الإثنين

1446-06-22

|

2024-12-23

الفاروق رضي الله عنه وحماية جانب التَّوحيد، ومحاربة الزَّيغ، والبدع

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الثامنة والعشرون

أخبر المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ عن أصحاب نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم الَّذين أُخرجوا من ديارهم: أنَّهم عند تمكين الله لهم في الأرض سيقومون بأربعة أمور: إِقامة الصلاة، وإِيتاء الزَّكاة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ *} [الحج: 40 ـ 41].
يقول الإِمام أبو بكر الجصَّاص في تفسيره: وهذه صفة المهاجرين؛ لأنَّهم هم الَّذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ، فأخبر تعالى: أنَّه إِن مكَّنهم في الأرض؛ أقاموا الصَّلاة، واتوا الزَّكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وهو صفة الخلفاء الرّاشدين؛ الَّذين مكَّنهم الله في الأرض، وهم أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٌّ رضي الله عنهم.
وقد شهد التّاريخ، وثبت بالتَّواتر: أنَّ الفاروق ـ رضي الله عنه ـ قام بتلك الأمور خير قيام، واهتمَّ رضي الله عنه بحماية، وتطوير مؤسَّسات الدَّولة، كالماليَّة، والقضائيَّة، والعسكريَّة، والمتعلِّقة بالولاة، واجتهد رضي الله عنه في حمل النَّاس على امتثال أوامر الله تعالى، وأوامر نبيِّه محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وعمل على حمل النَّاس على اجتناب ما نهى الله عنه، ونهى عنه نبيُّه صلى الله عليه وسلم من خلال منصبه كخليفةٍ للمسلمين، ومن خلال الولايات الإِسلاميَّة المنتشرة في الدَّولة الإِسلاميَّة، قال ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ: وجميع الولايات الإِسلامية إِنَّما مقصودها الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وقد قام الفاروق ـ رضي الله عنه ـ بحماية جانب التَّوحيد، ومحاربة الزَّيغ، وإِقامة العبادات في المجتمع الإِسلامي، وحارب المنكر، وشجَّع على المعروف:
لما كان من مقاصد قيام الدَّولة الإِسلاميَّة حراسة الدِّين، فإِنَّ من أهمِّ ما قام به الفاروق القيام بهذا المقصد، وهو حفظ أصل الدِّين بحمل النَّاس على العقيدة الصحيحة الصَّافية؛ الَّتي تركهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحارب شبهات الزَّائغين، وردَّ كيد أعداء الدِّين؛ الَّذين يروِّجون للعقائد المنحرفة، والخرافات المنكرة؛ الَّتي زيَّنها لهم الشَّيطان، فظنُّوا: أنَّهم يحسنون صنعاً، وإِليك بعض المواقف الَّتي تشهد للفاروق في حمايته لجانب التَّوحيد، ومحاربته للزَّيغ:
ـ عروس النِّيل:
أرسل عمرو بن العاص إِلى الفاروق ـ رضي الله عنهما ـ يخبره عن عادة أهل مصر في رمي فتاةٍ في النِّيل كلَّ عامٍ، وقالوا له: أيُّها الأمير لنيلنا هذا سنَّةٌ لا يجري إِلا بها. قال: وما ذاك؟ قالوا: إِذا كانت اثنتا عشرة ليلةً خلت من هذا الشَّهر عمدنا إِلى جاريةٍ بكرٍ من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحُلِيِّ، والثِّياب أفضل ما يكون، ثُمَّ ألقيناها في هذا النِّيل، فقال لهم عمرو: إِنَّ هذا ممَّا لا يكون في الإِسلام، إِنَّ الإِسلام يهدم ما قبله، فأقاموا فترةً، والنِّيل لا يجري قليلاً، ولا كثيراً، حتّى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطَّاب بذلك، فكتب إِليه: إِنَّك قد أصبت بالَّذي فعلت، وإِنِّي قد بعثت إِليك بطاقةً داخل كتابي، فألقها في النِّيل، فلمّا قدم كتابه؛ أخذ عمرو البطاقة فإِذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إِلى نيل أهل مصر، أمَّا بعد: فإِن كنت إِنَّما تجري من قِبَلِكَ، ومن أمرك؛ فلا تجرِ فلا حاجة لنا فيك، وإِن كنت إِنَّما تجري بأمر الله الواحد القهَّار، وهو الَّذي يُجريك، فنسأل الله تعالى أن يجريك، قال: فألقى البطاقة في النِّيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النِّيل ستة عشر ذراعاً في ليلةٍ واحدةٍ، وقطع الله هذه السُّنَّة السَّيِّئة عن أهل مصر إِلى اليوم.
فقد بيَّن الفاروق معاني التَّوحيد في البطاقة، وأنَّ النِّيل إِنَّما يجري بمشيئة الله، وقدرته سبحانه وتعالى، وكشف للنَّاس زيف معتقدهم الفاسد الَّذي تغلغل في النُّفوس، وكان بتصرفه الحكيم قد نسف هذا المعتقد من نفوس المصريِّين.
ـ إنَّك حجرٌ لا تنفعُ، ولا تضرُّ:
عن عابس بن ربيعة، عن عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه جاء إِلى الحجر الأسود، فقبَّله، فقال: إِنِّي أعلم أنَّك حجرٌ لا تضرُّ، ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتُك. إِنَّه الاتِّباع في أحسن صوره، وأجمل معانيه، قال ابن حجر: قال الطَّبريُّ: إِنَّما قال ذلك عمر؛ لأنَّ النَّاس كانوا حديثي عهدٍ بعبادة الأصنام، فخشي أن يظنَّ الجهّال أنَّ استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار، كما كانت العرب تفعل في الجاهليَّة، فأراد عمر أن يعلِّم النَّاس: أن استلامه اتِّباعٌ لفعل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثمَّ قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: وفي قول عمر هذا التَّسليمُ للشَّارع في أمور الدِّين، وحسنُ الاتِّباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدةٌ عظيمةٌ في اتِّباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه، وهذا الخُلُق ـ وهو اتِّباع السُّنَّة، والحرص عليها ـ من أخلاق النَّصر في جيل الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ فقد علموا بأنَّه لا بدَّ من اتِّباع السُّنَّة كي يَحْبُوهم الله بالنَّصر والتأييد.
ـ قطع شجرة الرِّضوان:
أخرج ابن سعد بإسنادٍ صحيحٍ عن نافع: أنَّ عمر بلغه أنَّ قوماً يأتون الشَّجرة ـ شجرة الرِّضوان ـ فيصلُّون عندها، فتوعَّدهم، ثمَّ أمر بقطعها، فَقُطِعَتْ.
فهذا موقفٌ لأمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ في حماية التَّوحيد، والقضاء على موارد الفتن، حيث قام أولئك التَّابعون بعملٍ لم يعمله الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ فهو أمرٌ مبتدعٌ، وقد يؤدِّي بعد ذلك إِلى عبادةٍ، وأمر بها فَقُطِعَتْ.
ـ قبر دانيال:
لمَّا ظهر قبر دانيال بتستر؛ كتب فيه أبو موسى إِلى عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فكتب إِليه عمر: إِذا كان بالنَّهار؛ فاحفر ثلاثة عشر قبراً، ثمَّ ادفنه باللَّيل في واحدٍ منها، وعفِّر قبره لئلا يفتتن به النَّاس.
ـ أتريدون أن تتَّخذوا اثار أنبيائكم مساجد ؟
ثبت بالإِسناد الصَّحيح عن عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه كان في السَّفر، فرأى قوماً ينتابون مكاناً يصلُّون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلَّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إِنَّما هلك من كان قبلكم بهذا، إِنَّهم اتخذوا اثار أنبيائهم مساجد. من أدركته الصلاة فليصل، وإلا فليمض.
ـ فأحببت أن يعلموا: أنَّ الله هو الصّانع:
إِنَّ عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش في الشَّام لم يكن له أيُّ سببٍ غير المصلحة العامَّة للأمَّة، فقد خشي الفاروق من تعلُّق النَّاس بخالد، فيعتقدون: أنَّ النصر معلَّقٌ ببركة خالدٍ، وحنكته الحربيَّة، فيتَّكلون على ذلك، فأراد أن يعلمهم: أَنَّ الله هو النَّاصر، وأنَّه الفعَّال لما يريد، فأصدر قراره بعزله، وأكَّد ذلك في كتابه المفسِّر للقرار؛ الذي عمَّمه على الولايات حرصاً منه على جانب التَّوحيد، حيث جاء فيه: إِنِّي لم أعزل خالداً عن سخطةٍ، ولا خيانةٍ، ولكنَّ النَّاس فتنوا به، فأحببت أن يعلموا: أنَّ الله هو الصَّانع.
ـ إنَّما المتوكل من يُلقي حبَّه في الأرض:
عن معاوية بن قرَّة: أن عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ لقي ناساً من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون. قال: بل أنتم المتَّكلون، إِنَّما المتوكلون من يلقي حبه في الأرض، ويتوكَّل على الله عزَّ وجلَّ.
ـ ألا وإِنَّا نقتدي، ولا نبتدي، ونتَّبع، ولا نبتدع:
قال عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ على المنبر: ألا إِنَّ أصحاب الرَّأي أعداءُ السُّنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فأفتوا برأيهم، فضلُّوا، وأضلُّوا، ألا وإِنَّا نقتدي، ولا نبتدي، ونتَّبع، ولا نبتدع، ما نضلُّ ما تمسكنا بالأثر. وعن عمرو بن ميمون عن أبيه، قال: أتى عمر بن الخطَّاب رجلٌ، فقال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّا فتحنا المدائن، وأصبنا كتاباً فيه كلامٌ معجبٌ، قال: أمن كتاب الله ؟ قال: لا. فدعا بالدِّرَّة، فجعل يضربه بها، وجعل يقرأ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ *إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ *} [يوسف:1 ـ 3]. ثمَّ قال: إِنَّما هلك مَنْ كان قبلكم: أنَّهم أقبلوا على كتب علمائهم، وأساقفتهم، وتركوا التَّوراة والإنجيل، حتّى درسا، وذهب ما فيهما من العلم.
وعن أسلم قال: سمعت عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ يقول: فيم الرَّملان الان ؟ ومع ذلك لا ندع شيئاً كنّا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الحسن البصريِّ: أنَّ عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ أحرم من البصرة، فقدم على عمر، فأغلظ له، ونهاه عن ذلك، وقال: يتحدَّث النَّاس: أنَّ رجلاً من أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أحرم من مصر من الأمصار. وعن أبي وائلٍ قال: كنت جالساً على كرسيِّ شيبة بن عثمان في الكعبة، فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر، فقال: لقد هممت ألا أدع فيه صفراء، ولا بيضاء إِلا قسمتها، فقلت: ما كنت لتفعل ! قال: ولم؟ قلت: إِنَّ صاحبيك لم يفعلا، قال: هما المران أقتدي بهما.
هذه بعض مواقف الفاروق الَّتي ترشدنا إِلى حمايته لجانب التَّوحيد، ومحاربته للبدع، فقد فهم التَّوحيد؛ الَّذي أرشد إِليه الإِسلام وعرفه، وعمل به، وحرص على محو كلِّ أثرٍ من اثار الوثنيَّة في النُّفوس، والقلوب، وأقام صرح التَّوحيد في أعماق الكينونة البشريَّة، لقد عمل الفاروق على تعميق حقيقة الإِيمان في المجتمع الإِسلاميِّ بكلِّ معانيه، وبكلِّ أركانه، ومحاربة الشِّرك بكلِّ أشكاله، وأنواعه، وخفاياه، ومحاربة البدع، والاقتداء برسول الله في أقواله، وأفعاله صلى الله عليه وسلم، فهذه الأصول تدخل ضمن فقه التَّمكين؛ الذي فهمه الفاروق، وعاش به في دنيا النَّاس.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022