الأحد

1446-07-12

|

2025-1-12

الحريات المتعددة زمن الفاروق؛ من ضروريات الحكم الإسلامي الراشد(ج2)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة التاسعة عشر

 

1ـ حقُّ الأمن، وحرمة المسكن، وحرِّيَّة الملكيَّة:

إِنَّ الإِسلام أقرَّ حقَّ الأمن في العديد من الآيات القرآنية، والأحاديث النَّبويَّة، قال تعالى: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ *} [البقرة: 193]. وقال أيضاً: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

وقد عرف الإِسلام أيضاً حقَّ الحياة؛ الذي هو أوسع من حقِّ الأمن؛ لأنَّ هذا الأخير يتضمَّن فعلاً سلبيّاً من جانب الدَّولة يعبر عنه بالامتناع عن الاعتداء أو التَّهديد، في حين أنَّ حقَّ الحياة يتضمَّن علاوةً على ذلك فعلاً إِيجابيّاً، وهو حماية الإِنسان، ودمه من أيِّ اعتداءٍ، أو تهديدٍ، ويجعل هذه الحماية مسؤوليَّةً عامَّةً ملقاةً على عاتق النَّاس كافّةً؛ لأنَّ الاعتداء بدون حقٍّ على أحدهم هو بمثابة الاعتداء عليهم جميعاً، قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

ومن المنطلق القرآني، والممارسة النَّبويَّة تكفَّل الفاروق في عهده للأفراد بحقِّ الأمن، وحقِّ الحياة، وسهر على تأمينهما، وصيانتهما من أيِّ عبثٍ، أو تطاول. وكان الفاروق ـ رضي الله عنه ـ يقول: (إِني لم أستعمل عليكم عمَّالي ليضربوا أبشاركم، ويشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم، ولكن استعملتهم ليعلِّموكم كتاب ربِّكم، وسنَّة نبيِّكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فليرفعها إِليَّ حتَّى أقصَّه منه) ، وجاء عن عمر أيضاً قوله: ليس الرَّجل بمأمونٍ على نفسه إِن أجعتُه، أو أخفتُه، أو حبستُه أن يقرَّ على نفسه.

وقوله هذا يدلُّ على عدم جواز الحصول على الإِقرار، والاعتراف من مشتبه به في جريمةٍ تحت الضَّغط، أو التَّهديد سواءٌ أكانت الوسيلة المستعملة بذلك مادِّيَّة (كحرمانه من عطائه، أو مصادرة أمواله) أو معنويَّة (كاللجوء إِلى تهديده، أم تخويفه بأيِّ نوع من العقاب) وجاء في كتابه لأبي موسى الأشعريِّ بصفته قاضياً: (واجعل للمدَّعي حقّاً غائباً، أو بيِّنة أمداً ينتهي إِليه، فإِن أحضر بيِّنته؛ أخذت له بحقِّه، وإِلا وجهت عليه القضاء، فإِنَّ ذلك أنفى للشَّكِّ) وهذا القول يدلُّ على أنَّ حقَّ الدِّفاع كان محترماً، ومصوناً.

وفيما يتعلَّق بحرمة المسكن، فإِنَّ الله سبحانه حرَّم دخول البيوت والمساكن بغير موافقة أهلها، أو بغير الطَّريقة المألوفة لدخولها، فقال سبحانه بهذا الشأن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ *} [النور: 27 ـ 28].

وقال أيضاً: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، كما قال: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] وقد كانت حرمة المسكن مكفولةً، ومصونةً في عهد الفاروق، وعصر الخلفاء الرَّاشدين، وأمَّا حرِّيَّة الملكيَّة؛ فقد كانت مكفولةً، ومصونةً أيضاً في عصر الرَّاشدين ضمن أبعد الحدود الَّتي تقرُّها الشَّريعة الإِسلاميَّة في هذا المجال، فحين اضطر عمر ـ رضي الله عنه ـ لأسبابٍ سياسيَّة، وحربيَّة لإِجلاء نصارى نجران، ويهود خيبر من قلب شبه الجزيرة العربيَّة، إِلى العراق والشام أمر بإِعطائهم أرضاً كأرضهم في الأماكن الَّتي انتقلوا إِليها احتراماً منه، وإِقراراً لحقِّ الملكيَّة الفردية؛ الذي يكفله الإِسلام لأهل الذمَّة مثلما يكفله للمسلمين، وعندما اضطر عمر إِلى نزع ملكيَّة بعض الدُّور من أجل العمل على توسيع المسجد الحرام في مكَّة، ولم يكن دفعه للتَّعويض العادل إلا اعترافاً منه، وإِقراراً بحقِّ الملكيَّة الفرديَّة؛ الَّتي لا يجوز مصادرتها حتَّى في حالة الضَّرورة إِلا بعد إِنصاف أصحابها.

وحرِّيَّة الملكيَّة لم تكن في عهد الراشدين مطلقةً، وإِنمَّا هي مقيَّدةٌ بالحدود الشَّرعية، وبمراعاة المصلحة العامَّة، فقد روي: أنَّ بلالاً بن الحارث المزني جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يستقطعه أرضاً، فأقطعه أرضاً طويلةً عريضة، فلمَّا الت الخلافة إِلى عمر رضي الله عنه؛ قال له: يا بلال ! إِنَّك استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً طويلةً عريضةً، فقطعها لك، وإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنع شيئاً يسأله، وأنت لا تطيق ما في يدك. فقال: أجل. فقال عمر: فانظر ما قويت عليه منها، فأمسكه، وما لم تطق، وما لم تقو عليه، فادفعه إِلينا، نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال عمر: والله لتفعلنَّ ! فأخذ عمر ما عجز عن عمارته، فقسمه بين المسلمين.

وهذا يدلُّ على أنَّ الملكيَّة الفرديَّة مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بمصلحة الجماعة، فإِن أحسن المالك القيام بما يتطلَّبه معنى الاستخلاف في الرِّعاية، والاستثمار؛ فليس لأحدٍ أن ينازعه ملكه، وإِلا فإنَّ لولي الأمر أن يتصرَّف بما يحول دون إِهماله.

2ـ حرية الرأي:

كفل الإِسلام للفرد حرِّيَّة الرأي كفالةً تامَّةً، وقد كانت هذه الحرِّيَّة مؤمنةً، ومصونةً في عهد الخلفاء الرَّاشدين، فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يترك الناس يبدون اراءهم السَّديدة، ولا يقيِّدهم، ولا يمنعهم من الإِفصاح عمَّا تكنُّه صدورهم، ويترك لهم فرصة الاجتهاد في المسائل الَّتي لا نصَّ فيها، فعن عمر: أنَّه لقي رجلاً، فقال: ما صنعت ؟ قال: قضى عليٌّ، وزيدٌ بكذا. قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك، والأمر إِليك ؟ قال: لو كنت أردُّك إِلى كتاب الله، وإِلى سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ لفعلت، ولكنِّي أردُّك إِلى رأيٍ، والرَّأي مشتركٌ ما قال عليٌّ، وزيد.

وهكذا ترك الفاروق الحرِّيَّة للصَّحابة يبدون اراءهم في المسائل الاجتهاديَّة، ولم يمنعهم من الاجتهاد، ولم يحملهم على رأيٍ معيَّنٍ.

وكان النَّقد، أو النُّصح للحاكم في عهد الفاروق، والخلفاء الرَّاشدين مفتوحاً على مصراعيه، فقد قام الفاروق ـ رضي الله عنه ـ يخطب، قال: أيُّها الناس ! من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً، فليقوِّمه. فقام له رجل، وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفنا ! فقال عمر: الحمد لله الَّذي جعل في هذه الأمة مَنْ يقوِّم اعوجاجَ عمرَ بسيفه.

وقد جاء في خطبة عمر لما تولَّى الخلافة: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وإِحضاري النَّصيحة.

واعتبر الفاروق ممارسة الحرِّيَّة السِّياسيَّة البنَّاءة (النَّصيحة) تعد واجباً على الرَّعيَّة، ومن حقِّ الحاكم أن يطلب بها: أيُّها الرَّعية إِنَّ لنا عليكم حقّاً: النَّصيحة بالغيب، والمعونة على الخير.

وكان يرى أنَّ من حقِّ أيِّ فردٍ في الأمَّة أن يراقبه، ويقوِّم اعوجاجه؛ ولو بحدِّ السَّيف؛ إِن هو حاد عن الطَّريق، فقال: أيها النَّاس من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً؛ فليقوِّمه.

وكان يقول: أحبُّ النَّاس إِليَّ مَنْ رفع إِليَّ عيوبي، وقال أيضاً: إِنِّي أخاف أن أخطىء فلا يردَّني أحدٌ منكم تهيُّباً منِّي.

وجاءه يوماً رجلٌ، فقال له على رؤوس الأشهاد: اتَّق الله يا عمر ! فغضب بعض الحاضرين من قوله، وأرادوا أن يُسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إِذا لم تقولوها، ولا خير فينا إِذا لم نسمعها، ووقف ذات يوم يخطب في النَّاس، فما كاد يقول:

(أيُّها النَّاس ! اسمعوا، وأطيعوا) حتَّى قاطعه أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر ! فقال عمر بهدوءٍ: لِمَ يا عبد الله ؟! قال: لأنَّ كلاًّ منَّا أصابه قميصٌ واحدٌ من القماش لستر عورته وعليك حُلَّة ! فقال له عمر: مكانك، ثمَّ نادى ولده عبد الله بن عمر، فشرح عبد الله: أنَّه قد أعطى أباه نصيبه من القماش؛ ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصَّحابة، وقال الرَّجل في احترام وخشوع: الان السَّمع والطَّاعة يا أمير المؤمنين! وخطب ذات يومٍ، فقال: لا تزيدوا في مهور النِّساء على أربعين أوقيَّةً، وإِن كانت بنت ذي القَصَّة ـ يعني: يزيد بن الحصين ـ فمن زاد ألقيت الزِّيادة في بيت المال. فقالت امرأة معترضةً على ذلك: ما ذاك لك ! قال: ولم ؟ قالت: لأنَّ الله تعالى قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *} [النساء: 20]. فقال عمر: امرأة أصابت، ورجلٌ أخطأ.

وجاء في رواية: أنَّه قال: اللَّهمَّ غفراً ! كلُّ إِنسانٍ أفقه من عمر، ثمَّ رجع، فركب المنبر، فقال: أيها الناس ! إِنِّي كنت نهيتكم أن تزيدوا النِّساء في صدقاتهن على أربعمئة درهمٍ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبَّ، وطابت به نفسه، فليفعل.

وليست حرِّيَّة الرأي مطلقةً في نظر الشَّريعة؛ فليس للإِنسان أن يقطع في كلِّ ما يشاء، بل مقيَّدةٌ بعدم مضرَّة الاخرين بإِبداء الرأي، سواءٌ كان الضَّرر عامّاً، أو خاصّاً. وممَّا منعه عمر ـ رضي الله عنه ـ وحظره، وقيَّده:

أـ الآراء الضَّالَّة المضلَّة في الدِّين، واتِّباع المتشابهات: ومن ذلك قصَّة النَّبطي الَّذي أنكر القدر بالشَّام، فقد اعترض على عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو يخطب بالشَّام حينما قال عمر: ومن يضلل الله فلا هادي له، فاعترض النَّبطي منكراً للقدر، قائلاً: إِنَّ الله لا يضلُّ أحداً ! فهدَّده عمر بالقتل إِن أظهر مقولته القدريَّة مرَّة أخرى.

وعن السَّائب بن يزيد: أنَّه قال: أتى رجلٌ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أمير المؤمنين ! {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا *فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا *} [الذاريات: 1 ـ 2] فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنت هو ؟ فقام إِليه، وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتَّى سقطت عمامته، فقال: والَّذي نفس عمر بيده ! لو وجدتك محلوقاً؛ لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه، واحملوه على قَتَبٍ، ثمَّ اخرجوا حتَّى تقدموا به بلاده، ثمَّ ليقم خطيباً، ثمَّ ليقل: إِنَّ صبيغاً ابتغى العلم، فأخطأه، فلم يزل وضيعاً في قومه حتَّى هلك.

ب ـ والوقوع في أعراض النَّاس بدعوى الحرِّيَّة:

وقد حبس عمر ـ رضي الله عنه ـ الحطيئة من أجل هجائه الزِّبرقان بن بدر بقوله:

دَعِ المكارِمَ لاَ تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي

لأنَّه شبهه بالنِّساء في أنَّهنَّ يطعمن، ويسقين، ويكسين، وقد توعَّد عمر الحطيئة بقطع لسانه إِذا تمادى في هجو المسلمين، ونهش أعراضهم، وقد استعطفه الحطيئة وهو في سجنه بشعر منه قوله:

ماذا أقولُ لأفراخٍ بِذِيْ مَرَخٍ زُغْبِ الحَوَاصِلِ لاَ مَاءٌ وَلاَ شَجَرُ

أَلْقَيْتَ كاسِبَهُم فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ فَاغْفِرْ عَلَيْكَ سَلاَمُ اللهِ يَا عُمَرُ

أَنْتَ الأَمِيْرُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ أَلْقَى إِلَيْكَ مَقَالِيْدَ النُّهى البَشَرُ

فرقَّ له قلب عمر، وخلَّى سبيله، وأخذ عليه ألا يهجو أحداً من المسلمين، وقد ورد: أنَّ الفاروق اشترى أعراض المسلمين من الحُطيئة بمبلغ ثلاثة الاف درهمٍ، حتَّى قال ذلك الشَّاعر:

وأَخَذْتَ أَطْرَافَ الكَلاَمِ فَلَمْ تَدَعْ شَتْمَاً يَضُرُّ وَلاَ مَدِيْحاً يَنْفَعُ

وَمَنَعْتَنِي عِرْضَ البَخِيلِ فَلَمْ يَخَفْ شَتْمِي وَأَصْبَحَ امِناً لاَ يَفْزَعُ

3ـ رأي عمر في الزَّواج بالكتابيَّات:

لمَّا علم عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ حذيفة بن اليمان تزوَّج يهوديَّةً كتب إِليه: خلِّ سبيلها، فكتب إِليه حذيفة: أتزعم أنَّها حرام فأخلِّي سبيلها ؟ فقال: لا أزعم أنَّها حرامٌ، ولكنِّي أخاف أن تعاطوا المومسات منهنَّ. وفي روايةٍ: إِنِّي أخشى أن تدعوا المسلمات، وتنكحوا المومسات.

قال أبو زهرة: (يجب أن نقرِّر أن الأولى للمسلم ألا يتزوج إِلا مسلمة لتمام الألفة من كلِّ وجهٍ، ولقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ ينهى عن الزَّواج بالكتابيَّات إِلا لغرض سامٍ، كارتباط سياسيٍّ يقصد به جمع القلوب، وتأليفها، أو نحو ذلك..) .

لقد بيَّن المولى عزَّ وجل في كتابه بأنَّ الزَّواج بالمؤمنة، ولو كانت أمةً أولى من الزَّواج بالمشركة، ولو كانت حرَّةً، قال تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *} [البقرة: 221].

ففي هذه الآيات الكريمة ينهى الحقُّ ـ سبحانه وتعالى ـ عن الزَّواج بالمشركات حتَّى يؤمنَّ بالله، ويصدِّقنَ نبيه، وحكم بأفضلية الأمَة المؤمنة بالله ورسوله ـ وإِن كانت سوداء رقيقة الحال ـ على المشركة الحرَّة وإِن كانت ذات جمالٍ، وحسبٍ، ومالٍ، ويمنع في المقابل المؤمنات من الزَّواج بالمشركين ولو كان المشرك أحسن من المؤمن في جماله، وماله، وحسبه، وإِذا كان الزَّواج بالمشركة حراماً بنصِّ هذه الآية فإِن الزَّواج بالكتابية جائزٌ بنصٍّ اخر، وهو قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وهو نصٌّ مخصِّصٌ للعموم في النَّص الأوَّل، هذا هو رأي الجمهور، إِلا أنَّهم قالوا: إِنَّ الزواج بالمسلمة أفضل، هذا فيما إِذا لم تكن هنالك مفاسدُ تلحق الزَّوج، أو الأبناء، أو المجتمع المسلم، أمَّا إِن وجدت مفاسد فإِنَّ الحكم هو المنع، وهذا ما ذهب إِليه بعض العلماء المعاصرين، وهو رأي سبق إِليه عمر بن الخطاب: إِذ هو أوَّل من منع الزَّواج بالكتابيَّات مستنداً في ذلك إِلى حجَّتين:

أـ لأنَّه يؤدي إِلى كساد الفتيات المسلمات، وتعنيسهنَّ.

ب ـ لأنَّ الكتابيَّة تفسد أخلاق الأولاد المسلمين ودينهم.

وهما حجَّتان كافيتان في هذا المنع، إِلا أنَّه إِذا نظرنا إِلى عصرنا فإِنَّنا سنجد مفاسد أخرى كثيرةً استجدَّت، تجعل هذا المنع أشدَّ، وقد أورد الأستاذ جميل محمَّد مبارك مجموعةً من هذه المفاسد منها:

أـ قد تكون للزَّوجة من أهل الكتاب مهمَّة التَّجسُّس على المسلمين.

ب ـ دخول عادات الكفَّار إِلى بلاد المسلمين.

جـ تعرُّض المسلم للتَّجنُّس بجنسيَّة الكفَّار.

د ـ جهل المسلمين المتزوِّجين بالكتابيَّات، ممَّا يجعلهم عجينةً سهلة التَّشكيل في يد الكتابيَّات.

هـ شعور المتزوِّجين بالكتابيَّات بالنَّقص، وهو أمرٌ أدَّى إِليه الجهل بدين الله.

وهي مفاسد كافيةٌ للاستدلال على حرمة الزَّواج بالكتابية في عصرنا.

إِنَّ القيود الَّتي وضعها عمر على الزَّواج بالكتابيَّات تنسجم مع المصالح الكبرى للدَّولة، والأهداف العظمى للمجتمعات الإِسلاميَّة، فقد عرفت الأمم الواعية ما في زواج أبنائها بالأجنبيَّات من المضارِّ، وما يجلبه هذا الزَّواج من أخطارٍ تصيب الوطن عفواً، أو قصداً، فوضعت لذلك قيوداً، وبالذَّات للَّذين يمثِّلونها في المجالات العامَّة، وهو احتياطٌ له مبرِّراته الوجيهة، فالزَّوجة تعرف الكثير من أسرار زوجها إِن لم تكن تعرفها كلَّها، على قدر ما بينهما من مودَّةٍ، وانسجامٍ، ولقد كان لهذه النَّاحية من اهتمام عمر ـ رضي الله عنه ـ مقام الأستاذيَّة الحازمة الحاسبة لكلِّ من جاء بعده كحاكمٍ على مرِّ الزَّمان. إِنَّ الزَّواج من الكتابيَّات فيه مفاسد عظيمةٌ، فإِنهنَّ دخيلاتٌ علينا، ويخالفْنَنَا في كلِّ شيءٍ، وأكثرهنَّ يبقين على دينهنَّ، فلا يتذوَّقْن حلاوة الإِسلام، وما فيه من وفاءٍ، وتقديرٍ للزَّوج.

قدَّر عمر كلَّ ذلك بفهمه لدينه، وبصائر تقديره لطبائع البشر، وبحسن معرفته لما ينفع المسلمين وما يضرُّهم، فأصدر فيه أوامره وعلى الفور، وفي حسمٍ.

لقد كانت الحرِّيَّة في العهد الرَّاشدي مصونةً، ومكفولةً، ولها حدودها، وقيودها، ولذلك ازدهر المجتمع، وتقدَّم في مدار الرُّقي، فالحرِّيَّة حقٌّ أساسيٌّ للفرد، والمجتمع، يتمتَّع بها في تحقيق ذاته، وإِبراز قدراته، وسلب الحرِّيَّة من المجتمع سلبٌ لأهم مقوِّماته، فهو أشبه بالأموات.

إِنَّ الحرِّيَّة في الإِسلام إِشعاعٌ داخليٌّ ملأ جنبات النَّفس الإِنسانيَّة بارتباطها بالله، فارتفع الإِنسان بهذا الارتباط إِلى درجة السُّموِّ والرِّفعة، فأصبحت النَّفس توَّاقةً لفعل الصَّالحات، والمسارعة في الخيرات ابتغاء ربِّ الأرض والسَّموات، فالحرِّيَّة في المجتمع الإِسلامي دعامةٌ من دعائمه، تحقَّقت في المجتمع الرَّاشدي في أبهى صورٍ انعكست أنوارها على صفحات الزَّمان.

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022