَّلاة ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. فجلس معهم، ثمَّ قال لأدناهم: خذ في الدُّعاء، فدعا، فاستقر أهم رجلاً رجلاً حتَّى انتهى إِليَّ، وأنا بجانبه، فقال: هات ! فَحُصِرْتُ، وأخذني أَفْكَلُ، فقال: قل، ولو أن تقول: اللَّهمَّ اغفر لنا ! اللَّهُمَّ ارحمنا ! قال: ثمَّ أخذ عمر في الدعاء، فما كان أحدٌ أكثر دمعةً، ولا أشدَّ بكاءً منه، ثمَّ قال: تفرَّقوا الان.
ـ التَّراويح:
أوَّل من جمع النَّاس على صلاة التَّراويح هو عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ وكتب بذلك إِلى البلدان، وسبب ذلك: أنَّ الفاروق خرج في ليلةٍ من ليالي رمضان إِلى المسجد فإِذا النَّاس أوزاعٌ متفرِّقون، يصلِّي الرَّجل لنفسه، ويصلِّي الرَّجل، فيصلِّي بصلاته الرَّهط. فقال عمر: إِنِّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارأىٍ واحدٍ؛ لكان أمثل. ثمَّ عزم، فجمعهم على أبي بن كعبٍ، قال الرَّاوي عبد الرحمن بن عبد القاري: ثم خرجت معه ليلةً أخرى، والنَّاس يصلُّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والَّتي ينامون عنها أفضل من الَّتي يقومون ـ يريد اخر اللَّيل ـ وكان النَّاس يقومون أوَّله، ولا يتوهَّم متوهِّمٌ: أنَّ التَّراويح من وضع عمر، ولا أنَّه أوَّل من وضعها، بل كانت موضوعةً من زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكن عمر ـ رضي الله عنه ـ أوَّل من جمع النَّاس على قارأىٍ واحدٍ فيها، فإِنَّهم كانوا يصلُّون لأنفسهم، فجمعهم على قارأىٍ واحدٍ، وأمَّا دليل أصلها من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحثُّ النَّاس على قيام شهر رمضان، فقد قال: « مَنْ قام رمضان إِيماناً، واحتساباً؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه ».
وعن عروة بن الزُّبير: أنَّ عائشة ـ رضي الله عنها ـ أخبرته: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف اللَّيل، فصلَّى في المسجد، وصلَّى رجالٌ بصلاته، فأصبح النَّاس فتحدَّثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلَّى فصلُّوا معه، فأصبح النَّاس فتحدَّثوا فكثر أهل المسجد من اللَّيلة الثَّالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى فصلُّوا بصلاته، فلمَّا كانت اللَّيلة الرَّابعة عَجَزَ المسجدُ عن أهله؛ حتَّى خرج لصلاة الصُّبح، فلمَّا قَضَى الفَجْرَ أقبل على النَّاسِ فتشهَّد، ثمَّ قال: « أمَّا بعد فإِنَّه لم يَخْفَ عليَّ مكانُكم، ولكنِّي خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها ». فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، وأمَّا قول عمر بن الخطَّاب: نعم البدعة هذه، إِنَّما سمَّاها بدعةً، فإِنَّما ذلك لأنَّه بدعةٌ في اللغة؛ إِذ كلُّ أمرٍ فُعِلَ على غير مثالٍ متقدِّمٍ يسمَّى في اللغة بدعةً، وما فعله الفاروق من جمع النَّاس على إِمامٍ في صلاة التَّراويح، وتعميم ذلك في الولايات يدلُّ على حبِّه، وولعه بالنِّظام.
ـ الزَّكاة، والحجُّ، ورمضان:
اهتمَّ الفاروق بالزَّكاة، ونظم هذه الفريضة، وأصبحت من ضمن مصادر دخل الدَّولة، وسنتحدث عن هذه الفريضة عند حديثنا عن المؤسَّسة الماليَّة بإِذن الله تعالى. وأمَّا الحج؛ فقد كان يحجُّ بالنَّاس خلال فترة خلافته. وقيل: حجَّ عشر سنين؛ أي فترة خلافته كلِّها. وقيل: تسع سنين منها.
ومن واجبات الخليفة أو الولاة الَّذين ينوبون عنه في الولايات أمورٌ، منها:
ـ إِشعار النَّاس بأوقات الحجِّ، والخروج إِلى المشاعر.
ـ ترتيبهم للمناسك وفق الشَّرع.
ـ تقديره للمواقف بمقامه فيها.
ـ اتِّباعه في الأركان المشروعة.
ـ إِمامتهم في الصَّلوات، وإِلقاؤه الخطب المشروعة.
وكان رضي الله عنه يحثُّ النَّاس على الحجِّ ويأمرهم بذلك حتَّى قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إِلى هذه الأمصار، فينظروا إِلى كلِّ من كان عنده جِدَةٌ ـ أي: سَعَةٌ ـ فلم يحجَّ، فيضربوا عليهم الجزية، وكان ـ رضي الله عنه ـ قد اجتهد بحيث يكون البيت معموراً في غير أشهر الحجِّ، فقد كان النَّاس في عهد أبي بكرٍ، وعمر يقتصرون على العمرة في أشهر الحجِّ، ويتركون سائر الأشهر، لا يعتمرون فيها من أمصارهم، فصار البيت يعرى عن العمَّار من أهل الأمصار سائر الحول، فأمرهم عمر بن الخطَّاب بما هو أكمل لهم بأن يعتمروا في غير أشهر الحجِّ، فيصير البيت مقصوداً معموراً في أشهر الحجِّ، وغير أشهر الحجِّ، وهذا الذي اختاره لهم عمر هو الأفضل، حتَّى عند القائلين بأن التمتُّع أفضل من الإِفراد والقران كالإِمام أحمد، وغيره، وقد ثبت عنه بأنَّه: كان يتصدَّق كلَّ عامٍ بكسوة الكعبة، ويقسمها بين الحجَّاج.
وأمَّا الصِّيام؛ فقد سار فيه على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه: أنَّه أفطر في يوم غيمٍ ثمَّ طلعت الشَّمس فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: الخطب يسير، وقد اجتهدنا، وعندما بلغ عمر: أنَّ رجلاً يصوم الدَّهر؛ أتاه، فعلاه بالدِّرَّة، وجعل يقول: كل يا دهريُّ! فقد كان رضي الله عنه كثير التعبُّد والاجتهاد في الطَّاعات، فإِنَّه كان من الصَّلاة إِلى الغاية القصوى، والصَّوم أخذ منه غايته، وخصوصاً في اخر عمره، والصَّدقة أكثر منها، والحجُّ كان لمّا ولِّي الخلافة يحجُّ كلَّ عام، والجهاد غزا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم جميع المشاهد، وغزا بعده، وجميع ما وقع في خلافته من الغزوات، والفتوحات، فله أجره؛ لأنَّه سببه، وكان من أهل الذِّكر، فقد قال رضي الله عنه: عليكم بذكر الله، فإِنَّه شفاءٌ، وإِيَّاكم وذكر النَّاس، فإِنَّه داء. وكان يقول: خذوا بحظِّكم من العُزلة.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022