الإثنين

1446-06-22

|

2024-12-23

الفاروق رضي الله عنه و حفظ سوابق الخير للرَّعية؛ أحداث ملهمة ومواقف جليلة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الخامسة والعشرون

 

كان ـ رضي الله عنه ـ يحفظ سوابق الخير للمسلمين، وكان لديه ميزانٌ دقيقٌ في تقييم الرِّجال، فقد قال رضي الله عنه: لا يعجبنَّكم طنطنة الرَّجل، ولكن من أدَّى الأمانة، وكف عن أعراض النَّاس، فهو الرَّجل، وكان رضي الله عنه يقول: لا تنظروا إِلى صلاة امرأىٍ، ولا صيامه، ولكن انظروا إِلى عقله، وصدقه. ويقول: إِنِّي لا أخاف عليكم أحد رجلين: مؤمناً قد تبين إيمانه، وكافراً قد تبين كفره، ولكنِّي أخاف عليكم منافقاً يتعوَّذ بالإِيمان، ويعمل لغيره. وسأل عمر عن رجلٍ شهد عنده بشهادةٍ، وأراد أن يعرف هل له مَنْ يزكِّيه، فقال له رجلٌ: إِنِّي أشهد له، وأزكيه يا أمير المؤمنين ! فقال عمر: أأنت جاره في مسكنه ؟ قال: لا ! قال: أعاشرته يوماً، فعرفت حقيقة أمره ؟ قال: لا ! قال: أسافرت يوماً معه، فإِنَّ السفر والاغتراب محكٌّ للرجال ؟ قال: لا ! قال عمر: لعلَّك رأيته في المسجد قائماً قاعداً يصلِّي ؟ قال: نعم ! قال: اذهب، فأنت لا تعرفه.

وقد حظي مجموعةٌ من المسلمين بالثَّناء، والتَّقدير من عمر ـ رضي الله عنه ـ بفضل توفيق الله لهم للأعمال المجيدة لخدمة الإِسلام، وهذه بعض المواقف الدَّالَّة على ذلك:

ـ امنت إِذ كفروا، وأقبلت إِذ أدبروا، ووفَّيت إِذ غدروا:

عن عديِّ بن حاتمٍ، قال: أتيت عمر بن الخطاب في أناسٍ من قومي، فجعل يفرض للرَّجل من طيِّأىٍ في ألفين، ويعرض عنِّي، قال: فاستقبلتُه، فأعرض عنِّي، ثمَّ أتيته في حيال وجهه، فأعرض عنِّي، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أتعرفني ؟ فضحك حتَّى استلقى على قفاه، ثمَّ قال: نعم، والله إِنِّي لأعرفك ! امنتَ إِذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووفَّيت إِذ غدروا، وإِنَّ أول صدقةٍ بيَّضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيِّأىٍ، جئت بها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثمَّ أخذ يعتذر، ثمَّ قال: إِنَّما فرضت لقومٍ أجحفت بهم الفاقة، وهم سادة عشائرهم لما ينوبهم من الحقوق.

وجاء في روايةٍ: فقال عديٌّ: فلا أبالي إِذاً !

ـ حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أن يُقَبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ:

أسرتِ الرُّوم الصحابيَّ الجليل عبد الله بن حذافة السَّهميَّ فجاؤوا به إِلى ملكهم، فقال له: تنصَّر وأنا أشركك في ملكي، وأزوِّجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمَّد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت ! فقال: إِذاً أقتلك، فقال: أنت وذاك، فأمر به فصُلبَ وأمر الرُّماة، فرموه قريباً من يديه، ورجليه وهو يعرض عليه دين النَّصرانية، فيأبى، ثمَّ أمر به، فأنزل، ثم أمر بقدرٍ، وفي روايةٍ ببقرة من نحاسٍ، فأحميت، وجاء بأسيرٍ من المسلمين، فألقاه؛ وهو ينظر، فإِذا عظامٌ تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيه فرفع في البكرة ليُلقى فيها، فبكى، فطمع فيه، ودعاه، فقال: إِنِّي إِنما بكيت؛ لأنَّ نفسي إِنَّما هي نفسٌ واحدةٌ تلقى في هذا القدر السَّاعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كلِّ شعرةٍ في جسدي نفسٌ تعذَّب هذا العذاب في الله.

وفي بعض الرِّوايات: أنَّه سجنه، ومنع عنه الطَّعام، والشَّراب أيَّاماً، ثمَّ أرسل إِليه بخمرٍ، ولحم خنزيرٍ، فلم يقربه، ثم استدعاه، فقال: ما منعك أن تأكل ؟ فقال: أما إِنَّه قد حل لي، ولم أكن لأشمِّتك بي، فقال له الملك: فقبِّل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه، فأطلقه، وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلمَّا رجع؛ قال عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ: حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام، فقبَّل رأسه رضي الله عنه.

