الفاروق رضي الله عنه بين مهابته وسط المجتمع وحرصه على قضاء حوائج الناس
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السادسة والعشرون
ـ مهابته في وسط المجتمع:
كان لعمر ـ رضي الله عنه ـ هيمنةٌ على النُّفوس والقلوب، ومهابةٌ تكبح من جماح النُّفوس، وتضبط من نزواتها، وأصحُّ دليلٍ على ذلك عزله لخالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ وهو في أوج شهرته، وقد اقترنت به تجارب الانتصار في كلِّ حرب، وأحاطت به هالات الإِكبار، والإِعجاب، وقد أنفذ أمر عزله يوم كان النَّاس في أشدِّ حاجةٍ إِليه، ووصل أمر العزل والنَّاس مصافُّون جيوش الروم يوم اليرموك، وأمَّر على الجيوش أبا عبيدة، فقال خالد: سمعاً، وطاعةً لأمير المؤمنين. ولمَّا نبَّه أحد الجنود على وقوع الفتنة بهذا التَّغيير؛ قال خالد: لا مجال لفتنةٍ ما دام عمر.
وهذا إِن دلَّ على خضوع خالدٍ لأمر الخليفة ـ وهو القائد المنصور المحبَّب ـ وتنازله عن القيادة في تواضعٍ، وإيثارٍ قلَّما يوجد له نظيرٌ في تاريخ القيادات العسكريَّة، والإِمارات الحربيَّة، فهو يدلُّ كذلك على سطوة سيدنا عمر، وامتلاكه لزمام الأمور، فقد كانت له مهابةٌ عظيمةٌ في قلوب النَّاس، فعن الحسن البصريِّ ـ رحمه الله ـ قال: بلغ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ: أن امرأةً يتحدَّث عنها الرِّجال، فأرسل إِليها ـ قال: وكان عمر رجلاً مهيباً ـ فلمَّا جاءها الرَّسول؛ قالت: يا ويلها ما لها ولعمر ! فخرجت فضربها المخاض فمرَّت بنسوةٍ فعرفن الَّذي بها، فقدمت بغلامٍ، فصاح صيحةً، ثمَّ طفا، فبلغ ذلك عمر ـ رضي الله عنه ـ فجمع المهاجرين، والأنصار، واستشارهم، وفي اخر القوم رجلٌ، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! إِنَّما كنت مؤدِّباً وإِنَّما أنت راعٍ، قال: ما تقول يا فلان ؟ قال: أقول: إِن كان القوم تابعوك على هواك؛ فوالله ما نصحوا لك ! وإِن يك اجتهادهم أراهم، فوالله فقد أخطأ رأيهم يا أمير المؤمنين ! قال: فعزمت عليك لمَّا قمت، فقسمتها على قومك، فقيل للحسن: من الرَّجل ؟ قال: عليُّ بن أبي طالبٍ، واجتمع عليٌّ، وعثمان، وطلحة، والزُّبير، وعبد الرحمن، وسعد رضي الله عنهم.
وكان أجرأهم على عمر عبد الرحمن بن عوف، فقالوا: يا عبد الرحمن ! لو كلَّمت أمير المؤمنين للنَّاس، فإِنَّه يأتي طالب الحاجة، فتمنعه هيبته أن يكلِّمه حتَّى يرجع، ولم يقض حاجته. فدخل عليه فكلَّمه في ذلك، فقال: يا عبد الرحمن ! أنشدك الله ! أعليٌّ، وعثمان، وطلحة، والزُّبير، وسعدٌ، أو بعضهم أمرك بهذا ؟ قال: اللَّهمَّ نعم ! فقال: يا عبد الرحمن ! والله ! لقد لنت للنَّاس حتَّى خشيت الله في اللِّين، ثم اشتددت عليهم حتَّى خفت الله في الشدَّة، فأين المخرج؟ فقام عبد الرحمن يبكي، ويجرُّ إِزاره، ويقول بيده: أفٍّ لهم بعدك ! أفٍّ لهم بعدك! وعن عمر بن مرَّة، قال: لقي رجلٌ من قريش عمر، فقال: لِنْ لنا، فقد ملأت قلوبنا مهابةً ! فقال: أفي ذلك ظلمٌ ؟ قال: لا. قال: فزادني الله في صدوركم مهابةً.
وحدَّث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ فقال: مكثت سنةً وأنا أريد أن أسأل عمر ـ رضي الله عنه ـ عن ايةٍ، فلا أستطيع أن أسأله هيبةً. وعن عكرمة مولى ابن عبَّاسٍ: أن حجَّاماً كان يقصُّ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وكان رجلاً مهيباً، فتنحنح عمر، فأحدث الحجَّام، فأمر له عمر بأربعين درهماً، وكان عندما يرى شدَّة هيبته في نفوس النَّاس يقول: اللهم تعلم أنِّي منك أشدُّ فرقاً منهم منِّي!
ـ حرصه على قضاء حوائج النَّاس:
قال ابن عباس: كان عمر ـ رضي الله عنه ـ كلَّما صلَّى صلاةً؛ جلس للنَّاس، فمن كانت له حاجةٌ نظر فيها، فصلَّى صلواتٍ لم يجلس بعدها، فأتيت الباب، فقلت: يا يرفأ ! أبأمير المؤمنين علَّةٌ من شكوٍ ؟ قال: لا، فبينما أنا كذلك؛ إِذ جاء عثمان، فدخل يرفأ ثمَّ خرج علينا، فقال: قم يا بن عفان ! قم يا بن عباس ! فدخلنا على عمر وبين يديه صُبَرٌ من مالٍ، فقال: إِنِّي نظرت، فلم أجد بالمدينة أكثر عشيرةً منكما، فخذا هذا المال، فاقسماه بين النَّاس، وإِن فضل فضلٌ؛ فردَّاه. قال: فجثوت لركبتي، فقلت: وإِن كان نقصانٌ؛ رددتَ علينا ؟ فقال: شنشنةٌ أعرفها من أخزم، أين كان هذا ومحمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون القدَّ ؟ قلت: لو فتح الله لصنع غير الذي تصنع، قال: وما كان يصنع ؟ قلت: إِذاً لأكل، وأطعمنا. قال: فنشج حتَّى اختلفت أضلاعه، وقال: لوددت أنِّي خرجت من الأمر كفافاً لا عليَّ، ولا لي.
وعن سعيد بن المسيِّب قال: أصيب بعيرٌ من الفيء، فنحره عمر ـ رضي الله عنه ـ وأرسل منه إِلى أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وصنع ما بقي، فدعا عليه جماعةً من المسلمين، وفيهم العباس بن عبد المطلب، فقال العبَّاس: يا أمير المؤمنين ! لو صنعت لنا كلَّ يومٍ مثل هذا، فأكلنا عندك، وتحدَّثنا ! فقال عمر: لا أعود لمثلها، إِنَّه مضى صاحباي وقد عملا عملاً، وسلكا طريقاً، وإِنِّي إِن عملت بغير عملهما؛ سُلِكَ بي غير طريقهما.
وعن أسلم مولى عمر: استعمل عمر مولىً له على الحِمَى، فقال: يا هنيُّ اضمم جناحك عن المسلمين، واتَّق دعوة المظلوم، فإنَّها مستجابةٌ، وأدخل ربَّ الصُّريمة، والغُنيمة، وإِيايَّ ونَعم ابن عوف، ونعم ابن عفان، فإِنَّهما إِن تهلك ماشيتهما؛ يرجعان إلى زرعٍ، ونخلٍ، وإِن ربَّ الصُّريمة والغُنيمة إِن تهلك ماشيتهما؛ يأتيني ببنيه، فيقول: يا أمير المؤمنين ! أفتاركهم أنا ؟ لا أبا لك ! فالماء، والكلأ أيسر عليَّ من الذَّهب، والفضَّة، وايم الله ! إِنَّهم ليرون أني ظلمتهم، إِنَّها لبلادهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإِسلام، والذي نفسي بيده ! لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله؛ ما حميت عليهم بلادهم شبراً.
وعن موسى بن أنسِ بن مالكٍ: أنَّ سيرين ـ والد محمَّد بن سيرين ـ سأل أنساً المكاتبة، وكان كثير المال، فأبى، فانطلق إِلى عمر، فقال: كاتبه، فأبى، فضربه بالدِّرَّة، ويتلو عمر {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فكاتبه.
وفي القصَّة الأخيرة نرى عبداً يطلب حرِّيته، وسيداً يأبى، وحاكماً ينصف، وينفذ رأي العبد، ويترك رأي السَّيِّد، أين تجد هذا في التّاريخ على طوله، وعرضه؟!.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي