الإثنين

1446-06-22

|

2024-12-23

الفاروق وأهل البيت رضي الله عنهم؛ علاقات مبنية على التقدير والاحترام

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الثالثة والعشرون

 

لا شكَّ: أنَّ لأهل بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم منزلةً رفيعةً، ودرجةً عاليةً من الاحترام، والتَّقدير عند أهل السُّنَّة والجماعة، حيث يرعون حقوق ال البيت الَّتي شرعها الله لهم، فيحبُّونهم، ويتولَّونهم، ويحفظون فيهم وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّتي قالها يوم غدير خم: « أذكِّركم الله في أهل بيتي »، فهم أسـعد الناس بالأخذ بهـذه الوصيَّة، وتطبيقها، فيتبرؤون من طريقـة الَّذين غلوا في بعض أهل البيت، غلوّاً مفرطاً، وطريقة النَّواصب الَّذين يؤذونهم، ويبغضونهم، فأهل السُّنَّة متَّفقون على وجوب محبَّة أهل البيت، وتحريم إِيذائهم، أو الإِساءة إِليهم بقولٍ، أو فعلٍ، وهذا الفاروق ـ رضي الله عنه ـ يوضِّح لنا معتقد أهل السُّنَّة في أهل البيت من خلال تصرُّفاته، ومواقفه معهم.

1 ـ معاملته لأزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:

كان رضي الله عنه يتفقَّد أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويجزل لهنَّ العطاء، وكان لا يأكل طريفةً، ولا فاكهةً إِلا جعل منها لأزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، واخر من يبعث إِليه حفصة، فإِن كان نقصانٌ؛ كان في حقِّها. وكان يرسل العطاء لهنَّ، فهذه القصَّة وقعت مع أمِّ المؤمنين زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ: لمَّا خرج العطاء أرسل عمر إِلى أمِّ المؤمنين زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ بالَّذي لها، فلمَّا دخل عليها؛ قالت: غفر الله لعمر، غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا منِّي. فقالوا: هذا كلُّه لك. قالت: سبحان الله ! واستترت منه بثوبٍ قالت: صبُّوه، واطرحوا عليه ثوباً، ثمَّ قالت لبرزة بنت رافع: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضةً فاذهبي بها إِلى بني فلانٍ، وبني فلان: (من أهل رحمها، وأيتامها) فقسمته حتَّى بقيت بقيَّةٌ تحت الثَّوب. فقالت برزة: غفر الله لك يا أم المؤمنين ! والله لقد كان لنا في هذا حقٌّ. قالت: فلكم ما تحت هذا الثَّوب. قالت: فكشفنا الثَّوب، فوجدنا خمسةً وثمانين درهماً. ثمَّ رفعت يديها إِلى السَّماء فقالت: اللَّهُمَّ لا يدركني عطاءٌ لعمر بعد عامي هذا ! فماتت ـ رضي الله عنها ـ فكانت أوَّل أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لحوقاً به.

ومن صور إِكرامه لأزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما روته أمُّ المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ تقول: كان عمر بن الخطَّاب يرسل إِلينا بأحظائنا حتَّى من الرؤوس، والأكارع. وعندما استأذن أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عمرَ في الحجِّ، فأبى أن يأذن لهنَّ، حتَّى أكثرن عليه، فقال: سأدن لكنَّ بعد العام، وليس هذا من رأيي، فأرسل معهنَّ عثمان بن عفَّان، وعبد الرحمن بن عوف، وأمرهما أن يسير أحدهما بين أيديهنَّ والاخر خلفهنَّ ولا يسايرهنَّ أحد، فإِذا نزلن، فأنزلوهنَّ شعباً، ثمَّ كونا على باب الشِّعب لا يَدْخُلَنَّ عليهنَّ أحدٌ، ثمَّ أمرهما إِذا طفن بالبيت لا يطوف معهنَّ أحدٌ إِلا النِّساء.

2 ـ عليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ وأولاده:

كان عمر رضي الله عنه شديد الإِكرام لال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإِيثارهم على أبنائه، وأسرته، نذكر من ذلك بعض المواقف:

ـ جاء فيما رواه الحسين بن عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ عمر قال لي ذات يومٍ: أي بُنَيَّ ! لو جعلت تأتينا، وتغشانا ؟ فجئت يوماً وهو خالٍ بمعاوية، وابن عمر بالباب لم يؤذن له، فرجعت، فلقيني بعدُ، فقال: يا بنيَّ لم أرك أتيتنا ؟ قلت: جئت، وأنت خالٍ بمعاوية، فرأيت ابن عمر رجع، فرجعتُ. فقال: أنت أحقُّ بالإِذن من عبد الله بن عمر، إِنَّما أنت من رؤوسنا ما ترى ! اللهُ، ثمَّ أنتم، ووضع يده على رأسه.

وروى ابن سعد عن جعفر بن محمَّد الباقر عن أبيه علي بن الحسين، قال: قدم على عمر حُلل من اليمن، فكسا النَّاس، فراحوا في الحلل، وهو بين القبر والمنبر جالسٌ، والنَّاس يأتونه، فيسلمون عليه ويدعون له، فخرج الحسن، والحسين من بيت أمِّهما فاطمة ـ رضي الله عنهما ـ يتخطَّيان الناس، ليس عليهما من تلك الحلل شيءٌ، وعمر مُقَطِّب بين عينيه، ثمَّ قال: والله ما هنأ لي ما كسوتكم ! قالوا: يا أمير المؤمنين ! كسوت رعيتك، فأحسنت، قال: من أجل الغلامين يتخطيَّان النَّاس، وليس عليهما من شيءٍ، كبرت عنهما، وصغرا عنها، ثمَّ كتب إِلى واليه في اليمن أن ابعث بحلَّتين لحسن، وحسين، وعجِّل. فبعث إِليه بحلَّتين، فكساهما.

وعن أبي جعفرٍ: أنَّه لما أراد أن يفرض للنَّاس بعدما فتح الله عليه، جمع ناساً من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ: ابدأ بنفسك، فقال: لا والله ! بالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بني هاشم رهط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرض للعبَّاس، ثمَّ لعليٍّ، حتَّى والى بين خمس قبائل، حتَّى انتهى إِلى بني عديِّ بن كعب، فكتب مَنْ شهد بدراً من بني هاشم، ثمَّ من شهد بدراً من بني أميَّة بن عبد شمس، ثمَّ الأقرب، فالأقرب، ففرض الأعطيات لهم، وفرض للحسن والحسين لمكانهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

يقول العلامة شبلي النُّعماني في كتاب « الفاروق » حول عنوان (رعاية الحقوق والآداب بين الال والأصحاب): إِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يكن يبتُّ برأيٍ في مهمَّات الأمور قبل أن يستشير عليّاً ـ رضي الله عنه ـ الَّذي كان يشير عليه بغايةٍ من النُّصح، ودافعٍ من الإخلاص، ولمَّا سافر إِلى بيت المقدس؛ استخلفه في جميع شؤون الخلافة على المدينة، وقد تمثَّل مدى الانسجام، والتَّضامن بينهما حينما زوَّجه عليٌّ ـ رضي الله عنهما ـ من السيدة أمِّ كلثوم؛ الَّتي كانت بنت فاطمة ـ رضي الله عنهاـ وسمَّى أحد أولاده عمر، كما سمَّى أحدهم أبا بكرٍ، وسمَّى الثَّالث عثمان، ولا يسمِّي الإِنسان أبناءه إِلا بأحبِّ الأسماء، وبمن يرى فيهم القدوة المثاليَّة.

كان عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ المستشار الأوَّل لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وكان عمر يستشيره في الأمور الكبيرة منها، والصَّغيرة، وقد استشاره حين فتح المسلمون بيت المقدس، وحين فتحت المدائن، وعندما أراد عمر التوجُّه إِلى نهاوند، وقتال الفرس، وحين أراد أن يخرج لقتال الرُّوم، وفي موضوع التَّقويم الهجريِّ وغير ذلك من الأمور، وكان عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ طيلة حياة عمر مستشاراً ناصحاً لعمر خائفاً عليه، وكان عمر يحبُّ عليّاً، وكانت بينهما مودَّةٌ، ومحبَّةٌ، وثقةٌ متبادلةٌ، ومع ذلك يأبى أناسٌ إِلا أن يزوِّروا التَّاريخ، ويقصُّوا بعض الرِّوايات؛ الَّتي تناسب أمزجتهم، ومشاربهم، ليصوِّروا لنا فترة الخلفاء الرَّاشدين عبارة عن: أنَّ كلَّ واحدٍ منهم كان يتربَّص بالاخر الدَّوائر، لينقضَّ عليه، وكلُّ أمورهم كانت تجري وراء الكواليس.

يقول الدُّكتور البوطي: إِنَّ من أبرز ما يلاحظه المتأمِّل في خلافة عمر ذلك التَّعاون المتميِّز الصَّافي بين عمر، وعليٍّ ـ رضي الله عنهما ـ فقد كان عليٌّ هو المستشار الأوَّل لعمر في سائر القضايا، والمشكلات، وما اقترح عليٌّ على عمر رأياً إِلا واتَّجه عمر إِلى تنفيذه عن قناعة، وحسبُك في ذلك قوله: لولا عليٌّ؛ لهلك عمر، أمَّا عليٌّ؛ فقد كان يمحضه النُّصح في كلِّ شؤونه وأحواله، وقد رأيت: أنَّ عمر (استشاره في أن يذهب بنفسه على رأس جيشٍ لقتال الفرس، فنصحه نصيحة المحبِّ له، الغيور عليه، والضَّنين به ألا يذهب، وأن يدير رحى الحرب بمن دونه من العرب، وهو في مكانه، وحذَّره من أنَّه إِذا ذهب، فلسوف ينشأ وراءه من الثَّغرات ما هو أخطر من العدوِّ الَّذي سيواجهه. أرأيت لو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن: أنَّ الخلافة من بعده لعلي، أفكان لعليٍّ أن يعرض عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، وأن يؤيد المستلبين لحقِّه بل لواجبه في الخلافة بمثل هذا التعاون المخلص البنَّاء ؟ بل أفكان للصَّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كلِّهم أن يضيِّعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ بل أفكان من المتصوَّر أن يُجْمِعوا وفي مقدمتهم عليٌّ ـ رضوان الله عليه ـ على ذلك ؟ ثم يقول بعد ذلك بقليل: بوسعنا أن نعلم إذاً، بكلِّ بداهةٍ: أنَّ المسلمين إِلى هذا العهد ـ نهاية عهد عمر ـ بل إِلى نهاية عهد عليٍّ كانوا جماعةً واحدةً، ولم يكن في ذهن أيٍّ من المسلمين أيُّ إشكالٍ بشأن الخلافة، أو بشأن من هو أحقُّ بها) .

3 ـ الخلاف بين العبَّاس، وعلي ـ رضي الله عنهما ـ في فيء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني النَّضير:

قال مالك بن أوس: بينما أنا جالس في أهلي حين متع النَّهار؛ إِذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه حتَّى أدخل على عمر، فإِذا هو جالسٌ على رمال سريرٍ ليس بينه وبينه فراشٌ، متكأىٌ على وسادة من أدم، فسلمت عليه، ثم جلست، فقال: إِنَّه قدم علينا من قومك أهل أبياتٍ، وقد أمرت فيهم برضخٍ، فاقبضه، فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين ! لو أمرت به غيري، قال: اقبضه أيُّها المرء ! فبينا أنا جالس عنده أتاه حاجِبه يرفأ، فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرَّحمن بن عوف، والزُّبير، وسعد بن أبي وقَّاص، يستأذنون ؟ قال: نعم، فأذن لهم، فدخلوا، فسلَّموا، وجلسوا، ثمَّ جلس يرفأ يسيراً، ثمَّ قال: لك في عليٍّ، وعباسٍ ؟ قال: نعم. فأذن لهما، فدخلا فسلَّما، فجلسا، فقال عباس: (يا أمير المؤمنين ! اقض بيني وبين هذا). وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من مال بني النَّضير، فقال الرَّهط ـ عثمان وأصحابه ـ: يا أمير المؤمنين ! اقض بينهما، وأرح أحدهما من الاخر. قال عمر: تيدكم، أنشدكم بالله الذي بإِذنه تقوم السَّماء، والأرض: هل تعلمون: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا نورث، ما تركنا صدقةٌ » يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ قال الرَّهطُ: قد قال ذلك.

فأقبل عمر على عليٍّ، وعبَّاسٍ، فقال: أنشدكما بالله أتعلمان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا: قد قال ذلك، قال عمر: فإِنِّي أحدِّثكم عن هذا الأمر: إِنَّ الله قد خصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيءٍ لم يعطه أحداً غيره، ثمَّ قرأ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [الحشر: 6]. فكانت هذه خالصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله ما احتازها دونكم ! ولا استأثر بها عليكم، قد أعطاكموها، وبثها فيكم، حتَّى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثمَّ يأخذ ما بقي، فيجعله مجعل مال الله، فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك ؟ قالوا: نعم ! ثمَّ قال لعليٍّ، وعباسٍ: أنشدكما بالله، هل تعلمان ذلك ؟ قال عمر: ثمَّ توفى الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا وليُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها أبو بكر، فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم إِنَّه فيها لصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحقِّ، ثمَّ توفَّى الله أبا بكرٍ، فكنت أنا وليَّ أبي بكرٍ، فقبضتها سنتين من إِمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكر، والله يعلم أنِّي فيها لصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحقِّ، ثمَّ جئتماني تكلِّماني، وكَلِمَتُكُما واحدةٌ، وأمركما واحدٌ، جئتني يا عبَّاس ! تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا « يريد عليَّاً » يريد نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا نورث ما تركناه صدقةٌ ». فلمَّا بدا لي أن أدفعه إِليكما قلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أنَّ عليكما عهد الله، وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل أبو بكر، وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: ادفعها إِلينا، فبذلك دفعتها إِليكما، فأنشدكم بالله هل دفعتها إِليهما بذلك ؟ قال الرَّهط: نعم ! ثمَّ أَقبل على عليٍّ وعبَّاسٍ، فقال: أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قالا: نعم ! قال: فتلتمسان منِّي قضاءً غير ذلك، فوالله الذي بإِذنه تقوم السَّماء، والأرض ! لا أقضي فيها قضاءً غير ذلك، فإِن عجزتما عنها، فادفعاها إِليَّ، فإِنِّي أكفيكماها.

4 ـ احترام عمر للعبَّاس وابنه عبد الله رضي الله عنهم:

بيَّن الفاروق ـ رضي الله عنه ـ للأمَّة عامَّةً فضل العباس بن عبد المطلب عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدى احترامه، وتواضعه، ومعرفته لحقِّه، وذلك عندما استسقى به في عام الرَّمادة، كما سيأتي بإِذن الله تعالى، بل قد أقسم عمر ـ رضي الله عنه ـ للعباس كما تقدَّم: أنَّ إِسلامه أحبُّ إليه من إِسلام أبيه لو أسلم؛ لأنَّ إسلام العبَّاس أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن المحبَّة الَّتي كان يكنُّها عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أنَّه كان يدخله في مجلس كبار الصَّحابة من مشيخة بدر ـ رضي الله عنهم ـ وقد كان لهم أبناء في سنِّه، ولم يحظ بهذا التَّكريم سواه، وفي هذا بيان لفضيلته، ومكانته العلميَّة لدى الفاروق رضي الله عنهم أجمعين. فقد روى البخاريُّ بإِسناده إِلى ابن عباسٍ، قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدرٍ، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا، ولنا أبناء مثله ؟ فقال: إنَّهُ ممَّن قد علمته، فدعاهم ذات يومٍ، ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذٍ إِلا ليريهم منِّي، فقال: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *} [النصر: 1 ـ 2] حتى ختم السُّورة، فقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا بن العباس ! أكذلك تقول ؟ قلت: لا ! قال: فما تقول ؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له مكَّة فذلك علامة أجلك قال {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا *}: ما أعلم منها إِلا ما تعلم.

قال الحافظ ابن حجر: وأخرج البغويُّ، في معجم الصَّحابة من طريق زيد بن أسلم، عن ابن عمر قال: كان عمر يدعو ابن عباسٍ ويقرِّبه، ويقول: إِنِّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوماً، فمسح رأسك وقال: « اللَّهمَّ فقِّهه في الدِّين وعلِّمه التأويل ». ففعل عمر ـ رضي الله عنه ـ هذا تقريراً لجلالة قدر ابن عباسٍ، وبياناً لكبير منزلته في العلم، والفهم.

وقد ذكر الحافظ ابن كثير: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يقول: نعم ترجمان القران عبد الله بن عباس ! وكان يقول إِذا أقبل: جاء فتى الكهول، وذو اللسان السَّؤول، والقلب العقول. لقد كان الحبُّ، والودُّ متبادلاً بين عمر وبين أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022