ـ أفيكم أويس بن عامر ؟

كان عمر بن الخطاب إِذا أتى عليه أمداد أهل اليمن؛ سألهم: أفيكم أويس بن عامرٍ ؟ حتَّى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامرٍ ؟ قال: نعم. قال: مِنْ مراد، ثم مِنْ قرن ؟ قال: نعم. قال: فكان بك برصٌ، فبرئت منه إِلا موضع درهمٍ ؟ قال: نعم. قال: لك والدةٌ ؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد، ثمَّ من قرن، كان به برص، فبرأ منه إِلا موضع درهمٍ، له والدةٌ، هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإِن استطعت أن يستغفر لك فافعل »، فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد ؟ قال: اتي الكوفة، قال: ألا أكتب لك إِلى عاملها ؟ قال: أكون في غبرات النَّاس أحب إِليَّ. قال: فلمَّا كان من العام المقبل، رجع رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس، فقال: تركته رثَّ البيت، قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثمَّ من قرن، كان به برص، فبرأ منه إِلا موضع درهم، له والدة، هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإِن استطعت أن يستغفر لك فافعل ». فأتى أويساً، فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفرٍ صالح، فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: لقيت عمر ؟ قال: نعم، قال: فاستغفر له، قال: ففطن له النَّاس، فانطلق على وجهه.

ـ عمر ـ رضي الله عنه ـ ومجاهد بارٌّ بأمِّه:

أقبل قومٌ غزاةٌ من الشَّام يريدون اليمن، وكان لعمر جفناتٌ يضعها إِذا صلى الغداة، فجاء رجلٌ منهم، فجلس يأكل، فجعل يتناول بشماله، فقال له عمر، وكان يتعهَّد النَّاس عند طعامهم: كل بيمينك، فلم يجبه، فأعاد عليه، فقال: هي يا أمير المؤمنين مشغولةٌ، فلمَّا فرغ من طعامه؛ دعا به، فقال: ما شغل يدك اليمنى ؟ فأخرجها، فإذا هي مقطوعةٌ فقال: ما هذا ؟ فقال: أصيبت يدي يوم اليرموك، قال: فمن يوضِّئك ؟ قال: أتوضأ بشمالي، ويعين الله، قال: فأين تريد ؟ قال: اليمن، إِلى أمٍّ لي لم أرها منذ كذا وكذا سنةً، قال: أوَ برٌّ أيضاً ؟ فأمر له بخادمٍ، وخمسة أباعر من إِبل الصَّدقة، وأوقرها له.

ـ رجل ضُرِب ضربةً في سبيل الله حفرت في وجهه:

بينما النَّاس يأخذون أعطياتهم بين يدي عمر؛ إِذ رفع رأسه، فنظر إِلى رجلٍ في وجهه ضربةٌ، فسأله، فأخبره: أنَّه أصابته في غزاةٍ كان فيها، فقال: عدُّوا له ألفاً، فأعطي ألف درهم، ثمَّ قال: عدُّوا له ألفاً، فأعطى الرَّجل ألفاً أخرى، قال له ذلك أربع مرَّاتٍ كلُّ ذلك يعطيه ألف درهم، فاستحيا الرَّجل من كثرة ما يعطيه، فخرج، فسأل عنه، فقيل له: رأينا أنه استحيا من كثرة ما أعطي، فخرج، فقال: أما والله لو أنَّه مكث ما زلت أعطيه ما بقي منها درهم ! رجلٌ يُضرب ضربةً في سبيل الله حفرت في وجهه.

ـ أمنيةٌ عمريَّةٌ:

عن عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ قال لأصحابه: تمنَّوا. فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله، وأتصدق به. وقال رجلٌ: أتمنَّى لو أنَّها مملوءة زبر جداً، وجواهر، فأنفقه في سبيل الله، وأتصدَّق. ثمَّ قال عمر: تمنَّوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين ! فقال: أتمنَّى لو أنَّها مملوءةٌ رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجرَّاح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله. وهؤلاء من إِخوانه في الله، وقد وصف عمر ـ رضي الله عنه ـ إِخوان الصِّدق بقوله: عليك بإِخوان الصِّدق؛ تعش في أكنافهم، فإِنَّهم زينةٌ في الرَّخاء، وعدَّةٌ في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه؛ حتَّى يجيئك ما يقليك منه، واعتزل عدوَّك، واحذر صديقك إِلا الأمين، ولا أمين إِلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر، فتتعلَّمَ من فجوره، ولا تطلعه على سرِّك، واستشر في أمرك من يخشى الله تعالى.

وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يذكر الأخ من إِخوانه في الليل، فيقول: يا طولها من ليلة ! فإِذا صلَّى الغداة غدا إِليه، فإِذا لقيه؛ التزمه، أو اعتنقه. وكان يقول: لولا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جنبي في التراب لله، أو أجالس قوماً يلتقطون طيِّب القول كما تلتقط الثَّمرة؛ لأحببت أن أكون قد لحقت بالله.

ـ العمل عنده هو معيار التَّفاضل بين النَّاس:

كان العمل عند الفاروق ـ رضي الله عنه ـ معيار التَّفاضل بين البشر، فعندما حضر إِليه جمعٌ من سادات قريشٍ على رأسهم سهيل بن عمرو بن الحارث، وأبو سفيان بن حرب، وبعض عبيد قريش السَّابقين: صهيب، وبلال؛ أذن في لقائه للموالي الفقراء قبل أن يأذن للسَّادة من قريش وأشرافها، فغضب السَّادة لذلك، فقال أبو سفيان لبعض أصحابه: لم أر كاليوم قطُّ، يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه ؟ فقال سهيلٌ: أيُّها القوم ! إِنِّي والله أرى الذي في وجوهكم ! إِن كنتم غضاباً، فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ـ إِلى الإِسلام ـ ودعيتم، فأسرعوا، وأبطأتم، فكيف بكم إِذا دُعوا يوم القيامة، وتركتم.

ـ عمر ـ رضي الله عنه ـ يشهد للجنازة:

عن أبي الأسود: أنَّه قال: أتيت المدينة، فوافيتها، وقد وقع فيها مرضٌ، فهم يموتون موتاً ذريعاً، فجلست إِلى عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فمرَّت به جنازةٌ، فأُثني على صاحبها خير، فقال عمر: وجبت. ثمَّ مرَّ بأخرى، فأُثني على صاحبها خيرٌ، فقال عمر: وجبت. ثم مر بالثَّالثة، فأُثني عليها شرٌّ، فقال عمر: وجبت. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين ؟! قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيُّما مسلم شهد له أربعةٌ بخير؛ أدخله الله الجنة » قال: فقلنا: وثلاثة ؟ قال: فقال: « وثلاثة ». قال: قلنا: واثنان ؟ قال: « واثنان ». قال: ثمَّ لم نسأله عن الواحد.

ـ عمر ـ رضي الله عنه ـ وعطاءُ حكيمِ بن حزام رضي الله عنه:

عن عروة بن الزُّبير: أن حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثمَّ سألته فأعطاني، ثمَّ قال لي: « يا حكيم ! إِنَّ هذا المال خضرٌ حلوٌ، فمن أخذه بسخاوةِ نفسٍ؛ بورك له فيه، ومن أخذه بإِشراف نفسٍ؛ لم يبارك له فيه، وكان كالَّذي يأكل، ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السُّفلى ». قال حكيم: فقلت: يا رسول الله ! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتَّى أفارق الدُّنيا ! فكان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ يدعو حكيماً ليعطيه فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم إِنَّ عمر دعاه ليعطيه، فيأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين ! إِنِّي أعرض عليه حقَّه الَّذي قسم الله له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من النَّاس بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حتَّى تُوفِّي رحمه الله.

ـ عمر يُقَبِّل رأس عليٍّ رضي الله عنهما:

شكا رجل عليّاً إِلى عمر ـ رضي الله عنهما ـ فلمَّا جلس عمر لينظر في الدَّعوى؛ قال عمر لعليٍّ: ساو خصمك يا أبا الحسن ! فتغيَّر وجه عليٍّ، وقضى عمر في الدَّعوى، ثمَّ قال لعلي: أغضبت يا أبا الحسن ! لأنِّي سوَّيت بينك وبين خصمك ؟ فقال علي: بل لأنك لم تسوِّ بيني وبين خصمي يا أمير المؤمنين ! إِذ كرمتني، فناديتني يا أبا الحسن ! بكنيتي، ولم تناد خصمي بكنيته، فقبَّل عمر رأس عليٍّ، وقال: لا أبقاني الله بأرضٍ ليس فيها أبو الحسن.

ـ جريرٌ البجليُّ ينصح عمر:

عن عاصم بن بهدلة عن رجلٍ من أصحاب عمر، قال: كنَّا عند عمر بن الخطَّاب، فخرجتْ من رجلٍ ريحٌ، وحضرت الصَّلاة، فقال عمر: عزمت على من كانت هذه الرِّيح منه إِلا قام، فتوضَّأ، فقال جرير بن عبد الله: يا أمير المؤمنين ! اعزم علينا جميعاً أن نقوم فنتوضأ، فهو أستر. ففعل.

ـ رجلٌ من الموالي يخطب من قريش:

شجَّع عمر ـ رضي الله عنه ـ التَّزاوج بين القبائل كوسيلةٍ للتأليف بينها، حتَّى إِنَّ رجلاً من الموالي خطب إِلى رجلٍ من قريش أخته، فرفض القرشيُّ، فتدخَّل عمر لديه قائلاً: ما يمنعك أن تزوِّجه ؟ فإِن له صلاحاً، وقد جاءك بخير الدُّنيا (المال) وخير الاخرة (التَّقوى)، زوِّج الرَّجل، إِن رضيت أختُك؛ فزوَّجه إِيَّاها.

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022