اجتهادات عثمان بن عفان في العبادات والمعاملات
الحلقة الثانية والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
1ـ إتمام عثمان الصَّلاة بمنى ، وعرفات :
في حجِّ عام 29 هـ ، صلَّى عثمان رضي الله عنه بالنَّاس بمنى أربعاً ، فأتى آتٍ عبد الرَّحمن بن عوف ، فقال : هل لك في أخيك : قد صلَّى بالناس أربعاً ، فصلَّى عبد الرَّحمن بأصحابه ركعتين ، ثمَّ خرج حتَّى دخل على عثمان ، فقال له : ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله (ص) ركعتين ؟ قال : بلى ! قال : أفلم تصلِّ مع أبي بكر ركعتين ؟ قال : بلى ! قال : أفلم تصل مع عمر ركعتين ؟ قال : بلى ! قال: ألم تصل صدراً من خلافتك ركعتين ؟ قال : بلى ! قال : فاسمع منِّي يا أبا محمد! إنِّي أُخبرت: أنَّ بعض من حجَّ من أهل اليمن ، وجفاة النَّاس قد قالوا في عامنا الماضي : إنَّ الصَّلاة للمقيم ركعتان ، هذا إمامكم عثمان يصلِّي ركعتين ، وقد اتَّخذت بمكَّة أهلاً ، فرأيت أن أصلِّي أربعاً لخوف ما أخاف على النَّاس ، وأخرى قد اتَّخذت بها زوجةً ، ولي بالطائف مالٌ ، فربَّما اطلعته ، فأقمت فيه بعد الصَّدَر ، فقال عبد الرحمن بن عوف : ما من هذا شيءٌ لك فيه عذرٌ .
أمَّا قولك : اتَّخذت أهلاً ، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت ، وتقدم بها إذا شئت ، إنَّما تسكن بسكناك ، وأمَّا قولك : ولي مالٌ بالطائف ، فإن بينك وبين الطَّائف مسيرة ثلاث ليال ، وأنت لست من أهل الطَّائف .
وأمَّا قولك : يرجع من حجَّ من أهل اليمن ، وغيرهم فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلِّي ركعتين وهو مقيمٌ ، فقد كان رسول الله (ص) ينزل عليه الوحي والنَّاس يومئذٍ الإسلام فيهم قليل ، ثمَّ أبو بكر مثل ذلك ، ثمَّ عمر ، فضرب الإسلام بجرانه ، فصلَّى لهم عمر حتَّى مات ركعتين . فقال عثمان : هذا رأيٌ رأيتُه .
فخرج عبد الرَّحمن ، فلقي ابن مسعودٍ ، فقال : أبا محمَّد ، غيَّر ما يعلم ؟ قال : لا، قال : فما أصنع ؟ قال : اعمل أنت بما تعلم ، فقال ابن مسعود : الخلاف شرٌّ ، قد بلغني: أنَّه صلَّى أربعاً، فصلَّيت بأصحابي أربعاً، فقال عبد الرَّحمن بن عوفٍ، قد بلغني : أنَّه صلَّى أربعاً ، فصلَّيت بأصحابي ركعتين ، وأمَّا الان فسوف يكون الّذي تقول ؛ يعني : نصلِّي معه أربعاً.
إنَّ عثمان صنع ما صنع من إتمام الصَّلاة في منى ، وعرفات ، شفقةً على ضعفاء المسلمين أن يفتنوا في دينهم ، فقد أبدى لفعله سبباً معقولاً حينما سأله عبد الرَّحمن ابن عوف رضي الله عنه عنه وعمَّا دعاه إليه ، فلمَّا أطلعه عثمان رضي الله عنه على وجهة نظره ، أخذ عبد الرحمن بقوله وأتمَّ الصَّلاة بأصحابه ، وكذلك صنع عبد الله ابن مسعود ، وغيره من جمهور الصَّحابة ، فتابعوه ، ولم يخالفوه ؛ لأنَّه إمامٌ راشدٌ تجب متابعته فيما لم يخرج عن حدود الشَّريعة المطهَّرة ، ولو كان فيما جاء به عثمان أدنى شبهةٍ لمخالفة نصٍّ شرعيٍّ ما أمكن مطلقاً جمهور الصَّحابة أن يتابعوه، والّذي أبداه عثمان في تحاوره مع عبد الرَّحمن بن عوفٍ ، واحتج به لرأيه معقول المعنى ، ولو تأمَّل فيه نظَّار في أسرار الدِّين ، وحكم الشريعة ؛ لرأى : أنَّ إتمام الصَّلاة الّذي انتهى إليه رأي عثمان أرجح حينئذٍ من قصرها ، وقد حدث من الأمور ما لم يكن على عهد النَّبيّ (ص) ، وأبي بكر ، وعمر ، فخاف عثمان أن يفتن النَّاس في صلاتهم ، ولا سيما جفاة الأعراب في مضاربهم ، ومن بعدت بلادهم في أطراف الأرض ، وقد لا يتَّصل بهم من أهل العلم من يعلِّمهم ، ويرشدهم ، فأراد عثمان بما صنع حسم هذا الشرِّ المخوف على كثيرٍ من ضعفاء المسلمين .
وقد بالغ عثمان رضي الله عنه في إبعاد الشُّبهة عن نفسه ، فقال : إنَّه اتَّخذ بمكَّة أهلاً ، وله بالطَّائف مالٌ ربما نظر إليه ، وأقام فيه بعد انتهاء الموسم ، فيكون حينئذ مقيماً ، ففرضه الإتمام ، وذلك منه رضي الله عنه من دقيق النَّظر في الدِّين ، وفهم أسراره ، وحكمه.
وقد رأى جماعةٌ من الصَّحابة إتمام الصَّلاة في السَّفر منهم : عائشة ، وعثمان، وسلمان ، وأربعة عشر من أصحاب رسول الله (ص) ، فعثمان رضي الله عنه لم يوجب القصر في السَّفر ، وإنَّما كان يتَّجه كما رآه فقهاء المدينة، ومالكٌ، والشَّافعيُّ، وغيرهما. ثمَّ إنها مسألةٌ اجتهاديَّة ، ولذلك اختلف فيها العلماء ، فقوله فيها لا يوجب تكفيراً ، ولا تفسيقاً. وأمَّا قول ابن مسعود رضي الله عنه: الخلاف شرٌّ، وفي روايةٍ: إنِّي أكره الخلاف، ففيه ترشيدٌ لنا، وتذكيرٌ على استحباب الخروج من الخلاف في مسائل الاجتهاد ، ويحسن بالمسلم أن يستحضرها ، ويحاول أن يقلِّل الخوض، والجدال في الفروع المختلف فيها؛ إذ الظُّروف المحيطة بنا.. لا تساعدنا على إضاعة مزيدٍ من الوقت الثَّمين في الجدل والخلاف عمَّا يجب أن نفعله لمواجهة التَّحدِّيات الخطيرة، كما أنَّ في فعل ابن مسعودٍ ، وابن عوفٍ رضي الله عنهما من الصَّلاة خلف عثمان بياناً لحرص الصَّحابة على الاجتماع والوحدة ، وهذا خُلُقٌ عظيمٌ من أخلاق جيل النَّصر .
2ـ زاد الأذان الثَّاني يوم الجمعة :
قال رسول الله (ص) : « عليكم بسنَّتي ، وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين من بعدي»، وهذه الزِّيادة من سنَّة الخلفاء الرَّاشدين ، ولا شكَّ : أنَّ عثمان من الخلفاء الرَّاشدين ورأى مصلحة أن يزاد هذا الأذان ؛ لتنبيه النَّاس عن قرب وقت صلاة الجمعة بعد أن اتَّسعت رقعة المدينة ، فاجتهد في هذا ، ووافقه جميع الصَّحابة ، واستمرَّ العمل به لم يخالفه أحدٌ حتَّى في زمن عليٍّ ، وزمن معاوية ، وزمني بني أميَّة وبني العباس إلى يومنا هذا ، فهي سنَّةٌ بإجماع المسلمين.
ثمَّ هو له أصلٌ في الشَّرع ؛ وهو الأذان الأوَّل في الفجر ، فقاس عثمان هذا الأذان عليه. لقد سنَّ عثمان ذلك أخذاً من سنَّة الرَّسول (ص) وأذانه الّذي شرعه في الفجر قبل دخول الوقت لينبِّه النَّائم ، ويستعدَّ اليقظان ، ومريد الصِّيام ، فهو مستنٌّ بسنَّة الرَّسول (ص) واخذٌ من طريقته ، وقد اختلف أهل العلم : هل أوقعه قبيل دخول الوقت كما هو الحال في الأذان الأوَّل من الفجر أم أوقعه في الوقت ؟ ويميل الحافظ إلى أنَّ وقوعه كان إعلاماً بالوقت ، قال في فتح الباري : وتبيَّن : أنَّ عثمان أحدثه لإعلام النَّاس بدخول وقت الصَّلاة قياساً على بقيَّة الصَّلوات ، فألحق الجمعة بها ، وأبقى خصوصيَّتها بالأذان بين يدي الخطيب .
وفيه استنباط معنىً من الأصل لا يبطله، وأمَّا ما أحدث النَّاس قبل وقت الجمعة من الدُّعاء إليها، والذِّكر والصَّلاة على النَّبيّ (ص) فهو في بعض البلاد دون بعضٍ، واتِّباع السَّلف الصَّالح أولى.
وأمَّا الّذين قالوا : إنَّه أحدث قبيل دخول الوقت ، قالوا : لأنَّ الغرض منه الإعلام بالجمعة ، والسَّعي إليها على غرار الأذان الأوَّل في الفجر ، فلو كان بعد دخول الوقت لمَا أدى المعنى المطلوب إلا بتأخير الجمعة بعض الشيء ، وهو خلاف السُّنَّة . وبه يُستغنى عمَّا أحدثه النَّاس في التَّذكير ، والذِّكر ، وغيرهما ممَّا أشار إليه الحافظ ، ولم ينكره إلا بقوله : « واتباع السَّلف الصَّالح أولى » .
3ـ اغتساله كلَّ يومٍ منذ أسلم :
كان عثمان بن عفَّان يغتسل كلَّ يوم منذ أسلم، وقد صلَّى ذات يوم الصُّبح بالنَّاس وهو جنبٌ دون أن يدري ، فلمَّا أصبح رأى في ثوبه احتلاماً ، فقال : كبِرْتُ والله ! إنِّي لأُراني أجنبُ ، ولا أعلم ، ثمَّ أعاد الصَّلاة، ولم يُعد مَنْصلَّى خلفه.
4ـ سجود التِّلاوة :
كان عثمان بن عفَّان رضي الله عنه يرى: أنَّ سجود التِّلاوة يجب على المكلَّف التَّالي للقرآن، وعلى الجالس لسماع القرآن ، أمَّا من سمعه من غير قصدٍ ، فليس عليه سجود التِّلاوة ، فقد مرَّ رضي الله عنه بقاصٍّ ، فقرأ القاصُّ سجدةً ليسجد معه عثمان ، فقال عثمان : إنَّما السُّجود على من استمع ، ثمَّ مضى ، ولم يسجد، وقوله : على من استمع ؛ يعني : على من قصد السَّماع ، وقال رضي الله عنه : إنَّما السَّجدة على مَنْ جلس لها، وروي عن عثمان : أنَّ الحائض إذا استمعت السَّجدة تومأ بها إيماءً ، ولا تتركها ، ولا تسجد لها سجود الصَّلاة.
5ـ صلاة الجمعة في السَّواحل :
قال اللَّيث بن سعد : كلُّ مدينةٍ ، أو قريةٍ فيها جماعةٌ أمروا بالجمعة ، فإنَّ أهل مصر ، وسواحلها كانوا يجمِّعون الجمعة على عهد عمر، وعثمان بأمرهما، وفيهما رجالٌ من الصَّحابة.
6ـ استراحة عثمان في الخطبة :
عن قتادة : أنَّ النَّبيّ (ص) وأبا بكرٍ ، وعمر ، وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة، حتَّى شقَّ القيام على عثمان ، فكان يخطب قائماً ثمَّ يجلس ، فلمَّا كان معاوية خطب الأولى جالساً ، والأخرى قائماً.
7ـ جعل القنوت قبل الرُّكوع :
قال أنس : إنَّ أوَّل من جعل القنوت قبل الرُّكوع ـ أي : دائماً عثمان ؛ لكي يدرك النَّاس الرَّكعة.
8 ـ أعلم النَّاس بأحكام الحجِّ :
يقول محمَّد بن سيرين : كانوا يرون : أنَّ أعلم النَّاس بالمناسك عثمان بن عفَّان، ثمَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
9ـ النَّهي عن الإحرام قبل الميقات :
لمَّا فتح عبد الله بن عامر خراسان ؛ قال : إنَّ هذا نصرٌ من الله لا بدَّ لي من أن أشكره عليه ، ولأجعلنَّ شكري لله أن أخرج من موضعي هذا خراسان محرماً ، فأحرم من نيسابور ، وخلَّف على خراسان الأحنف بن قيس ، فلمَّا قضى عمرته ؛ أتى عثمان بن عفَّان ، وذلك في السَّنة الّتي قُتل فيها ، فقال له عثمان : لقد غرَّرت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور.
10ـ سفر المعتدَّة للحجِّ ، والعمرة :
المعروف : أنَّ المعتدَّة لا تبيت إلا في بيتها ، ولا تسافر إلا بعد انتهاء عدَّتها ؛ لأنَّ سفرها يقتضي مبيتها في غير بيتها ، والحجُّ لا يخلو من سفرٍ ، ولذلك فإنَّ عثمان كان يرى : أنَّ المعتدة لا يلزمها الحجُّ ما دامت في العدَّة ، وكان رضي الله عنه يُرجع المعتدَّة حاجَّةً ، أو معتمرةً من الجحفة ، وذي الحليفة.
11ـ النَّهي عن متعة الحجِّ :
نهى عثمان رضي الله عنه عن المتعة ، أو الجمع بينهما ليعمل بالأفضل ، لا ليُبطِلَ المتعة ولا يخفى على عثمان ومن دونه : أنَّ من أراد الإحرام ، فهو مخيَّر بين الإفراد ، والقِرآن ، والتَّمتُّع ، ولكنَّه رضي الله عنه رأى الإفراد أفضل من الاثنين ، فعن مروان بن الحكم ، قال : شهدت عثمان ، وعليّاً رضي الله عنهما وعثمان ينهى عن المتعة ، وأن يُجمع بينهما ، فلمَّا رأى عليٌّ ذلك ؛ أهَلَّ بهما : لبيك بعمرةٍ ، وحَجَّةٍ، وقال : ما كُنتُ لأدع سنَّة النَّبيّ (ص) لقول أحدٍ؛ ولم ينكر عثمان على عليٍّ ذلك منه؛ لأنَّ عليّاً رضي الله عنه كان يخشى أن يحمل غيره النَّهي على الإبطال ، والتَّحريم ، وإنما قال : ما كنت لأدع سنَّة رسول الله (ص) لقول أحدٍ ؛ ليظهر جواز ذلك ، وأنَّها سنَّةٌ ماضيةٌ ، وكلاهما مجتهدٌ مأجورٌ.
وفي الحديث من الفوائد الظَّاهرة : مناظرة العلماء ولاة الأمر بقصد إشاعة العلم ، ومناصحة المسلمين ، وسعة صدر الولاة ، لاجتهاد العلماء في المسائل الّتي يتَّسع معها الاجتهاد ، وأنَّ المجتهد لا يجبر مجتهداً اخر باتِّباعه لسكوت عثمان عن عليٍّ ، وفيه : أنَّ العلم يسبق القول ، والعمل.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf