وقفة عند أخلاقيات الفاروق
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الواحدة والعشرون
إِنَّ مفتاح شخصية الفاروق إِيمانه بالله تعالى، والاستعداد لليوم الاخر، وكان هذا الإِيمان سبباً في التوازن المدهش، والخلاب في شخصية عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ ولذلك لم تطغ قوَّته على عدالته، وسلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقّاً لتأييد الله، وعونه، فقد حقَّق شروط كلمة التَّوحيد، من العلم، واليقين، والقبول، والانقياد، والإِخلاص، والمحبَّة، وكان على فهمٍ صحيحٍ لحقيقة الإِيمان، وكلمة التَّوحيد، فظهرت اثار إِيمانه العميق في حياته، والَّتي من أهمها:
1ـ شدَّة خوفه من الله تعالى بمحاسبته لنفسه:
كان رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النَّار، فإِن حرَّها شديدٌ، وقعرها بعيدٌ، ومقامعها حديدٌ، وجاء ذات يوم أعرابيٌّ، فوقف عنده، وقال:
يا عُمَرَ الخَيْرِ جُزِيْتَ الجَنَّهْ جَهِّزْ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ
أُقْسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ
قال: إِن لم أفعل ماذا يكون يا أعرابيُّ ؟! قال:
أُقْسِمُ أنِّي سَوْفَ أَمْضِيَنَّهْ
قال: فإِن مضيت؛ ماذا يكون يا أعرابيُّ ؟! قال:
وَالله عَنْ حَالي لَتُسْأَلَنَّهْ ثُمَّ تَكُوْنُ المَسْألاَتُ ثَمَّهْ
والْوَاقِفُ الْمَسْؤُولُ بَيْنَهُنَّهْ إِمَّا إِلى نَارٍ وَإِمَّا جَنَّهْ
فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، ثمَّ قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لِشِعْره، والله ما أملك قميصاً غيره، وهكذا بكى أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ بكاءً شديداً تأثُّراً بِشِعْرِ ذلك الأعرابيِّ؛ الذي ذكَّره بموقف الحساب يوم القيامة، مع أنَّه لا يذكر أنَّه ظلم أحداً من النَّاس، ولكنَّه لعظيم خشيته، وشدَّة خوفه من الله تعالى تنهمر دموعه أمام كلِّ من يُذَكِّره بيوم القيامة.
وكان رضي الله عنه من شدَّة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإِذا خُيِّل إِليه أنَّه أخطأ في حقِّ أحدٍ؛ طلبه، وأمره بأن يقتصَّ منه، فكان يقبل على النَّاس يسألهم عن حاجتهم، فِإذا أفضوا إِليه بها؛ قضاها، ولكنَّه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشَّكاوى الخاصَّة: إِذا تفرغ لأمرٍ عامٍّ، فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامَّة، فجاءه رجلٌ، فقال: يا أمير المؤمنين ! انطلق معي فأعنِّي على فلانٍ، فإِنَّه ظلمني، فرفع عمر الدِّرَّة، فخفق بها رأس الرَّجل، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم، حتَّى إِذا اشتغل بأمور المسلمين؛ أتيتموه ! فانصرف الرَّجل متذمِّراً، فقال عمر: عليَّ بالرَّجل. فلمَّا أعادوه؛ ألقى عمر بالدِّرَّة إِليه، وقال: أمسك الدِّرَّة، واخفقني، كما خفقتك، قال الرَّجل: لا يا أمير المؤمنين ! أدعها لله ولك، قال عمر: ليس كذلك؛ إِما أن تدعها لله وإِرادة ما عنده من الثَّواب، أو تردَّها عليَّ، فأعلم ذلك. فقال الرَّجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين ! وانصرف الرَّجل، أمَّا عمر فقد مشى حتَّى دخل بيته، ومعه بعض النَّاس منهم الأحنف بن قيس؛ الذي حدَّثنا عما رأى:... فافتتح الصَّلاة، فصلَّى ركعتين ثمَّ جلس، فقال: يابن الخطاب ! كنت وضيعاً، فرفعك الله، وكنت ضالاًّ فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزَّك الله، ثمَّ حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجلٌ يستعديك، فضربته، ما تقول لربك غداً إِذا أتيته ؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبةً ظننت: أنَّه خير أهل الأرض.
وعن إِياس بن سلمة، عن أبيه، قال: مرَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ وأنا في السُّوق، وهو مارٌّ في حاجةٍ، ومعه الدِّرَّة، فقال: هكذا أمط عن الطريق يا سلمة ! قال: ثمَّ خفقني بها خفقةً فما أصاب إِلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطَّريق، فسكت عنِّي حتَّى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة ! أردتَ الحجَّ العام ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين ! فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتَّى دخل بيته، فأخرج كيساً فيه ستمئة درهم، فقال: يا سلمة ! استعن بهذه، واعلم أنَّها من الخفقة الَّتي خفقتك عام أوَّل. قلت: والله يا أمير المؤمنين ! ما ذكرتُها حتَّى ذكَّرتنيها. قال: واللهِ ما نسيتها بعد !
وكان رضي الله عنه يقول في مجالسة النَّفس، ومراقبتها: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ *} [الحاقة: 18] وكان من شدَّة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: لو مات جَدْيٌ بطف الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر.
وعن عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على قَتَبٍ يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أين تذهب ؟ قال: بعيرٌ ندَّ من إِبل الصَّدقة أطلبه، فقلت: أَذْلَلْتَ الخلفاء بعدك ! فقال: يا أبا الحسن ! لا تلمني، فوالذي بعث محمَّداً بالنُّبوَّة لو أنَّ عناقاً أُخذت بشاطىء الفرات؛ لأُخذ بها عمر يوم القيامة.
وعن أبي سلامة قال: انتهيت إِلى عمر وهو يضرب رجالاً، ونساءً في الحرم على حوض يتوضَّؤون منه، حتَّى فرَّق بينهم، ثمَّ قال: يا فلان ! قلت: لبَّيك ! قال: لا لبيك، ولا سعديك، ألم امرك أن تتَّخذ حياضاً للرِّجال، وحياضاً للنساء ؟! قال: ثمَّ اندفع فلقيه عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ فقال: أخاف أن أكونَ هلكتُ، قال: وما أهلكك ؟ قال: ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قال: يا أمير المؤمنين ! أنت راعٍ من الرُّعاة، فإِن كنت على نصحٍ وإِصلاحٍ؛ فلن يعاقبك الله، وإِن كنت ضربتهم على غشٍّ؛ فأنت الظَّالم.
وعن الحسن البصريِّ: أنَّه قال: بينما عمر ـ رضي الله عنه ـ يجول في سكك المدينة؛ إِذ عرضت هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 58] فانطلق إِلى أُبيِّ بن كعبٍ، فدخل عليه بيته؛ وهو جالسٌ على وسادةٍ، فانتزعها أُبيٌّ من تحته، وقال: دونكها يا أمير المؤمنين ! قال: فنبذها برجله، وجلس، فقرأ عليه هذه الآية، وقال: أخشى أن أكون أنا صاحب الآية، وأوذي المؤمنين، قال: لا تستطيع إِلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر، وتنهى. فقال عمر: قد قلت والله أعلم.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ ربما توقد النَّار ثمَّ يدلي يده فيها، ثمَّ يقول: ابن الخطاب ! هل لك على هذا صَبْر ؟!
وعندما بعث سعدُ بن أبي وقَّاصٍ أيَّام القادسيَّة إِلى عمر ـ رضي الله عنه ـ بقباء كسرى، وسيفه، ومنطقته، وسراويله، وقميصه، وتاجه، وخفَّيه؛ نظر عمر في وجوه القوم، فكان أجسمَهم، وأمدَّهم قامةً سراقة بن جعشم المدلجي، فقال: يا سراقة ! قم فالبس، فقام فلبس، وطمع فيه. فقال له عمر: أدبرْ، فأدبرَ. ثمَّ قال: أقبلْ، فأقبلَ، ثمَّ قال: بخٍ بخٍ، أعرابيٌّ من بني مدلج عليه قباء كسرى، وسراويله، وسيفه، ومنطقته، وتاجه، وخفَّاه، ربَّ يوم يا سراقة بن مالك ! لو كان عليك فيه من متاع كسرى كان شرفاً لك، ولقومك، انْزَعْ. فنزع سراقة، فقال عمر: اللَّهم إِنَّك منعت هذا رسولك، ونبيَّك، وكان أحبَّ إِليك منِّي، وأكرم عليك منِّي، ومنعته أبا بكرٍ، وكان أحبَّ إليك منِّي، وأكرم عليك منِّي، ثمَّ أعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي، ثمَّ بكى حتَّى رحمه مَنْ عنده، ثمَّ قال لعبد الرحمن: أقسمت عليك لمَّا بعته ثمَّ قسمته قبل أن تمسي. ومواقفه في هذا الباب كثيرةٌ جدّاً.
2 ـ زهده:
فهم عمر ـ رضي الله عنه ـ من خلال معايشته للقران الكريم، ومصاحبته للنَّبيِّ الأمين صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ تفكُّره في هذه الحياة بأنَّ الدُّنيا دار اختبارٍ، وابتلاءٍ، وعليه فإِنَّها مزرعةٌ للأخرة، ولذلك تحرَّرَ من سيطرة الدُّنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها، وخضع، وانقاد، وأسلم نفسه لربِّه ظاهراً، وباطناً، وكان وصل إِلى حقائق استقرَّت في قلبه ساعَدَتْهُ على الزُّهد في هذه الدُّنيا، ومن هذه الحقائق:
أ ـ اليقين التَّامُّ بأنَّنا في هذه الدُّنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيلٍ، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: « كن في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ، أو عابر سبيل ».
ب ـ وأنَّ هذه الدُّنيا لا وزن لها، ولا قيمة عند ربِّ العزَّة إِلا ما كان منها طاعةً لله ـ تبارك وتعالى ـ إِذ يقـول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: « لو كانت الدُّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء »، « ألا إِنَّ الدُّنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها إِلا ذكر الله، وما والاه، أو عالماً، أو متعلِّماً ».
ج ـ وأنَّ عمرها قد قارب على الانتهاء؛ إِذ يقول صلى الله عليه وسلم: « بعثت أنا والسَّاعة كهاتين » ويقرن بين إِصبعيه السَّبابة، والوسطى.
د ـ وأنَّ الاخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن ال فرعون:
{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةِ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ *مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ *} [غافر: 39 ـ 40] .
كانت هذه الحقائق قد استقرَّت في قلب عمر فترفَّع رضي الله عنه عن الدُّنيا وحطامها، وزهد فيها، وإِليك شيئاً من مواقفه الَّتي تدلُّ على زهده في هذه الفانية: فعن أبي الأشهب قال: مرَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ على مزبلةٍ، فاحتبس عندها، فكأنَّ أصحابه تأذَّوا بها، فقال: هذه دنياكم الَّتي تحرصون عليها، وتبكون عليها.
وعن سالم بن عبد الله: أنَّ عمر بن الخطَّاب كان يقول: والله ! ما نعبأ بلذَّات العيش أن نأمر بصغار المعزى أن تُسمَط لنا، ونأمر بلُباب الخبز، فيخبز لنا، ونأمر بالزَّبيب، فينبذ لنا في الأسعان حتَّى إِذا صار مثل عين اليعقوب، أكلنا هذا، وشربنا هذا، ولكنَّا نريد أن نستبقي طيباتنا؛ لأنَّا سمعنا الله يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20].
وعن أبي عمران الجوني، قال: قال عمر بن الخطاب: لنحن أعلم بليِّن الطعام من كثير من اكليه، ولكنَّا ندعه ليوم {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 2].
وقد قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: نظرت في هذا الأمر، فجعلت إِن أردت الدُّنيا أضرُّ بالآخرة، وإِن أردت الآخرة أضرُّ بالدُّنيا، فإِذا كان الأمر هكذا، فأضرُّ بالفانية.
وقد خطب رضي الله عنه النَّاس؛ وهو خليفةٌ، وعليه إِزارٌ فيه اثنتا عشرة رقعةً.
وطاف ببيت الله الحرام وعليه إِزارٌ فيه اثنتا عشرة رقعةً، إِحداهنَّ بأدم أحمر.
وأبطأ على النَّاس يوم الجمعة، ثمَّ خرج فاعتذر إِليهم في احتباسه، وقال: إِنَّما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يُغسل، ولم يكن لي ثوبٌ غيره.
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حاجّاً من المدينة إِلى مكَّة إِلى أن رجعنا، فما ضرب له فسطاطاً، ولا خباءً، كان يلقي الكساء والنِّطع، على الشَّجرة، فيستظلُّ تحته.
هذا هو أمير المؤمنين الذي يسوس رعيَّةً من المشرق والمغرب يجلس على التُّراب، وتحته رداءٌ كأنَّه أدنى الرَّعيَّة، أو من عامَّة الناس، ودخلت عليه مرَّةً حفصة أمُّ المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ وقد رأت ما هو فيه من شدَّة العيش والزُّهد الظَّاهر عليه، فقالت: إِنَّ الله أكثر من الخير، وأوسع عليك من الرِّزق، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك، ولبست ثياباً ألين من ثوبك ؟ قال: سأخصمك إِلى نفسك، فذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يلقى من شدَّة العيش، فلم يزل يذكِّرها ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت معه حتَّى أبكاها، ثمَّ قال: إِنَّه كان لي صاحبان سلكا طريقاً، فإِن سلكت الشَّديد؛ لعلِّي أن أدرك معهما عيشهما الرَّخِيَّ.
لقد بُسِطت الدُّنيا بين يدي عمر ـ رضي الله عنه ـ وتحت قدميه، وفُتحت بلاد الدُّنيا في عهده، وأقبلت إِليه الدُّنيا راغمةً، فما طرف لها بعينٍ، ولا اهتزَّ لها قلبُه، بل كان كلُّ سعادته في إِعزاز دين الله، وخَضْدِ شوكة المشركين، فكان الزُّهد صفةً بارزةً في شخصية الفاروق.
يقول سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ: والله ما كان عمر بن الخطاب بأقدمنا هجرةً، وقد عرفت بأيِّ شيءٍ فضلنا، كان أزهدَنا في الدُّنيا.
3 ـ ورعه:
وممَّا يدلُّ على ورعه ـ رضي الله عنه ـ ما أخرجه أبو زيد عمر بن شبَّة من خبر معدان بن أبي طلحة اليعمري: أنَّه قدم على عمر ـ رضي الله عنه ـ بقطائف، وطعامٍ، فأمر به، فقسم، ثمَّ قال: اللَّهمَّ إِنَّك تعلم أنِّي لم أرزقهم، ولن أستأثر عليهم إِلا أن أضع يدي في طعامهم، وقد خفت أن تجعله ناراً في بطن عمر. قال معدان: ثمَّ لم أبرح حتَّى رأيتُه اتَّخذ صفحةً من خالص ماله فجعلها بينه وبين جفان العامَّة، فأمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ يرغب في أن يأكل مع عامَّة المسلمين؛ لما في ذلك من المصالح الاجتماعية، ولكنهُ يتحرَّج من أن يأكل من طعام صنع من مال المسلمين العام، فيأمر بإِحضار طعامٍ خاصٍّ له من خالص ماله، وهذا مثالٌ رفيعٌ في العفَّة، والورع؛ إِذ أنَّ الأكل من مال المسلمين العامِّ معهم ليس فيه شبهة تحريم، لأنَّه منهم، ولكنَّه قد أعفَّ نفسه من ذلك ابتغاءً ممَّا عند الله تعالى، ولشدَّة خوفه من الله تعالى خشي أن يكون ذلك من الشُّبهات، فحمى نفسه منه.
وعن عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر ـ رضي الله عنه ـ فكانت له ناقةٌ يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم، فسقاه لبناً أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللَّبن لك ؟ قال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّ النَّاقة انفلت عليها ولدها، فشربها، فحلبت لك ناقةً من مال الله. فقال: ويحك، تسقيني ناراً ؟! واستحلَّ ذلك اللَّبن من بعض النَّاس، فقيل: هو لك حلالٌ يا أمير المؤمنين ! ولحمها.
فهذا مثلٌ من ورع أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ حيث خشي من عذاب الله ـ جلَّ وعلا ـ لمَّا شرب ذلك اللبن مع أنَّه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئنَّ نفسه إِلا بعد أن استحلَّ ذلك من بعض كبار الصَّحابة رضي الله عنهم الَّذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر.
وهذا الخبر وأمثاله يدلُّ على أنَّ ذكر الاخرة بما فيها من حسابٍ، ونعيمٍ أو شقاءٍ، أخذ بمجامع عمر، وملأ عليه تفكيره، حتَّى أصبح ذلك موجِّهاً لسلوكه في هذه الحياة. لقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ شديد الورع، وقد بلغ به الورع فيما يحقُّ له، ولا يحقُّ: أنَّه مرض يوماً، فوصفوا له العسل دواءً، وكان في بيت المال عسلٌ جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداوَ عمرُ بالعسل، كما نصحه الأطبَّاء، حتَّى جمع الناس، وصعد المنبر، واستأذن الناس: إِن أذنتم لي، وإِلا فهو عليَّ حرامٌ، فبكى النَّاس إِشفاقاً عليه، وأذنوا له جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درُّك يا عمر ! لقد أتعبت الخلفاء بعدك.
4 ـ تواضعه:
عن عبد الله بن عبَّاس، قال: كان للعبَّاس ميزابٌ على طريق عمر، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة، وقد كان ذُبح للعبَّاس فرخان، فلمَّا وافى الميزاب صبَّ ماءً بدم الفرخين، فأصاب عمر، فأمر عمر بقلعه، ثمَّ رجع عمر، فطرح ثيابه، ولبس ثياباً غير ثيابه، ثمَّ جاء، فصلَّى بالنَّاس فأتاه العباس، فقال: واللهِ إِنَّه للموضع الَّذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر للعبَّاس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتَّى تضعه في الموضع الَّذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففعل ذلك العبَّاس.
وعن الحسن البصريِّ قال: خرج عمر ـ رضي الله عنه ـ في يومٍ حارٍّ واضعاً رداءه على رأسه، فمرَّ به غلامٌ على حمارٍ، فقال: يا غلام ! احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب يا أمير المؤمنين ! قال: لا ! ارْكَبْ وأركبُ أنا خلفك، تريدُ تحملني على المكان الوطيء، وتركب أنت على الموضع الخشن ! فركب خلف الغلام، فدخل المدينة، وهو خلفه والنَّاس ينظرون إِليه.
وعن سنان بن سلمة الهذلي، قال: خرجت مع الغلمان ونحن نلتقط البلح، فإِذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ومعه الدِّرَّة، فلمَّا راه الغلمان تفرَّقوا في النَّخل، قال: وقمت في إِزاري شيءٌ قد لقطته، فقلت: يا أمير المؤمنين ! هذا ما تلقي الرِّيح. قال: فنظر إِليه في إِزاري فلم يضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين ! الغلمان الان بين يديَّ، وسيأخذون ما معي، قال: كلا، امشِ، قال: فجاء معي إِلى أهلي.
وقدم على عمر بن الخطَّاب وفدٌ من العراق فيهم الأحنف بن قيس في يومٍ صائفٍ شديد الحرِّ، وعمر معتجرٌ (معمَّمٌ) بعباءة يهنأ بعيراً من إِبل الصَّدقة (أي يطليه بالقطران) فقال: يا أحنف ! ضع ثيابك، وهلمَّ، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير، فإِنَّه من إِبل الصَّدقة؛ فيه حقُّ اليتيم، والأرملة، والمسكين. فقال رجلٌ من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين ! فهلا تأمر عبداً من عبيد الصَّدقة، فيكفيك ؟ فقال عمر: وأيُّ عبدٍ هو أعبدُ منِّي، ومن الأحنف ؟ إِنَّه مَنْ ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيِّده في النَّصيحة، وأداء الأمانة.
وعن عروة بن الزُّبير ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين ! لا ينبغي لك هذا ! فقال: لمَّا أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوةٌ، فأردت أن أكسرها.
وعن أنس بن مالكٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت عمر بن الخطاب يوماً، وخرجت معه حتَّى دخل حائطاً، فسمعته يقول ـ وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط ـ: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ، والله يا بن الخطاب، لتتقينَّ الله، أو ليعذبنَّك!
وعن جبير بن نفير: أنَّ نفراً قالوا لعمر بن الخطاب: ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط، ولا أقول للحقِّ، ولا أشدَّ على المنافقين منك يا أمير المؤمنين ! فأنت خير النَّاس بعد رسول الله. فقال عوف بن مالك: كذبتم ـ والله ـ لقد رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال: مَنْ هو ؟ فقال: أبو بكر، فقال عمر: صدق عوف، وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسكِ، وأنا أضلُّ من بعير أهلي ـ يعني: قبل أن يسلم ـ لأنَّ أبا بكر أسلم قبله بستِّ سنين.
وهذا يدلُّ على تواضع عمر، وتقديره للفضلاء، ولا يقتصر على الأحياء منهم، ولكنَّه يعمُّ منهم الموتى كذلك، فلا يرضى أن ينكر فضلهم، أو يغفل ذكرهم، ويظلُّ يذكرهم بالخير في كل موقفٍ، ويحمل النَّاس على احترام هذا المعنى النَّبيل، وعدم نسيان ما قدَّموه من جلائل الأعمال، فيبقى العمل النَّافع متواصلَ الحلقات، يحمله رجالٌ من رجالٍ إِلى رجالٍ، فلا ينسى العمل الطَّيب بغياب صاحبه، أو وفاته، وفي هذا وفاءٌ، وفيه إِيمانٌ.
إِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ لا يقرُّ إِغفال فضل مَنْ سبقه في هذا المقام، ولا يرضى أن تذهب أفضال السَّابقين أدراج النِّسيان. إِنَّ الأمَّة الَّتي تنسى، أو تُغفل ذكر من خدموها أمَّةٌ مقضيٌّ عليها بالتَّبار، أليس من الخير أن يُربَّى النَّاسُ على هذه الخلال السَّامية ؟ لقد تربَّى عمر على كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصَّلاة والسَّلام، فعلَّماه ما تعجِز عنه كتب التَّربية، والأخلاق، قديمها، وحديثها، وما يزال كتاب الله بين أيدينا، وما تزال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظةً لدينا، وفيها علمٌ وتربيةٌ، وأخلاقٌ بما لا يقاس عليه.
5 ـ حلمه:
عن ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قال: قدم عيينة بن حصين بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحرِّ بن قيسٍ، وكان من النَّفر الَّذين يُدنيهم عمر، وكان القرَّاء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا، أو شبَّاناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي ! هل لك وجهٌ عند هذا الأمير ؟ فاستأذنْ لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباسٍ: فاستأذن الحرُّ لعيينة، فأذن له عمر، فلما فدخل عليه؛ قال: هيْ يا بن الخطَّاب، فوالله ما تعطينا الجزل! ولا تحكم فينا بالعدل ! فغضب عمر حتَّى همَّ أن يوقع به، فقال له الحرُّ: يا أمير المؤمنين ! إِنَّ الله تعالى قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ *} [الأعراف: 199]. وإِنَّ هذا من الجاهلين، والله ما جاوزوها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله، فعندما سمع رضي الله عنه الآية الكريمة هدأت ثائرته، وأعرض عن الرَّجل الَّذي أساء إِليه في خلقه عندما اتَّهمه بالبُخل، وفي دينه عندما اتهمه بالجور في القَسْمِ، وتلك الَّتي يهتمُّ لها عمر، وينصَب، وَمَنْ منَّا يملك نفسه عند الغضب ؟ وخاصَّةً إِذا كان للغضب ما يحمل عليه، كثيرون لا أظنُّ، ولا قليلون.
متى نتجمَّل بهذه التَّعاليم لنكون مثلاً قرانياً نتحرَّك وفق ما نقرأ في كتاب الله الكريم ؟ متى يكون خلقنا القران؟ وعندما خطب عمر بالجابية في الشَّام تحدَّث عن الأموال، وكيفية القسمة، وعن أمورٍ ذكر منها...: وإِني أعتذر إليكم عن خالد بن الوليد فإِنِّي أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطى ذا البأس، وذا الشَّرف، وذا اللِّسان، فنزعته، وأمرت أبا عبيدة بن الجرَّاح، فقام أبو عمرٍو بن حفص بن المغيرة، فقال: والله ما اعتذرت يا عمر ! ولقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغمدت سيفاً سلَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعت أمراً نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطعت رحماً، وحسدت ابن العمِّ. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: إِنَّك قريب القرابة، حديث السِّنِّ، تغضب في ابن عمك.
هذه بعض صفاته الَّتي كانت ثماراً لتوحيده، وإِيمانه بالله، واستعداده للقدوم على الله تعالى، وقد تحدَّث العلماء، والباحثون عن صفاته الشَّخصيَّة، والَّتي من أهمها: القوة الدِّينيَّة، والشَّجاعة، والإِيمان القويُّ، والعدل، والعلم، والخبرة، وسعة الاطِّلاع، والهيبة وقوة الشَّخصية، والفراسة، والفطنة، وبعد النَّظر، والكرم، والقدوة الحسنة، والرَّحمة، والشِّدَّة، والحَزْم، والغلظة، والتَّقوى، والورع، وتكلَّموا عن سمات السُّلوك القيادي عند الخليفة عمر بن الخطاب، والتي من أهمِّها: سماع النَّقد، والقدرة على تفعيل النَّاس، وإِيجاد العمل، والمشاركة في اتخاذ القرارات بالشُّورى، والقدرة على إِحداث التَّغيير والتقلُّب في المواقف الطارئة، وشدَّة مراقبته للولاة، والأمراء. وفي ثنايا البحث سوف يلاحظ القارئ الكريم هذه الصِّفات، وأكثر، ولا أريد حصرها في هذا المبحث خوفاً من التَّكرار.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي