قضايا مهمة زمن الفاروق؛ نفقات الخليفة، والبدء بالتَّاريخ الهجري، ولقب أمير المؤمنين
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة العشرون
1ـ نفقات الخليفة:
لمَّا كانت الخلافة ديناً، وقربةً يُتَقَرَّب بها إِلى الله تعالى؛ فإِنَّ من يتولاها، ويحسن فيها فإِنَّه يرجى له مثوبته، وجزاؤه عند الله سبحانه وتعالى، فإِنَّه يجازي المحسن بإِحسانه، والمسيء بإِساءته، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ *} [الأنبياء: 94] ذلك بالنسبة للجزاء الأخرويِّ، وأمَّا بالنسبة للجزاء الدُّنيويِّ فإِنَّ الخليفة الَّذي يحجز منافعه الصَّالحة للأمَّة، ويعمل على أداء الواجب نحوها يستحقُّ عوضاً على ذلك؛ إِذ أنَّ المنافع إِذا حجزت؛ قوبلت بعوضين، فالقاعدة الفقهية: أنَّ كلَّ محبوس لمنفعة غيره يلزمه نفقته، كمُفْتٍ، وقاضٍ، ووالٍ، وأخذ العوض على تولي الأعمال مشروع بإعطاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العُمالة لمن ولاه عملاً.
ولما ولِّي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا، لا يأكل من بيت المال شيئاً حتَّى دخلت عليه في ذلك خصاصةٌ، لم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته، لأنَّه اشتغل عنها بأمور الرَّعية، فأرسل إِلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشارهم في ذلك، فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه ؟ فقال عثمان بن عفان: كل، وأطعم.
وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. وقال عمر لعليٍّ: ما تقول أنت في ذلك؟
قال: غداءٌ، وعشاءٌ، فأخذ عمر بذلك، وقد بيَّن عمر حظَّه من بيت المال، فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيِّم اليتيم، إِن استغنيت عنه؛ تركت، وإِن افتقرت إِليه؛ أكلت بالمعروف.
وجاء في روايةٍ: أنَّ عمر خرج على جماعةٍ من الصَّحابة، فسألهم: ما ترونه يحلُّ لي من مال الله ؟ أو قال: من هذا المال ؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم بذلك منَّا، قال: إِن شئتم أخبرتُكم ما أستحلُّ منه: ما أحجُّ، وأعتمر عليه من الظَّهر، وحلَّتي في الشِّتاء، وحلَّتي في الصَّيف، وقوت عيالي شبعهم، وسهمي في المسلمين، فإِنَّما أنا رجلٌ من المسلمين. قال معمر: وإِنَّما كان الَّذي يحجُّ عليه، ويعتمر بعيراً واحداً.
وقد ضرب الخليفة الرَّاشد الفاروق للحكام أروع الأمثلة في أداء الأمانة فيما تحت أيديهم، فقد روى أبو داود عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: ذكر عمر ابن الخطاب يوماً الفيء، فقال: ما أنا بأحقَّ بهذا الفيء منكم، وما أحدٌ منَّا بأحقَّ به من أحدٍ، إِلا أنَّا على منازلنا من كتاب الله عزَّ وجلَّ، وقَسْمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فالرَّجل وقِدَمُه، والرَّجل وبلاؤه، والرَّجل وعياله، والرَّجل وحاجته.
وعن الرَّبيع بن زياد الحارثي: أنَّه وفد إِلى عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فأعجبته هيئته، ونحوه، فقال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّ أحقَّ النَّاس بطعامٍ لينٍ، ومركبٍ ليِّنٍ، وملبس ليِّنٍ لأنت ـ وكان أكل طعاماً غليظاً ـ فرفع عمر جريدةً كانت معه، فضرب بها رأسه، ثمَّ قال: أما والله ما أراك أردت بها الله ! ما أردت بها إِلا مقاربتي، وإِن كنت لعلَّها لأحسب: أنَّ فيك خيراً، ويحك ! هل تدري مثلي، ومثل هؤلاء ؟ قال: وما مثلُك، ومثلُهم ؟ قال: مثل قوم سافروا، فدفعوا نفقاتهم إِلى رجلٍ منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل يحلُّ له أن يستأثر منها بشيءٍ ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين ! قال: فذلك مثلي، ومثلُهم.
وقد استنبط الفقهاء من خلال الهدي النَّبويِّ والعهد الرَّاشديِّ مجموعةً من الأحكام تتعلَّق بنفقات الخليفة، منها:
أـ أنَّه يجوز للخليفة أن يأخذ عوضاً عن عمله، وقد نصَّ النَّوويُّ، وابن العربيِّ، والبهوتي، وابن مفلح على جواز ذلك.
ب ـ وأنَّ الخليفتين أبا بكرٍ، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ قد أخذا رزقاً على ذلك.
جـ وأنَّ أخذ الرِّزق هو مقابل انشغالهما في أمور المسلمين، كما قاله أبو بكرٍ، وعمر رضي الله عنهما.
د ـ وأنَّ الخليفة له أن يأخذ ذلك سواءٌ كان بحاجةٍ إِليه، أو لا، ويرى ابن المنيِّر: أنَّ الأفضل له أن يأخذ؛ لأنَّه لو أخذ كان أعون في عمله ممَّا لو ترك؛ لأنَّه بذلك يكون مستشعراً بأنَّ العمل واجبٌ عليه.
2ـ بدء التاريخ:
يعدُّ التَّاريخ بالهجرة تطوُّراً له خطره في النَّواحي الحضارية، وكان أوَّل من وضع التَّاريخ بالهجرة عمر، ويُحكى في سبب ذلك عدَّة رواياتٍ، فقد جاء عن ميمون بن مهران: أنَّه قال: دُفِعَ إِلى عمر ـ رضي الله عنه ـ صكٌّ محلُّه في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الَّذي مضى، أو الَّذي هو ات، أو الذي نحن فيه، ثمَّ جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ضعوا للنَّاس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الرُّوم. فقيل: إِنَّه يطول وإِنَّهم يكتبون من عند ذي القرنين. فقال قائل: اكتبوا تاريخ الفرس، قالوا: كلَّما قام ملكٌ طرح ما كان قبله. فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه أقام عشر سنين، فكتب، أو كتب التَّاريخ على هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن عثمان بن عبيد الله، قال: سمعت سعيد بن المسيِّب يقول: جمع عمر ابن الخطَّاب المهاجرين، والأنصار ـ رضي الله عنهم ـ فقال: متى نكتب التَّاريخ ؟ فقال له عليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ: منذ خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من أرض الشِّرك ـ يعني: من يوم هاجر ـ قال:
فكتب ذلك عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنهـ. وعن ابن المسيِّب قال: أوَّل مَنْ كتب التَّاريخ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لستَّ عشرةَ من المحرَّم بمشورة علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقال أبو الزِّناد: استشار عمر في التَّاريخ، فأجمعوا على الهجرة.
وروى ابن حجر في سبب جعلهم بداية التَّاريخ في شهر محرم، وليس في ربيع الأوَّل الشَّهر الَّذي تمَّت فيه هجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ الصَّحابة الذين أشاروا على عمر وجدوا: أنَّ الأمور الَّتي يمكن أن يؤرِّخ بها أربعة، هي: مولده، ومبعثه، وهجرته، ووفاته، ووجدوا: أنَّ المولد، والمبعث لا يخلوا من النِّزاع في تعيين سنة حدوثه، وأعرضوا عن التأريخ بوفاته لما يثيره من الحزن، والأسى عند المسلمين، فلم يبق إِلا الهجرة، وإِنَّما أخروه من ربيع الأول إِلى المحرم؛ لأنَّ ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرَّم؛ إِذ وقعت بيعة العقبة الثَّانية في ذي الحِجَّة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أوَّل هلالٍ استهلَّ بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال محرَّم، فناسب أن يجعل مبتدأً.. ثمَّ قال ابن حجر: وهذا أنسب ما وقعتُ عليه من مناسبة الابتداء بالمحرَّم.
وبهذا الحدث المتميِّز أسهم الفاروق في إِحداث وحدةٍ شاملةٍ بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى في شبه الجزيرة، حيث ظهرت وحدة العقيدة بوجود دينٍ واحدٍ، ووحدة الأمَّة بإِزالة الفوارق، ووحدة الاتِّجاه باتِّخاذ تاريخٍ واحدٍ، فاستطاع أن يواجه عدوَّه وهو واثقٌ من النَّصر.
3ـ لقب أمير المؤمنين:
لمَّا مات أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وكان يدعى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيطول هذا، ولكن أجمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يُدعى به مَنْ بعده من الخلفاء، فقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن المؤمنون، وعمر أميرنا، فدُعي عمر أمير المؤمنين، فهو أوَّل من سُمِّي بذلك.
وعن ابن شهاب: أنَّ عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة: لمَّا كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يكتب: من أبي بكرٍ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يكتب بعده: من عمر بن الخطاب خليفة أبي بكرٍ، مَنْ أوَّل من كتب: أمير المؤمنين ؟ فقال: حدَّثتني جدَّتي الشِّفاء ـ وكانت من المهاجرات الأول، وكان عمر إِذا دخل السوق؛ دخل عليها ـ قالت: كتب عمر بن الخطاب إِلى عاملٍ بالعراق: أن ابعث إِليَّ برجلين جلدين نبيلين أسألهما عن العراق، وأهله، فبعث إِليه صاحب العراقين بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقدما المدينة، فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثمَّ دخلا المسجد، فوجدا عمرو بن العاص، فقالا له: (يا عمرو ! استأذن لنا على أمير المؤمنين) فدخل عمرٌو، فقال: السَّلام عليك يا أمير المؤمنين ! فقال له عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا بن العاص ؟! لتخرجنَّ ممَّا قلت، قال: نعم، قدم لبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقالا: استأذن لنا أمير المؤمنين، فقلت: أنتما والله أصبتما اسمه، إِنَّه أمير، ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من ذلك اليوم.
وفي روايةٍ: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: أنتم المؤمنون، وأنا أميركم، فهو سمَّى نفسه، وبذاك يكون عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه أوَّل من سمِّي بأمير المؤمنين.
وأنَّه لم يسبق إِليه. وإِذا نظر الباحث في كلام أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ رأى أنَّ جميعهم قد اتَّفقوا على تسميته بهذا الاسم، وسار له في جميع الأقطار في حال ولايته.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي،