المؤسسة القضائية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه (1)
الحلقة الواحدة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
يعتبر عهد ذي النُّورين امتداداً للعهد الرَّاشدي الّذي تتجلَّى أهميَّته بصلته بالعهد النَّبويِّ ، وقربه منه ، فكان العهد الرَّاشديُّ عامَّةً ، والجانب القضائيُّ فيه خاصَّة امتداداً للقضاء في العهد النَّبويِّ ، مع المحافظة الكاملة ، والتَّامة على جميع ما ثبت في العهد النَّبويِّ ، وتطبيقه بحذافيره ، وتنفيذه بنصِّه ومعناه ، وتظهر أهمِّيَّة العهد الرَّاشديِّ في القضاء بأمرين أساسيين :
* المحافظة على نصوص العهد النَّبويِّ في القضاء ، والتَّقيد بما جاء فيه ، والسَّير في ركابه ، والاستمرار في الالتزام به .
* وضع التنظيمات القضائيَّة الجديدة لترسيخ دعائم الدَّولة الإسلاميَّة الواسعة ، ومواجهة المستجدَّات المتنوِّعة.
استطاع الفاروق بتوفيق الله ، ثمَّ عبقريته الفذَّة أن يطوِّر مؤسَّسة القضاء للدَّولة الإسلاميَّة ، وأصبحت لها قواعد ، ونظم ، استفاد منها الخليفة الرَّاشد عثمان رضي الله عنه في تعيين القضاة ، وأرزاقهم ، واختصاصهم القضائيِّ ، ومعرفة صفات القاضي، وما يجب عليه ، ومصادر الأحكام القضائيَّة ، والأدلَّة الّتي يعتمد عليها القضاة ، كما أنَّه أصبحت هناك سوابق قضائيَّة من الصِّدِّيق ، والفاروق استفاد منها القضاة في عهد عثمان رضي الله عنه .
عندما تولَّى عثمان رضي الله عنه الخلافة كان على قضاء المدينة يومئذٍ : عليُّ ابن أبي طالبٍ ، وزيد بن ثابتٍ ، والسَّائب بن يزيد ، رضي الله عنهم . ويذكر بعض الباحثين : أنَّ عثمان لم يترك لأحدٍ من هؤلاء القضاة الاستقلال بالفصل في قضيَّةٍ من القضايا ، كما كان الحال في عهد عمر ، رضي الله عنه ، بل كان ينظر في الخصومات بنفسه ، ويستشير هؤلاء ، وغيرهم من الصَّحابة فيما يحكم به ، فإن وافق رأيهم رأيه ؛ أمضاه ، وإن لم يوافق رأيهم رأيه ؛ نظر في الأمر بعد ذلك ، وهذا يعني: أن عثمان رضي الله عنه قد أعفى القضاة الثلاثة في المدينة من ولاية القضاء ، وأبقاهم مستشارين له في كلِّ شجارٍ يرفع إليه مع استشارة آخرين ويرى بعضهم : أنَّه لم يثبت نصٌّ صريحٌ يفيد الإعفاء ، وغاية ما ورد في ذلك يدلُّ على أنَّ عثمان رضي الله عنه قد أقرَّ قضاة عمر بالمدينة ، ولكنَّه تحمَّل عنهم النظر في كثير من القضايا الكبيرة مع استشارتهم فيها . ومنشأ هذا الخلاف تعارض الرِّوايات الواردة في ذلك :
* روى البيهقيُّ في سننه ، ووكيعٌ في أخبار القضاة واللفظ له عن عبد الرَّحمن بن سعيدٍ ، قال : أخبرني جدِّي ، قال : رأيت عثمان بن عفَّان في المسجد إذا جاءه الخصمان ؛ قال لهذا : اذهب فادع عليّاً ، وللأخر : اذهب فادع طلحة بن عبيد الله ، والزُّبير ، وعبد الرَّحمن ، فجاؤوا ، فجلسوا ، فقال لهما : تكلَّما ، ثمَّ يقبل عليهم ، فيقول: أشيروا عليَّ ، فإن قالوا ما يوافق رأيه ؛ أمضاه عليهما ، وإلا نظر، فيقومون مسلِّمين ، ولا يعلم : أنَّ عثمان بن عفَّان استعمل قاضياً بالمدينة ، إلى أن قتل ، رضي الله عنه .
* جاء في تاريخ الطَّبري عند الحديث على أعمال عثمان : وكان على قضاء عثمان يومئذٍ زيد بن ثابت ، وهذا يشعر بأنَّ عثمان أبقى زيداً على ولاية القضاء ، ويستلزم الإذن له بالفصل في الخصومات. وما دام الجمع بين النَّصين ممكناً؛ فإنَّ الأخذ به أولى من الأخذ بأحد النَّصَّين في غير المرجَّح، ويجمع بين النَّصين بأنَّ عثمان أبقى بعض قضاة المدينة للفصل في بعض الخصومات، ولكن بعضها الأخر من معضلات القضايا جعله خاصّاً به، مع استشارة أصحابه فيها، ومنهم قضاته.
وكان عثمان رضي الله عنه يعيِّن القضاة على الأقاليم حيناً ، مثل تعيينه كعب بن سور على قضاء البصرة ، ويترك القضاء للوالي حيناً اخر مثل طلبه من واليه على البصرة أن يقوم بالقضاء بين النَّاس إضافةً إلى عمل الولاية ، وذلك بعد عزل كعب ابن سور ، وكذلك كان يعلى بن أميَّة والياً وقاضياً على صنعاء، ويلاحظ : أنَّ بعض الولاة كانوا يختارون قضاة بلدانهم بأنفسهم ، ويكونون مسؤولين أمامهم ، ممَّا يشير إلى ازدياد نفوذ الولاة في خلافته من القضاة.
والمأثور عن عثمان كتبه ورسائله إلى أمراء الأمصار ، وإلى أمراء الأجناد بالثُّغور ، وإلى عامَّة المسلمين ، وهذا يدعو إلى غلبة الظَّنِّ بأنَّه جعل القضاء من اختصاص الولاة ، يتولونه بأنفسهم ، أو يعيِّنون له من يستطيع القيام به، ففي الوقت الّذي نجد فيه مراسلاتٍ كثيرةً بين عمر وقضاة الأمصار ، نجد ندرةً في المراسلات في عهد عثمان بينه وبين أولئك القضاة.
ابن عمر يعتذر عن القضاء :
قال عثمان لابن عمر : اقضِ بين النَّاس . فقال : لا أقضي بين اثنين ، ولا أؤُمُّ رجلين ، أما سمعت النَّبيّ (ﷺ) يقول : « من عاذ بالله ، فقد عاذ بمعاذ ؟ » قال عثمان: بلى ! قال : فإنِّي أعوذ بالله أن تستعملني ! فأعفاه ، وقال : لا تُخبر بهذا أحداً.
دار القضاء :
تذكر بعض كتب التاريخ : أنَّ من مآثر ذي النُّورين اتِّخاذه داراً للقضاء ، كما يظهر ذلك من روايةٍ رواها ابن عساكر عن أبي صالح مولى العبَّاس ، قال : أرسلني العبَّاس إلى عثمان أدعوه ، فأتيته في دار القضاء ... إلى اخر الحديث ، فإذا صحَّ ؛ فيكون عثمان هو أوَّل من اتَّخذ في الإسلام داراً للقضاء، وقد كان الخليفتان قبله يجلسان للقضاء في المسجد، كما هو مشهور.
أشهر القضاة في خلافة عثمان :
1 ـ زيد بن ثابت ( المدينة ) .
2 ـ أبو الدَّرداء ( دمشق ) .
3 ـ كعب بن سور ( البصرة ) .
4 ـ أبو موسى الأشعريُّ ( البصرة بالإضافة إلى ولايته ) .
5 ـ شريح ( الكوفة ) .
6 ـ يعلى بن أميَّة ( اليمن ) .
7 ـ ثمامة ( صنعاء ) .
8 ـ عثمان بن قيس بن أبي العاص ( مصر ) .
هذا وقد ترك الخليفة الرَّاشد أحكاماً فقهيَّةً في مجال القصاص ، والجنايات ، والحدود ، والتَّعزير ، والعبادات ، والمعاملات كان لها الأثر الواضح في المدارس الفقهيَّة الإسلاميَّة ، وهذه بعض الأحكام الّتي أصدرها عثمان ، أو أفتى بها :
أولاً : فيما يتعلَّق بالقصاص ، والحدود ، والتَّعزير :
1ـ أوَّل قضيةٍ واجهت عثمان رضي الله عنه قضية قتلٍ :أوَّل قضيَّةٍ حكم فيها عثمان رضي الله عنه قضية عبيد الله بن عمر ، وذلك أنَّه غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتلِ عمر ، فقتلها ، وضرب رجلاً نصرانيّاً يقال له : جفينة بالسَّيف ، فقتله ، وضرب الهرمزان الّذي كان صاحب تستر ، فقتله ، وكان قد قيل: إنَّهما مالأا أبا لؤلؤة على قتل عمر ، فالله أعلم، وكان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده ، فلمَّا ولِّي عثمان ، وجلس للناس كان أوَّل ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله ، فقال عليٌّ : ما من العدل تركه ، وأمر بقتله ، وقال بعض المهاجرين: أيقتل أبوه بالأمس ، ويقتل هو اليوم ؟ ! فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين ! قد برَّأك الله من ذلك ، قضيةٌ لم تكن في أيَّامك ، فدعها عنك ! فودى عثمان رضي الله عنه أولئك القتلى من ماله ؛ لأنَّ أمرهم إليه ؛ إذ لا وارث لهم إلا بيت المال ، والإمام يرى الأصلح في ذلك ، وخلَّى سبيل عبيد الله.
وقد جاءت روايةٌ في الطَّبريِّ تفيد بأنَّ القماذبان بن الهرمزان قد عفا عن عبيد الله، فعن أبي منصورٍ ، قال : سمعت القماذبان يحدِّث عن قتل أبيه ، قال : كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعضٍ ، فمرَّ فيروز بأبي ، ومعه خنجر له رأسان ، فتناوله منه ، وقال : ما تصنع بهذا في هذه البلاد ؟ فقال : أنس به ، فرآه رجلٌ ، فلمَّا أصيب عمر ، قال : رأيت هذا مع الهرمزان ، دفعه إلى فيروز ، فأقبل عبيد الله ، فقتله، فلمَّا ولِّي عثمان دعاني ، فأمكنني منه ، ثمَّ قال : يا بني ! هذا قاتل أبيك ، وأنت أولى به منَّا ، فاذهب ، فاقتله ، فخرجت به ، وما في الأرض أحدٌ إلا معي ، إلا أنهم يطلبون إليَّ فيه . فقلت لهم : ألي قتلُه ؟ قالوا : نعم ! وسبُّوا عبيد الله. فقلت : أفلكم أن تمنعوه ؟ قالوا : لا ! وسبُّوه . فتركته لله ، ولهم . فاحتملوني ، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرِّجال ، وأكفِّهم.
ولا يوجد تعارض بين هذه الرِّواية والرِّواية الأخرى الّتي تذكر : أنَّ الخليفة عثمان عفا عن عبيد الله بن عمر وتحمَّل هو الدِّية الشَّرعيَّة لورثة الهرمزان ؛ لأنَّه يوجد في فهم جميع الصَّحابة حقٌّ لابن الهرمزان في القصاص ، وقد استجاب لرجائهم له في العفو على النَّحو السَّالف ذكره ، كما أنَّ عفو الخليفة يرجع إلى سلطة التَّحقيق في الجريمة ، والحكم فيها هو للخليفة ، وليس لابن المقتول ، فيكون عبيد الله قد اعتدى على حقِّ الخليفة ، ومن ثمَّ فرواية العفو منه تنصرف إلى العفو بسبب هذا الحقِّ ، وهذه المخالفة من عبيد الله ، حيث أضاع على الدَّولة أمراً مهمّاً هو معرفة الخلايا الّتي تتَّصل بالجريمة من الجناة ، والأشخاص ، والجهات الّتي كانت خلف هذه المؤامرة ، كما ينصرف العفو من الخليفة إلى مَنْ ليس لهم وليٌّ ، وهم جفينة ، وابنة المجوسيِّ القاتل ، ولا يوجد خلاف في الرِّوايات ، والمصادر التَّاريخيَّة على أنَّ الخنجر الّذي قتل به عمر ابن الخطَّاب كان بيد الهرمزان ، وجفينة قبل الحادث ، وقد شاهد ذلك اثنان من الصَّحابة وهما عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، ورواية عبد الرَّحمن بن أبي بكر تفيد : أنَّ القاتل أبا لؤلؤة كان مع هذين الشَّريكين يتناجون ثلاثتهم ، فلمَّا باغتهم ؛ سقط الخنجر من بينهم ، وبعد قتل عمر وجدوا : أنَّه نفس الخنجر الّذي وصفه الشَّاهدان، وبالتَّالي فالهرمزان ، وجفينة يستحقان القتل ، أمَّا ابنة أبي لؤلؤة الّذي قتل نفسه ؛ ليخفي المشتركين معه ، فهذه قتلت خطأ ، ولا يقتل فيها أحدٌ ، وقد رأى عبيد الله : أنَّها من المشاركين في القتل حيث كانت تخفي السِّلاح لأبيها.
2ـ قتل اللُّصوص :
إنَّ شباباً من شباب أهل الكوفة في ولاية الوليد بن عقبة نقبوا على ابن الحيْسُمان الخزاعيِّ ، وكاثروه ، فنذر بهم ، فخرج عليهم بالسَّيف ، فلمَّا رأى كثرتهم ؛ استصرخ ، قالوا له : اسكت ! فإنَّما هي ضربةٌ حتَّى نريحك من روعة هذه اللَّيلة وأبو شُريح الخزاعي مشرفٌ عليهم فصاح بهم ، وضربوه ، فقتلوه ، وأحاط النَّاس بهم فأخذوهم ، وفيهم زهير بن جُندب الأزديُّ ، ومورِّع بن أبي مورِّع الأسديُّ ، وشُبيل بن أبي الأزديُّ في عدَّةٍ ، فشهد عليهم أبو شريح ، وابنه : أنَّهم دخلوا عليه ، فمنع بعضهم بعضاً من النَّاس ، فقتله بعضهم ، فكتب فيهم إلى عثمان، فكتب إليه في قتلهم ، فقتلهم على باب القصر في الرَّحبَة . وقال في ذلك عمر بن عاصم التَّميمي :
لاَ تَأْكُلُوا أَبَداً جِيْرَانَكُمْ سَرَفاً أَهْلَ الزَّعَارَةِ فِي مُلْكِ ابْنِ عفَّانِ
وقال أيضاً :
إنَّ ابن عفَّانَ الّذي جَرَّبْتُمُ فَطَمَ اللُّصُوصَ بِمُحْكَمِ الفُرْقَانِ
مَاَزالَ يَعْمَلُ بِالْكِتَابِ مُهَيْمِنا في كلِّ عُنْقٍ مِنْهُمُ وَبَنَانِ
3ـ رجل قتل تاجراً لماله :
كان ذلك في خلافة عثمان ، وكانت العقوبة : القتل قصاصاً.
4ـ عقوبة السَّاحر :
حدث في عهد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أنَّ جاريةً لحفصة سحرتها ، فاعترفت الجارية بذلك ، فأمرت حفصة بها عبد الرَّحمن بن زيدٍ فقتلها ، فأنكر ذلك عليها عثمان ، فقال ابن عمر : ما تنكر على أمِّ المؤمنين من امرأة سحرتها ، واعترفت؟ فسكت عثمان ، وعثمان لم ينكر على حفصة القتل ، ولكنَّه أنكر عليها الافتئات على حقِّ الإمام في إقامة الحدود ، فإنَّ أمر الحدود إلى الإمام ، وهذا ما يدلُّ عليه قول ابن عمر : ما تنكر على أمِّ المؤمنين من امرأة سحرتها ، واعترفت ؟ يعني : أن القضاء فيها واضحٌ ، وأنَّ استحقاقها القتل لا تدفعه شبهةٌ.
5ـ جناية الأعمى :
الأعمى قائده كالآلة ، يتحرَّك بأمره ، وهو مع مُجالسه غفلٌ ، يتحرَّك وهو قد يتردَّى في حركته ، أو يتضرَّر ، فلا يتوقع : أنَّه يتحاشى إضرار غيره بحركته ، وهو لا يراه ، ولذلك فإنَّه إذا ما جنى على قائده ، أو مَنْ جالسه دُون قصدٍ ، فجنايته هدرٌ ، قال عثمان بن عفَّان : أيُّما رجلٍ جالس أعمى ، فأصابه الأعمى بشيءٍ ؛ فهو هدرٌ.
6ـ جناية المقتتلين على بعضهما :
قد يقع شجار بين الأشخاص ، فيجني كلُّ واحدٍ من المتشاجرين على صاحبه ، فإن حصل شيءٌ من هذا ؛ فالواجب القصاص ؛ لأنَّ هذه الجناية جناية عمدٍ ؛ إذ الظَّاهر : أن كلَّ واحدٍ منهما حريصٌ على أن ينال من صاحبه . قال عثمان بن عفَّان رضي الله عنه : إذا اقتتل المقتتلان ، فما كان بينهما من جراحٍ ، فهو قصاصٌ.
7ـ الجناية على الحيوان :
إذا وقعت الجناية على الحيوان ؛ فالواجب بها الضَّمان بالقيمة ، فعن عقبة بن عامرٍ ، قال: قتل رجلٌ في خلافة عثمان بن عفَّان كلباً لصيدٍ لا يعرف مثله في الكلاب، فقوِّم بثمانمئة درهم، فألزمه عثمان تلك القيمة، وأغرم رجلاً ثمن كلبٍ قتله عشرين بعيراً.
8 ـ الجناية على الصَّائل :
إذا صال شخصٌ على مال شخصٍ آخر ، أو على نفسه ، أو على عرضه ، فقتله المصول عليه أثناء اعتدائه ، فدمه هدرٌ ، فقد روى ابن حزم في المحلَّى : أنَّ رجلاً رأى مع امرأته رجلاً ، فقتله ، فارتفعوا إلى عثمان ، فأبطل دمه.
9 ـ استتابة المرتدِّ وحدُّه :
لا يقام الحدُّ على المرتدِّ حتى يستتاب ثلاثاً ، فإن أصرَّ على ردَّته ؛ قُتِل ، وحدث أنْ أخذ عبد الله بن مسعودٍ بالكوفة رجالاً ارتدُّوا عن الإسلام ، وأخذوا يُنعِشون حديث مسيلمة الكذَّاب، فكتب فيهم إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان، فكتب عثمان إليه: أن اعرض عليهم دين الحقِّ ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمَّداً رسول الله، فمن قبلها وبرأ من مسيلمة ؛ فلا تقتله ، ومن لزم دين مسيلمة، فاقتله، فقبله رجالٌ منهم ، فتركوا ، ولزم دين مسيلمة رجالٌ ، فقتلوا.
10ـ إنِّي قتلتُ ، فهل لي من توبةٍ ؟ :
قال رجل لعثمان : يا أمير المؤمنين ! إنِّي قتلت ، فهل لي من توبةٍ ؟ فقرأ عليه عثمان من أوَّل سورة غافر : {حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [غافر : 1 ـ 3 ] ، ثمَّ قال له : اعمل ، ولا تيأس. والجدير بالذِّكر ، أنَّ التَّوبة من الآثام إذا ارتكبت في حقِّ العباد لا بدَّ فيها من أداء الحقوق لأصحابها ، أو تنازلهم عنها.
11ـ حد الخمر :
المعروف : أنَّ رسول الله (ﷺ) قد عاقب الحرَّ إذا شرب الخمر بأربعين جلدةً، ضربه القوم بالنِّعال ، وأطراف الثِّياب امتهاناً له ، وكذلك أبو بكر ، وكذلك عمر في أوَّل خلافته ، ثمَّ لم يلبث أن زاد العقوبة بمشورةٍ من الصَّحابة إلى ثمانين جلدةً ، لمَّا رأى النَّاس يتحاقرون هذه العقوبة ، ولا يرتدعون بها ، أمَّا عثمان بن عفَّان فقد ثبت عنه : أنَّه جلد الحرَّ أربعين جلدةً ، وثبت عنه : أنَّه جلده ثمانين جلدةً ، ولم يكن ذلك منه عن تشهٍّ ، أو هوى ، ولكنَّه فرَّق بين الشَّاربين ، فلم يعاقب من كان شربه زَلَّةً منه عقوبة مَنْ أدمن شربها ، فجعل عقوبة من كان شربه لها أوَّل مرَّةٍ ، وكانت منه زَلَّةً أربعين جلدةً ، وجعل عقوبة من اعتاد شربها ، ومن أدمن عليها ثمانين جلدةً ، وكأنَّه كان يجعل الأربعين الأولى حدّاً ، والأربعين الثَّانية تعزيراً.
12ـ إقامة الحد على أخيه من أمِّه الوليد بن عقبة :
عن حصين بن المنذر ، قال : شهدت عثمان بن عفَّان ، وأتى بالوليد ، فشهد عليه رجلان ، أحدهما حمران : أنه شرب الخمر ، وشهد آخر أنَّه رآه يتقيَّأ ، فقال عثمان : إنَّه لم يتقيأ حتَّى شربها ، فقال : يا عليُّ ! قُمْ فاجلده ، فقال عليٌّ : قم يا حسن ! فاجلده ، فقال الحسن : ولِّ حارَّها من تولَّى قارَّها، فكأنَّه وجد عليه ، فقال : يا عبد الله بن جعفر ! قم فاجلده ، فجلده ، وعليٌّ يعدُّ ، حتَّى بلغ أربعين ، قال: أمسك ، ثمَّ قال : جلد النَّبيّ (ﷺ) أربعين ، وأبو بكرٍ أربعين ، وعمر ثمانين ، وكلٌّ سنَّةٌ ، وهذا أحبُّ إليَّ. ويؤخذ من هذا الحديث بأنَّ سلف عثمان رضي الله عنه نفذوا هذا الحدَّ ، وبأنَّ للمنفِّذ أو المأمور أن ينيب عنه غيره ، ويؤخذ منه أيضاً قوَّة عثمان في الحقِّ ، وأنَّه لا تأخذه في الله لومة لائم ، فالوليد بن عقبة ابن أبي معيط أخوه لأمِّه، وتنفيذ الأحكام الشَّرعية هو أحبُّ أعمال الشُّرْطة.
13ـ سرقة الغلام :
لا يقام حد السَّرقة إلا إذا كان السَّارق بالغاً ، عاقلاً ، مختاراً ، عالماً بالتَّحريم ، وقد أُتِيَ لعثمان بغلامٍ سرق ، فقال : انظروا إلى مؤتزره ، فنظروا ، فلم يجدوه أنبت ، فلم يقطعه.
14ـ الحبس تعزيراً :
استعار ضابي بن الحارث البرجمي في زمان الوليد بن عقبة من قومٍ من الأنصار كلباً يدعى قَرْحان ، يصيد الظِّباء ، فحبسه عنهم ، فنافره الأنصاريُّون ، واستغاثوا عليه بقومه ، فكاثروه ، فانتزعوه منه ، وردُّوه على الأنصار ، فهاجمهم، وقال في ذلك :
تَجَشَّم دُونِي وَفْدُ قرحان خطَّةً تَضِلُّ لَهَا الوَجْنَاءُ وَهيَ حَسِيْر
فَبَاتُوا شِبَاعاً نَاعِمِيْنَ كَأَنَّ حَبَاهُمْ بِبَيْتِ المَرْزُبانِ أَمِيْرُ
فَكَلْ بُكُمُ لا تَتْرُكُوا فَهُوَ أُمُّكُمْ فَإِنَّ عُقُوقَ الأمَّهَاتِ كَبِيْرُ
فاستَعدوا عليه عثمان ، فأرسل إليه ، فعزَّره ، وحبسه كما كان يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذلك ، فما زال في الحبس حتَّى مات فيه.
15 ـ حدُّ القذف بالتَّعريض :
كان عثمان رضي الله عنه يقيم حدَّ القذف بالتَّعريض به ، فقد قال رجلٌ لآخر : « يا بن شامَّة الوَذْر » ـ يعرض له بزنى أمِّه ـ فاستعدى عليه عثمان بن عفَّان ، فقال الرَّجل : إنَّما عنيت كذا ، وكذا ، فأمر به عثمان فجلد الحدَّ ـ أي : حدَّ القذف ولم يلتفت إلى تفسير مراده ممَّا قال.
16 ـ عقوبة الزِّنى :
إذا ثبت الزِّنى على رجلٍ ، أو امرأةٍ ، وكان حرّاً محصناً ؛ فإنَّه يعاقب بالرَّجم بالحجارة حتَّى الموت ، وقد زنت امرأةٌ محصنةٌ في عهد عثمان بن عفَّان ، فقضى عثمان برجمها ، ولم يحضر رجمها.
17ـ التَّعزير بالنَّفي ، والطَّرد :
بلغ عثمان: أنَّ ابن الحبكة النَّهديَّ يعالج نيرنجاً قال محمَّد بن سلمة : إنَّما هو ينرنج ، أخذٌ كالسِّحر وليس به فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك ، فإن أقرَّ به، فأوجِعْه ، فدعا به ، فسأله ، فقال : إنَّما هو رفق ، وأمر يعجب منه ، فأمر به ، فعزِّر ، وأخبر النَّاس خبره ، وقرأ عليهم كتاب عثمان : إنَّه قد جُدَّ بكم ، فعليكم بالجدِّ ، وإيَّاكم والهُزَّال ، فكان النَّاس عليه ، وتعجَّبوا من وقوف عثمان على مثل خبره ، فغضب ، فنفر في الّذين نفروا ، فضُرب معهم ، فكتب إلى عثمان فيه ، فلمَّا سيَّر إلى الشَّام مَنْ سيَّر ، سيَّر كعب بن ذي الحبكة ، ومالك بن عبد الله ـ وكان دينه على دينه ـ إلى دُنباوَند ، فقال في ذلك كعب بن ذي الحبكة للوليد :
لعَمْرِي لَئِنْ طَرَدْتَنِي مَا إلى الّتي طَمِعْتَ بِهَا مِنْ سَقْطَتِي لَسَبِيْلُ
رَجَوْتُ رُجُوْعِي يَا بنَ أَرْوَى وَرَجْعَتِي إلَى الحَقِّ دَهْراً غَالَ
ذلِكَ غُوْلُوَإنَّ اغْتِرَابِي فِي البِلاَدِ وَجَفْوَتِي وَشَتْمِي فِي ذَاتِ الإلـه قَلِيْل
وَإِنَّ دُعائي كلَّ يومٍ وليلةٍ عَلَيْكَ بِدُنْبَاوَنْدِكُمْ لَطَوِيْلُ
18ـ دفع النَّاس عن جنازة العبَّاس :
عن عبد الرَّحمن بن يزيد : أنَّه قال : لما أتي بجنازة العبَّاس بن عبد المطلب إلى موضع الجنائز تضايق النَّاس ، فتقدَّموا به إلى البقيع ، ولقد رأيتنا يوم صلَّينا عليه بالبقيع ، وما رأيت مثل ذلك الخروج على أحدٍ من النَّاس قطُّ ، وما يستطيع أحدٌ أن يدنو من سريره ، وغلب عليه بنو هاشم ، فلمَّا انتهوا إلى اللَّحد ؛ ازدحموا عليه ، فأرى عثمان اعتزل ، وبعث الشُّرْطَة يضربون النَّاس عن بني هاشم ، حتَّى خلص بنو هاشم، فكانوا هم الّذين نزلوا في حفرته ، ودلَّوه في اللَّحد، وهذا يدلُّ على كثرة رجال الشُّرْطَة آنذاك ، ويعتبر عثمان رضي الله عنه لدى بعض المؤرِّخين، أول من اتَّخذ صاحب شُرْطَةٍ من الخلفاء ، وقد أسند هذه المهمَّة في المدينة إلى الصَّحابيِّ الجليل المهاجر قنفذ بن عمير القرشيِّ
وهذا يدلُّ على عنايته بها ، وأنَّ صيتها قد ذاع في عهده ، وفي الكوفة كان عبد الرَّحمن الأسديُّ على شرطة سعيد بن العاص ( واليها لعثمان ) ، كما كان نصير بن عبد الرَّحمن على شرطة معاوية بن أبي سفيان ( والي عثمان على الشَّام ).
وفي الحقيقة لا يُعلم خليفةٌ في الإسلام بعد أبي بكرٍ ، وعمر رضي الله عنهما يقيم الحدود على القريب ، والبعيد ، والشَّريف ، والوضيع ، والغنيّ ، والفقير ، ولا يبالي ، ويعطي كلَّ ما يُطلب منه من إصلاحٍ ، أو حقوقٍ كعثمان رضي الله عنه ، وكفاه فخراً أن ينتمي لحكم الخلافة الرَّاشدة.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf