المؤسسة المالية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه (٤)
الحلقة التاسعة عشر
بقلم الدكتور علي الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
سابعاً : سياسة عثمان في حمى الأرض :
وهي أراضٍ خصِّصت لرعي الإبل ، والخيل الّتي تملكها الدَّولة ، وقد استمرَّت حماية وادي النَّقيع في خلافة أبي بكرٍ ، وعمر رضي الله عنهما حيث كان النَّبيّ (ص) قد حماه للخيل، وطوله ثمانون كيلو متراً ، ويبدأ جنوب المدينة بـ40 كيلو متراً، وقد كثرت المناطق المحميَّة في خلافة عمر رضي الله عنه لكثرة ما تملكه الدَّولة من الإبل ، والخيل المعدَّة للجهاد ، ومن ذلك حمى الرَّبذة لنعَم الزَّكاة ، وعيَّن عليه مولاه هنيَّ ، وأوصاه بالسَّماح لأصحاب الإبل القليلة بالرَّعي فيه دون الأغنياء، وحمى أرضاً في ديار بني ثعلبة رغم احتجاجهم على ذلك ، فقد أجابهم : البلادُ بلاد الله تحمى لنَعَم مال الله.
ونهج عثمان نهج من سبقه في الحمى بسبب اتِّساع الدَّولة ، وازدياد الفتوحات في عهده ، وقد اقتصر في الحمى على صدقات المسلمين لحمايتها ، وعلى هذا فإنَّ عثمان رضي الله عنه زاد في الحمى لمَّا زادت الرَّعيَّة، وإذا جاز أصله للحاجة إليه؛ جازت الزِّيادة لزيادة الحاجة.
ولما كان أبو بكر وعمر قد حميا دون أن ينكر عليهم أحدٌ ذلك ، فإنَّ عثمان وسَّع الحمى لكثرة إبل الصَّدقة ، وماشيتها ، وكثرة الخصومات بين رعاة ماشية الصَّدقة ، فلا اعتراض على فعله، بل ما فعله أبو بكر ، وعمر ، وعثمان في الحمى قد اشتُهر بين الصَّحابة ، فلم ينكر عليهم منكرٌ ، ويعتبر ذلك إجماعاً، وقد حكى الإجماع ابن قدامة.
ثامناً : أنواع النفقات العامَّة في عهد عثمان :
1ـ نفقات الخليفة :
كان عثمان رضي الله عنه لا يأخذ من بيت مال المسلمين شيئاً ، فقد كان أكثر قريش مالاً وأجدَّهم في التِّجارة ، فكان ينفق على أهله ، وَمَنْ حوله من ماله الخاصِّ.
2ـ صرف مرتبات الولاة من بيت المال :
في عهد عثمان رضي الله عنه كانت الدَّولة الإسلاميَّة مقسَّمةً إلى ولايات ، وكان على كلِّ ولاية والٍ يعيِّنه الخليفة ، يأخذ مرتَّبه من بيت المال ، ويدير شؤون الولاية طبقاً لأحكام الشَّريعة الإسلاميَّة ، وإذا لم يعيِّن الخليفة ممثِّلاً له على بيت مال الولاية ، فإنَّه يدخل في اختصاص الوالي الإشراف على جباية موارد الولاية ، وهي : الجزية ، والخراج ، وعشور التِّجارة ، ينفق منها على شؤون الولاية ، والفائض يرسله إلى بيت مال المسلمين في المدينة ، أمَّا الزَّكاة الّتي تحصل من أغنياء الولاية ، فكانت تصرف على فقرائهم.
3ـ الإنفاق من بيت المال على مرتبات الجند :
كان بيت المال يدفع مرتبات للجند علاوة على ما يحصلون عليه من نصيب في الغنائم ، وكان جند كل ولاية يحصلون على مرتباتهم من بيت مال الولاية ، فمثلاً بالنسبة لجند مصر كتب عثمان بن عفَّان إلى عبد الله بن سعد والي مصر الكتاب التالي لصرف مرتبات الجند المرابطين في الإسكندرية : قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية وقد نقضت الروم مرتين ، فألزم الإسكندرية رابطتها ثم أجر عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر.
4ـ الإنفاق العام على الحجِّ من بيت المال :
كان الإنفاق العامُّ على الحجِّ في عهد عثمان رضي الله عنه من بيت المال ، وكانت كسوة الكعبة من القباطيِّ وهي ثيابٌ من كتَّان من نسيج مصر.
5ـ تمويل إعادة بناء المسجد النَّبويِّ من بيت المال :
كلَّم النَّاسُ عثمان بن عفَّان أوَّل ما تولى الخلافة أن يزيد في مسجد الرَّسول (ص)؛ إذْ كان يضيق بالنَّاس في صلاة الجمعة بسبب امتداد الفتح ، وزيادة سكَّان المدينة زيادةً عظيمة ، فاستشار عثمان أهل الرَّأي ، فأجمعوا على هدم المسجد ، وبنائه ، وتوسيعه، فصلَّى عثمان الظُّهر بالنَّاس ، ثمَّ صعد المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أيُّها الَّناس ! إنِّي قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله (ص) ، وأزيد فيه، وأشهد أنِّي سمعت رسول الله يقول : « من بنى مسجداً ، بنى الله له بيتاً في الجنَّة» وكان لي فيه سلفٌ ، وإمامٌ سبقني ، وتقدَّمني عمر بن الخطَّاب ، كان قد زاد فيه ، وبناه ، وقد شاورت أهل الرَّأي من أصحاب رسول الله ، فأجمعوا على هدمه ، وبنائه ، وتوسيعه ، فحسن النَّاس يومئذٍ ذلك ، ودعوا له ، فأصبح ، فدعا العمَّال ، وباشر ذلك بنفسه.
6ـ تمويل توسعة المسجد الحرام من بيت المال :
كانت الكعبة أيَّام الرَّسول (ص) قائمة ، وليس حولها إلا فناء ضيِّقٌ يصلِّي النَّاس فيه ، وظلَّ كذلك في خلافة أبي بكرٍ ، وفي عهد عمر وسَّع المسجد ، فاشترى دوراً حول الكعبة ، وهدمها ، وأدخلها في بيت الله الحرام ، وأحاطها بجدارٍ قصيرٍ، وأدخل إنارة المسجد ليلاً ، وذلك لأنَّ المسجد كان قد ضاق بالحجَّاج الّذين يأتون لأداء فريضة الحجِّ بعد أن امتدَّت فتوحات الإسلام ، ودخل النَّاس في دين الله أفواجاً، فلمَّا ضاق المسجد ثانيةً في عهد عثمان ؛ احتذى بمثل عمر ، وأضاف إلى الكعبة دوراً اشتراها ، وأحاطها بجدارٍ قصيرٍ لا يرتفع إلى قامة الرَّجل كما فعل عمر من قبل.
كما كان الولاة يبنون المساجد في ولايتهم ، وينفقون عليها من بيت مال الولاية، كما حدث عند بناء مسجد الرَّحمة بالإسكندرية ، ومسجد في إصطخر في فتوحات المشرق.
7 ـ الإنفاق على إنشاء أوَّل أسطولٍ بحريٍّ :
ساهم بيت مال المسلمين في إنشاء أوَّل أسطول بحريٍّ في الإسلام في عهد عثمان، وسيأتي دور هذا الأسطول في الفتوحات الإسلاميَّة بإذن الله تعالى عند حديثنا عن الفتوحات.
8 ـ الإنفاق على تحويل السَّاحل من الشُّعيبة إلى جدَّة :
في سنة ستٍّ وعشرين هجريَّةٍ كلَّم أهل مكَّة عثمان رضي الله عنه أن يحوَّل السَّاحل من الشُّعيبة ، وهي ساحل مكَّة قديماً في الجاهليَّة ، إلى ساحلها اليوم وهي جدَّة لقربها من مكَّة ، فخرج عثمان إلى جدَّة ، ورأى موضعها ، وأمر بتحويل السَّاحل إليها، ودخل البحر ، واغتسل فيه ، وقال : إنَّه مباركٌ ، وقال لمن معه : ادخلوا البحر للاغتسال ، ولا يدخل أحد إلا بمئزرٍ ، ثمَّ خرج من جدَّة من طريق عسفان إلى المدينة، وترك النَّاس ساحل الشُّعيبة في ذلك الزَّمان ، واستمرَّت جدة بندراً إلى الآن لمكَّة المشرَّفة.
9ـ تمويل حفر الآبار من بيت مال المسلمين :
ومن الأعمال الّتي موَّلها بيت مال المسلمين في عهد عثمان حفر بئرٍ للشُّرب بالمدينة ، وتسمى بئر أريس ، وهي على ميلين من المدينة وكان ذلك في سنة ثلاثين هجريّة ، وحدث أن قعد عثمان على رأس البئر ، وكان بأصبعه خاتم رسول الله فانسلَّ الخاتم من أصبعه ، فوقع في البئر ، فطلبوه في البئر ، ونزحوا ما فيها من الماء فلم يقدروا عليه ، فجعل فيه مالاً عظيماً لمن جاء به ، واغتمَّ لذلك غمّاً شديداً ، فلمَّا يئس من العثور على الخاتم صنع خاتماً آخر مثله من فضَّةٍ على مثاله، وشبهه ونقش عليه ( محمَّد رسول الله ) فجعله في أصبعه حتَّى قتل ، فلمَّا قتل ذهب الخاتم من يده ، فلم يُدْرَ من أخذه.
10 ـ الإنفاق على المؤذِّنين من بيت المال :
كان عثمان رضي الله عنه أوَّل من رزق المؤذنين من بيت المال ، قال الإمام الشَّافعيُّ : ( قد أرزق المؤذِّنين إمام هدى عثمان بن عفَّان ) ، وقد جعل عثمان رضي الله عنه على الأذان جعالةً ، ولا يستأجر استئجاراً.
11ـ تمويل أهداف الإسلام العليا :
يتَّضح من دراسة النَّفقات العامَّة السَّابقة من بيت المال : أنَّها ساهمت في تمويل الأهداف العليا للدَّولة الإسلاميَّة ، فضلاً عن الإنفاق العامِّ على إدارة الدَّولة ، ومصالح الرَّعية ، ثمَّ الإنفاق على نشر الإسلام كي تكون كلمة الله هي العليا . وتمَّ تمويل إنشاء أوَّل أسطولٍ بحريٍّ للدولة الإسلاميَّة ، كما تمَّ تعمير بيوت الله بالإنفاق على إقامة المساجد ، وتجديدها ، ورزق المؤذِّنين ، والولاة ، والقضاة ، والجند ، وعمَّال الدَّولة ، كما تمَّ الصَّرف على رحلات الحجّ إلى بيت الله الحرام، وكسوة الكعبة، وهي قبلة الإسلام والمسلمين، كما أنَّ بيت مال المسلمين قدَّم أمواله لحفر الأبار ؛ ليشرب منها الغادي ، والرَّائح من مواطني الدَّولة الإسلاميَّة .
ومن مصادر الدَّولة كالزَّكاة ، وخمس الغنائم ، تمَّ تمويل شرائح المجتمع الضَّعيفة في الدَّولة الإسلاميَّة ، وهم الفقراء ، والمساكين ، واليتامى ، ومساندة الغرباء ، وأبناء السَّبيل ، وفكِّ الرِّقاب.
تاسعاً : استمرار نظام الأعطيات في عهد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه :
استمرَّ نظام الأعطيات في عهد عثمان رضي الله عنه كما كان في عهد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ، فقد اعتمد السَّابقة في الدِّين أساساً للعطاء ، وكتب بذلك لواليه على الكوفة بقوله : أمَّا بعد : ففضِّل أهل السَّابقة ، والقدمة ممَّن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعاً لهم ، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحقِّ ، وتركوا القيام به ، وقام به هؤلاء ، واحفظ لكلٍّ منزلته ، وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحقِّ ، فإنَّ المعرفة بالنَّاس بها يصاب العدل.
وحين اتَّسعت الفتوحات الإسلاميَّة في عهده ، كثرت موارد الدَّولة الماليَّة ممَّا أدى بالخليفة عثمان رضي الله عنه أن يتَّخذ له الخزائن، فانعكس ذلك بدوره على العطاء، فزاد في أرزاق الجند بمقدار مئة درهم لكلٍّ منهم ، فهو أوَّل خليفة زاد النَّاس في العطاء ، واستنَّ به الخلفاء من بعده في الزِّيادة.
قال الحسن : وشهدت منادي عثمان ينادي : يا أيُّها الناس ! اغدوا على كسوتكم، فيأخذون الحلل ، واغدوا على السَّمن والعسل ، قال الحسن : أرزاقٌ دارَّةٌ ، وخيرٌ كثيرٌ، وذاتُ بينٍ حسنة ، ما على الأرض مؤمنٌ يخاف مؤمناً إلا يودُّه ، وينصره ، ويألفه.
واهتمَّ الخليفة عثمان بأمر الثغور والمرابطة فيها فكان يأمر قادته بإجراء الأرزاق، والعطاء ، ومضاعفته للجند المرابطين.
عاشراً : تدفُّق الأموال على الحياة الاجتماعيَّة ، والاقتصادية :
في عهد عثمان كثر الخراج ، وأتاه المال من كلِّ وجه ، فاتَّخذ له الخزائن ، وأثَّر ذلك بدوره في الأثر الاقتصاديِّ ، والاجتماعيِّ ، فعن أبي إسحاق ، أنَّ جدَّه مرَّ على عثمان ، فقال له : كم معك من عيالك يا شيخ ؟ ! قال : معي كذا ، قال : قد فرضنا لك في خمس عشرة ـ يعني : ألفاً وخمسمئةٍ ـ وفرضنا لعيالك مئة ، مئة، وعن محمَّد بن هلال المديني ، قال : حدَّثني أبي عن جدَّتي : أنها كانت تدخل على عثمان ، فافتقدها يوماً ، فقال لأهله : ما لي لا أرى فلانة ؟ فقالت امرأته : يا أمير المؤمنين ! ولدت اللَّيلة غلاماً ، فقالت : فأرسل إليَّ بخمسين درهماً ، وشقيقة سنبلانيَّة ، ثمَّ قال : هذا عطاء ابنك ، وهذه كسوته ، فإذا مرَّت به سنةٌ ، رفعناه إلى مئة، كما وسَّع رضي الله عنه على عيال أهل العوالي بالمدينة المنوَّرة في القوت، والكسوة، وحين قام القائد قطن بن عمرو الهلالي بإعطاء الجيش الّذي برفقته وعدده أربعة آلاف جندي أربعة آلاف درهم كتشجيع لهم ، استكثر ذلك والي البصرة عبد الله بن عامر ، وكتب بالخبر إلى الخليفة عثمان رضي الله عنه فأجازها، وقال : ما كان معونةً في سبيل الله ، فجائز فصارت الجائزة اسماً ًللعطيَّة.
وقام عثمان بتوريث عطاء الجنديِّ الإسلاميِّ لورثته من بناته ، وزوجاته ، فقد قال الزُّبير بن العوَّام للخليفة عثمان بعدما مات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أعطني عطاء عبد الله، فعيال عبد الله أحقُّ به من بيت المال، فأعطاه خمسة عشر ألفاً.
هذا ونشطت الحركة الزِّراعيَّة ، والصِّناعيَّة ، والتِّجاريَّة في عهد الخليفة الرَّاشد عثمان بن عفَّان ، وبسبب ما منَّ الله به على المسلمين من فتوحٍ ؛ أصبح أهل المدينة خاصَّةً ، والمسلمون عامَّةً في نعمةٍ ، ويسارٍ ، وكان يقترن بهذا الثَّراء ضروبٌ واسعةٌ من الحضارة لم تعرفها الجزيرة العربيَّة قبل الفتوحات الكبيرة ، لقد اطَّلع المسلمون على ما عند الأمم الأجنبيَّة ، واقتبسوا منهم ، وبدأ هذا الاقتباس يتَّسع في خلافة عثمان، فبنى بعض الصَّحابة الدُّور ، والمنازل الكبيرة ، وساهم الأجانب الّذين سُبُوا في الفتوح في تطوير الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf