الفاروق رضي الله عنه واهتمامه بالأسواق والتِّجارة؛ إجراءات حازمة ونصائح سديدة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثلاثون
حرص الفاروق على تفقُّد أحوال المتعاملين في السُّوق، وحملهم على التَّعامل بالشَّرع الحنيف، وكان يولِّي غيره على أمر السوق، فقد ولَّى عمر السائب بن يزيد ـ رضي الله عنه ـ سوق المدينة، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وغيرهم، ويلاحظ الباحث: أنَّ نظام الحِسْبَة في الدَّولة الإِسلاميَّة نشأ طبقاً لقواعد الشَّريعة الإِسلاميَّة، وتطوَّر مع تطوُّر المجتمع الإِسلاميِّ، حتَّى أصبح ولايةً من ولايات الإِسلام، لها شروطٌ يتعيَّن توافرها في متولِّيها، وشروطٌ فيمن يحتسب عليه، وشروطٌ في الأعمال الَّتي يحتسب فيها.
وقد ثبت: أنَّ الفاروق ـ رضي الله عنه ـ كان شديد العناية بالاحتساب في مجال السُّوق، فقد كان يطوف في الأسواق حاملاً دِرَّته معه، يؤدِّب بها من راه مستحقّاً لذلك، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت على عمر ـ رضي الله عنه ـ إِزاراً فيه أربع عشرة رقعةً؛ إِنَّ بعضها لأدم، وما عليه قميص، ولا رداءٌ، معتمٌّ، معه الدِّرَّة، يطوف في سوق المدينة. ونقل الحافظ الذَّهبيُّ عن قتادة قوله: كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يلبس ـ وهو خليفة ـ جبَّةً من صوف مرقوعاً بعضها بأدمٍ، ويطوف في الأسواق، على عاتقه دِرَّةٌ يؤدِّب النَّاس بها.
ومن احتسابه في مجال السُّوق ما رواه الإِمام مسلمٌ عن مالك بن أوس بن الحدثان: أنَّه قال: أقبلت أقول: مَنْ يصطرف الدَّراهم ؟ فقال طلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنه ـ: وهو عند عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ أرنا ذهبك، ثمَّ ائتنا إِذا جاء خدمنا، نعطك وَرِقك، فقال عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ: كلا، والله لتعطينه ورِقه، أو لتردنَّ إِليه ذهبه ! فإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الورِق بالورِق رباً إِلا هاء، وهاء، والذَّهب بالذَّهب رباً إِلا هاء، وهاء، والبرُّ بالبرِّ رباً إِلا هاء، وهاء، والشَّعير بالشَّعير رباً إِلا هاء وهاء، والتَّمر بالتَّمر رباً إِلا هاء، وهاء ».
ومن احتسابه في مجال السُّوق أيضاً: أنَّه رأى رجلاً قد شاب اللَّبن بالماء للبيع، فأراقه. وكان رضي الله عنه يمنع الاحتكار في أسواق المسلمين، فقد سأل عمر حاطب بن أبي بلتعة: كيف تبيع يا حاطب ؟! فقال: مدَّين بدرهمٍ. فقال: تبتاعون بأبوابنا، وأفنيتنا، وأسواقنا، تقطعون في رقابنا، ثمَّ تبيعون كيف شئتم، بع صاعاً ـ والصَّاع أربعة أمداد ـ وإِلا فلا تبع في سوقنا، وإِلا فسيروا في الأرض، واجلبوا، ثمَّ بيعوا كيف شئتم.
وخرج مرَّةً إِلى السُّوق، فرأى ناساً يحتكرون بفضل أذهابهم. فقال عمر: لا ونعمة عينٍ ! يأتينا الله بالرِّزق؛ حتَّى إِذا نزل في سوقنا؛ قام أقوامٌ فاحتكروا بفضل أذهابهم عن الأرملة، والمسكين، حتَّى إِذا خرج الجلاب، باعوا على نحو ما يريدون من التحكُّم ؟ ولكن أيُّما جالبٌ جلب بجملٍ على عموده كتده في الشِّتاء، والصَّيف حتَّى ينزل سوقنا؛ فذلك ضيف عمر، فليبعه كيف شاء، وليمسك كيف شاء. وعن مسلم بن جندب قال: قدم المدينة طعامٌ، فخرج أهل السُّوق إِليه، فابتاعوه، فقال لهم عمر: أفي أسواقنا تتَّجرون ؟ أشركوا الناس، أو اخرجوا، فاشتروا، ثمَّ ائتوا فبيعوا.
وعمر ـ رضي الله عنه ـ لا يقصِر الاحتكار على أقوات النَّاس، والبهائم، ولكنَّه يجعله عامّاً في كل ما يضرُّ بالنَّاس فقدُه، فقد روى مالكٌ في الموطَّأ: أنَّ عمر بن الخطَّاب قال: لا حكرة في سوقنا، ولا يعمد رجال بأيديهم فضول أذهاب إلى رزق الله نزل بساحتنا، فيحتكرون علينا، ولكن أيُّما جالب جلب على عمود كتده في الشِّتاء والصَّيف، فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء، وليمسك كيف شاء.
وتفيد النُّصوص الَّتي ذكرت: أنَّ الغاية من الاحتكار هي التحكُّم في الأسعار، ممَّا يؤثِّر على الفقير، والأرملة، واليتيم، وهذا واضحٌ من قول عمر لحاطب بن أبي بلتعة ـ وكان يبيع مدَّين بدرهمٍ ـ: تبتاعون بأبوابنا، وأفنيتنا، وأسواقنا تقطعون في رقابنا، ثمَّ تبيعون كيف شئتم !! بع صاعاً ـ والصَّاع أربعة أمداد ـ وقوله لأهل السُّوق الَّذين يحتكرون: يأتينا الله بالرِّزق، حتَّى إِذا نزل بسوقنا؛ قام أقوامٌ فاحتكروا بفضل أذهابهم على الأرملة، والمسكين، حتَّى إذا خرج الجلاب باعوا على نحو ما يريدون من التحكُّم. فأنكر ذلك عليهم أشدَّ إنكارٍ.
وكان رضي الله عنه يتدخَّل لفرض السِّعر المناسب للسِّلع الضَّرورية عندما تدعو الحاجة إِلى هذا التدخُّل حمايةً للمستهلكين، وللتُّجار، فقد جاء رجلٌ بزيتٍ فوضعه في السُّوق، وجعل يبيع بغير سعر النَّاس، فقال له عمر: إِمَّا أن تبيع بسعر السُّوق، وإِمَّا أن ترحل عن سوقنا، فإِنَّا لا نجبرك على سعرٍ. فنحَّاه عنهم.
ـ إِلزام التُّجار بمعرفة الحلال والحرام في البيوع:
كان الفاروق ـ رضي الله عنه ـ يضرب بالدِّرَّة مَنْ يقعد في السُّوق، وهو لا يعرف الأحكام، ويقول: لا يقعد في سوقنا مَن لا يعرف الرِّبا، وكان يطوف بالأسواق، ويضرب بعض التُّجار بالدِّرَّة، ويقول: لا يبع في سوقنا إِلا من تفقَّه، وإِلا أكل الرِّبا شاء، أو أبى. فكلُّ شؤون الحكم كانت محلَّ اهتمام عمر، لا يطغى جانبٌ على جانبٍ، فلا يختلُّ الحال بين يدي الحاكم، إِنَّه يقعِّد للتِّجارة القواعد الَّتي تصلح للأسواق، وتنظِّم التَّداول، وتضمن الثَّبات، والاستقرار، فلا غبن، ولا غشَّ، ولا احتكار، ولا أسواق سوداء، أو زرقاء، ولا جهل بما يجوز، وما لا يجوز في عالم التِّجارة، يُصدر قراراً موجزاً شاملاً يقضي على كلِّ المفاسد، ويضبط كلَّ شيء: من لم يتفقه فلا يتَّجر في سوقنا.
وهذا يشبه صدور قانون من قوانين اليوم، يقول مثلاً: لا يزاول العمل الفلاني من لم يكن حاصلاً على إِجازة كذا، وكذا في علمٍ من العلوم، وتُعنى دول اليوم بتنظيم الأسواق، والإِشراف عليها، وتقوم الغرف التِّجاريَّة، أو ما يقوم مقامها على ترشيد، وإصلاح، وضبط كلِّ ما من شأنه ضبط الأسواق، وراحة الجمهور.
وكان لعمر ـ رضي الله عنه ـ فضل السَّبق في ذلك، فلم يترك الأمر فوضى في الأسواق، ولكن أقام عليها مشرفين يراقبون، وينظِّمون، ويحافظون، فقد استعمل سليمان بن حثمة على الأسواق، كما كان السَّائب بن يزيد عاملاً له على سوق المدينة مع عبد الله بن عتبة بن مسعود، فهناك مشرفٌ عامٌّ على الأسواق، ومشرفون على كلِّ سوقٍ على حدة يعملون تحت إِمرته، ومن المقطوع بنفعه: أنَّ العناية بالأسواق تنظيماً، وتيسيراً لها دخلٌ كبيرٌ في إِراحة النَّاسِ من كثيرٍ من العناء في الحصول على حاجاتهم، فإِذا اهتمَّ الحاكم بهذه الناحية الاهتمام الَّذي يستحقُّه كان له من الله الأجر.
وأثبتت تصرُّفات عمر ـ رضي الله عنه ـ السليمة، الصَّحيحة، العمليَّة، الدَّقيقة: أنَّ الإِسلام صالحٌ لكلِّ عصرٍ، وفي كلِّ مكانٍ في جميع أنحاء العالم، يدفع الأمم المتأخِّرة إِلى التقدُّم، ويحفظ الأمم المتقدِّمة من التدهور والانهيار، لا يسدُّ الطريق على من يريد التقدُّم أن يتقدم، ولا يترك الغافل في سباته العميق.
ـ أمره النَّاس بالسَّعي وحثُّهم على التكسُّب:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يحثُّ النَّاس على السَّعي، وكسب لقمة العيش، فعن محمَّد بن سيرين، عن أبيه، قال: شهدت مع عمر بن الخطَّاب المغرب فأتى عليَّ، ومعي رُزيمةٌ فقال: ما هذا معك ؟ فقلت: رزيمةٌ أقوم في هذا السوق، فأشتري، وأبيع، فقال: يا معشر قريش ! لا يغلبنَّكم هذا وأشباهه على التِّجارة، فإِنَّها ثلث الإِمارة. وروي أيضاً عن الحسن، قال: قال عمر: مَنِ اتَّجر في شيء ثلاث مرَّات، فلم يصب منه شيئاً، فليتحوَّل إِلى غيره. وقال عمر: تعلَّموا المهنة، فإِنَّه يوشك أن يحتاج أحدكم إلى مهنةٍ.
وقال: لولا هذه البيوع؛ صرتم عالةً على النَّاس.
وقال: مكسبةٌ فيها بعض دناءةٍ خير من مسألة النَّاس. وقال: إِذا اشترى أحدكم جملاً؛ فليشتره عظيماً سميناً، فإِن أخطأه خيره؛ لم يخطئه سوقه. وقال: يا معشر الفقراء ! ارفعوا رؤوسكم، واتَّجروا، فقد وضح الطَّريق، ولا تكونوا عيالاً على النَّاس.
وقال: لا يقعد أحدكم عن طلب الرِّزق، ويقول: اللهمَّ ارزقني ! وقد علم أنَّ السَّماء لا تمطر ذهباً، ولا فضةً. وإِن الله تعالى إِنَّما يرزق النَّاس بعضهم من بعضٍ، وتلا قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [الجمعة: 10] .
وكان رضي الله عنه إِذا رأى غلاماً، فأعجبه سأل: هل له حرفةٌ ؟ فإِن قيل: لا؛ قال: سقط من عيني.
وقال: ما جاءني أجلي في مكانٍ ما عدا الجهاد في سبيل الله أحبُّ إِليَّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي رحلي، أطلب من فضل الله، وتلا: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ} [المزمل: 20] .
ـ خشية عمر مِنْ ترك أعيان المسلمين للتِّجارة:
دخل عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ السُّوق في خلافته فلم ير فيه في الغالب إِلا النَّبط، فاغتمَّ لذلك، فلما أن اجتمع النَّاس؛ أخبرهم بذلك، وعذلهم في ترك السُّوق فقالوا: إِنَّ الله أغنانا عن السُّوق بما فتح به علينا، فقال ـ رضي الله عنه ـ: والله لئن فعلتم ليحتاج رجالكم إِلى رجالهم، ونساؤكم إِلى نسائهم، فقد كان رضي الله عنه ينظر بتوجُّسٍ، وخشيةٍ إلى تقاعس أعيان المسلمين ـ من غير المجاهدين ـ عن التِّجارة، والسَّعي في طلب الرزق.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf