الفتوحات في عهد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه
الحلقة الرابعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
شجَّع خبر مقتل عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أعداء الإسلام ، وخصوصاً في بلاد الفرس ، والرُّوم على الطَّمع في استرداد ملكهم ، فبدأ يزدجرد ملك الفرس يخطِّط في العاصمة الّتي يقيم فيها وهي مدينة ( فرغنة ) عاصمة سمرقند ، وأمَّا زعماء الرُّوم؛ فقد تركوا بلاد الشام وانتقلوا إلى القسطنطينية العاصمة البيزنطيَّة ، وبدؤوا في عهد عثمان في البحث عن الوسائل الّتي تمكِّنهم من استرداد ملكهم ، وكانت بقايا جيوش الرُّوم في مصر قد تحصَّنوا بالإسكندرية في عهد عمر بن الخطَّاب ، فطلب عمرو بن العاص منه أن يأذن بفتحها ، وكانت معزَّزة بتحصيناتٍ كثيرةٍ ، وكانت المجانيق فوق أسوارها ، وكان هرقل قد عزم أن يباشر القتال بنفسه ولا يتخلَّف أحدٌ من الرُّوم ؛ لأن الإسكندرية هي معقلهم الأخير.
وفي عصر عثمان تجمَّع الرُّوم في الإسكندرية وبدؤوا يبحثون عن وسيلةٍ لاسترداد ملكهم فيها ، حتَّى وصل بهم الأمر إلى نقض الصُّلح ، واستعانوا بقوَّة الرُّوم البحريَّة، فأمدُّوهم بثلاثمئة سفينةٍ بحريَّةٍ تحمل الرِّجال ، والسِّلاح ، ولقد واجه عثمان ذلك كلَّه بسياسة تتَّسم بالحسم ، والعزم ، وتمثَّلت في الخطَّة الآتية :
1ـ إخضاع المتمرِّدين من الفرس ، والرُّوم ، وإعادة سلطان الإسلام إلى هذه البلاد .
2ـ استمرار الجهاد والفتوحات فيما وراء هذه البلاد لقطع المدد عنهم .
3ـ إقامة قواعد ثابتةٍ يرابط فيها المسلمون لحماية البلاد الإسلاميَّة .
4ـ إنشاء قوَّةٍ بحريَّةٍ عسكريَّةٍ لافتقار الجيش الإسلامي إلى ذلك.
كانت معسكرات الإسلام ومسالحه في عهد عثمان هي عواصم أقطاره الكبرى ؛ فمعسكر العراق : الكوفة ، والبصرة ، ومعسكر الشَّام في دمشق بعد أن خلص الشَّام كلُّه لمعاوية بن أبي سفيان ، ومعسكر مصر كان مركزه الفسطاط ، وكانت هذه المعسكرات تقوم بحماية دولة الإسلام ، ومواصلة الفتوحات ، ونشر الإسلام.
أولاً : فتوحات أهل الكوفة : أذربيجان 24 هـ :
كانت مغازي أهل الكوفة الرَّيَّ ، وأذربيجان ، وكان يرابط بهما عشرة آلاف مقاتل : ستة آلاف بأذربيجان ، وأربعة آلاف بالرَّيِّ ، وكان جيش الكوفة العامل أربعين ألف مقاتل ، يغزو كلَّ عام منهم عشرة آلاف ، فيصيب الرَّجل غزوةً كلَّ أربعة أعوام، ولما أخلص عثمان رضي الله عنه الكوفة للوليد بن عقبة انتفض أهل أذربيجان ، فمنعوا ما كانوا قد صالحوا عليه حذيفة بن اليمان أيَّام عمر ، وثاروا على واليهم عقبة بن فرقد ، فأمر عثمان الوليد أن يغزوهم ، فجهَّز لهم قائده سلمان بن ربيعة الباهليَّ ، وبعثه مقدِّمةً أمامه في طائفة من الجند ، ثمَّ سار الوليد بعده في جماعةٍ من النَّاس ، فأسرع إليه أهل أذربيجان طالبين الصُّلح على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة ، فأجابهم الوليد ، وأخذ طاعتهم ، وبثَّ فيمن حولهم السَّرايا وشنَّ عليهم الغارات ، فبعث عبد الله بن شُبيل الأحمسيَّ في أربعة آلافٍ إلى أهل موقان ، والببر، والطيلسان ، فأصاب من أموالهم ، وغنم ، وسبى ، ولكنَّهم تحرَّروا منه ، فلم يفلَّ حدُّهم، ثمَّ جهز سلمان الباهليَّ في اثني عشر ألفاً إلى أرمينية ، فأخضعها ، وعاد منها مليء اليدين بالغنائم ، وانصرف الوليد بعد ذلك عائداً إلى الكوفة.
ولكنَّ أهل أذربيجان تمرَّدوا أكثر من مرَّةٍ ، فكتب الأشعث بن قيس والي أذربيجان إلى الوليد بن عقبة ، فأمدَّه بجيشٍ من أهل الكوفة وتتبَّع الأشعث الثَّائرين، وهزمهم هزيمةً منكرةً ، فطلبوا الصُّلح فصالحهم على صلحهم الأوَّل ، وخاف الأشعث أن يعيدوا الكرَّة ، فوضع حامية من العرب ، وجعل لهم عطايا وسجَّلهم في الدِّيوان ، وأمرهم بدعوة النَّاس إلى الإسلام ، ولمَّا تولَّى أمرها سعيد بن العاص عاد أهل أذربيجان وتمرَّدوا على الوالي الجديد ، فبعث إليهم جرير ابن عبد الله البجليَّ ، فهزمهم، وقتل رئيسهم ، ثمَّ استقرَّت الأمور بعد أن أسلم أكثر شعبها ، وتعلَّموا القرآن الكريم ، وأمَّا الرَّيُّ ، فقد صدر أمر الخليفة عثمان إلى أبي موسى الأشعريِّ في وقت ولايته على الكوفة ، وأمره بتوجيه جيشٍ إليها لتمرُّدها ، فأرسل إليها قريظة بن كعب الأنصاريَّ ، فأعاد فتحها.
ثانياً : مشاركة أهل الكوفة في إحباط تحرُّكات الرُّوم :
عندما انتهى الوليد بن عقبة من مهمَّته في أذربيجان وعاد إلى الموصل ، جاءه أمر من الخليفة عثمان نصُّه: « أمَّا بعد: فإنَّ معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني: أنَّ الروم قد أجلبت على المسلمين بجموعٍ عظيمةٍ ، وقد رأيت أن يمدَّهم إخوانهم من أهل الكوفة ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فابعث رجلاً ممَّن ترضى نجدته ، وبأسه ، وشجاعته ، وإسلامه في ثمانية آلاف ، أو تسعة آلافٍ ، أو عشرة آلاف إليهم من المكان الّذي يأتيك فيه رسولي، والسَّلام » فقام الوليد في النَّاس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أمَّا بعد أيُّها الناس ، فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاءً حسناً، وردَّ عليهم بلادهم الّتي كفرت ، وفتح بلاداً لم تكن افتتحت ، وردَّهم سالمين غانمين مأجورين ، فالحمد لله ربِّ العالمين ! وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة آلاف إلى الثمانية آلاف ، تمدُّون إخوانكم من أهل الشَّام ، فإنَّهم قد جاشت عليهم الرُّوم ، وفي ذلك الأجر العظيم ، والفضل المبين ، فانتدبوا ـ رحمكم اللهـ مع سلمان بن ربيعة الباهليِّ !
فانتدب النَّاس ، فلم يمض ثالثةٌ حتَّى خرج ثمانية آلاف رجلٍ من أهل الكوفة ، فمضوا ؛ حتى دخلوا أهل الشَّام إلى أرض الروم ، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهريُّ ، وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهليُّ ، فشنُّوا الغارات على أرض الرُّوم ، فأصاب الناس ما شاؤوا من سبي ، وملؤوا أيديهم من المغنم ، وافتتحوا بها حصوناً كثيرةً.
وفي جهاد الوليد ، وغزوه يقول بعض الرُّواة : رأيت الشَّعبيَّ جلس إلى محمَّد ابن عمرو بن الوليد بن عقبة ، فذكر محمَّد غزوة مسلمة بن عبد الملك ، فقال الشَّعبي : كيف لو أدركتم الوليد ، وغزوه ، وإمارته ، إن كان ليغزو ، فينتهي إلى كذا ، وكذا ، ما قصَّر ولا انتقض عليه أحدٌ حتَّى عُزِل من عمله.
ثالثاً : غزو سعيد بن العاص طبرستان : 30 هـ :
غزا سعيد بن العاص من الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان ، ومعه حذيفة بن اليمان ، وناسٌ من أصحاب رسول الله (ﷺ) ، ومعه الحسن ، والحسين ، وعبد الله ابن عبَّاس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن الزُّبير ، وخرج عبد الله بن عامر من البصرة يريد خراسان ، فسبق سعيداً ، ونزل أبرشهر ، وبلغ نزوله أبرشهر سعيداً ، فنزل سعيد قوميس ، وهي صلحٌ ، صالحهم حذيفة بعد نهاوند ، فأتى جرجان ، فصالحوه على مئتي ألفٍ ؛ ثمَّ أتى طَمِيسة ، وهي كلُّها من طبرستان جرجان ، وهي مدينةٌ على ساحل البحر ، وهي في تخوم جرجان ، فقاتله أهلها حتَّى صلَّى صلاة الخوف ، فقال لحذيفة : كيف صلَّى رسول الله (ﷺ) ؟ فأخبره ، فصلَّى بها سعيد صلاة الخوف ، وهم يقتتلون ، وضرب يومئذٍ سعيدٌ رجلاً من المشركين على حبل عاتقه ، فخرج السَّيف من تحت مرفقه ، وحاصرهم ، فسألوا الأمان ، فأعطاهم على ألا يقتل منهم رجلاً واحداً ، ففتحوا الحصن ، فقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً ، وحوى ما كان في الحصن ، فأصاب رجلٌ من بني نهد سفطاً عليه قفلٌ ، فظنَّ فيه جواهر ، وبلغ سعيداً ، فبعث إلى النَّهديِّ ، فأتاه بالسَّفط ، فكسروا قفله ، فوجدوا فيه سفطاً ، ففتحوه ، فإذا فيه خرقةٌ صفراء ، وفيها أيران : كُميتٌ ، ووردٌ، وعندما قفل سعيد إلى الكوفة ، مدحه كعب بن جُعيلٍ ، فقال :
فَنِعْمَ الْفَتَى إذْ جَالَ جيلان دُوْنَهُ وَإِذَ هَبَطُوا مِنْ دَسْتَبَى ثُمَّ أَبْهَر
تَعَلَّمْ سَعِيدَ الخَيْرِ أنَّ مَطِيَّتي إِذَا هَبَطَتْ أَشْفَقْتُ مِنْ أَنْ تُعَقَّرا
كَأَنَّكَ يَوْمَ الشِّعْبِ لَيْثُ خفيَّة تَحَرَّدَ مِنْ لَيْثِ العَرِيْنِ وَأَصْحَرَ
اتَسُوْسُ الّذي مَا سَاسَ قَبْلَكَ واحِدٌ ثَمَانِيْنَ أَلْفاً دَارِعِيْنَ وَحُسَّرا
رابعاً : هروب ملك الفرس ( يزدجرد ) إلى خراسان :
قدم ابن عامر البصرة ، ثمَّ خرج إلى فارس ، فافتتحها ، وهرب يزدجرد من وجُوز ـ وهي أردشير خُرَّة ـ في سنة ثلاثين ، فوجَّه ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود السُّلميَّ ، فاتبعه إلى كِرْمان ، فنزل مجاشعٌ السَّيرجان بالعسكر ، وهرب يزدجرد إلى خراسان.
خامساً : مقتل ( يزدجرد ) ملك الفرس 31 هـ :
اختلف في سبب ذكر قتله كيف كان ، قال ابن إسحاق : هرب يزدجرد من كِرمان في جماعةٍ يسيرةٍ إلى مرو ، فسأل من بعض أهلها مالاً ، فمنعوه ، وخافوه على أنفسهم، فبعثوا إلى التُّرك يستفزُّونهم عليه ، فأتوه فقتلوا أصحابه ، وهرب هو حتَّى أتى منزل رجلٍ ينقِّر الأرحاء، على شطِّ المَرْغاب، فأوى إليه ليلاً ، فلمَّا نام قتله، وجاء في روايةٍ عند الطَّبريِّ :... بل سار يزدجرد من كِرْمان قبل ورود العرب إيَّاها ، فأخذ على طريق الطَّبسَيَن وقُهمِستان ، حتَّى شارف مرو في زهاء أربعة آلاف رجلٍ ، ليجمع من أهل خراسان جموعاً ، ويكرَّ إلى العرب ، ويقاتلهم ، فتلقَّاه قائدان متباغضان متحاسدان كانا بمروٍ ، يقال لأحدهما : براز ، والأخر : سنجان ، ومنحاه الطَّاعة ، وأقام بمروٍ ، وخصَّ براز ، فحسده على ذلك سنجان ، وجعل براز يبغي سنجان الغوائل ، ويوغل صدر يزدجرد عليه ، وسعى سنجان حتَّى عزم على قتله ، وأفشى ما كان عزم عليه من ذلك إلى امرأةٍ من نسائه كان براز واطأها ، فأرسلت إلى براز بنسوةٍ زعمت بإجماع يزدجرد على قتل سنجان ، وفشا ما كان عزم عليه يزدجرد من ذلك ، فنذِر سنجان ، وأخذ حِذْرَه ، وجمع جمعاً كنحو أصحاب براز ، ومن كان مع يزدجرد من الجند ، وتوجَّه نحو القصر الّذي كان يزدجرد نازله ، وبلغ ذلك براز ، فنكص عن سنجان لكثرة جموعه ورعَّب جمع سنجان يزدجرد ، وأخافه ، فخرج من قصره متنكراً ، ومضى على وجهه راجلاً لينجو بنفسه ، فمشى نحواً من فرسخين حتَّى وقع إلى رحاً ، فدخل بيت الرَّحا ، فجلس فيه كالاًّ لَغِباً، فرآه صاحب الرَّحا ذا هيئة ، وطرَّة وبزَّةٍ كريمةٍ ، ففرش له ، فجلس ، وأتاه بطعامٍ ، فطعم ، ومكث عنده يوماً وليلةً ، فسأله صاحب الرَّحا أن يأمر له بشيءٍ ، فبذل له منطقةً مكلَّلةً بجوهر كانت عليه ، فأبى صاحب الرَّحا أن يقبلها ، وقال : إنَّما كان يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم كنت أطعم بها ، وأشرب ، فأخبره أنَّه لا ورق معه ، فتملَّقه صاحب الرَّحا ، حتى إذا غفا قام إليه بفأسٍ له ، فضرب بها هامته ، فقتله ، واحتزَّ رأسه ، وأخذ ما كان عليه من ثيابٍ ، ومنطقةٍ ، وألقى جيفته في النَّهر الّذي كان تدور بمائه رحاه ، وبقر بطنه ، وأدخل فيه أصولاً من أصول طرفاء، كانت نابتة في ذلك النَّهر لتجسَّ جثته في الموضع الّذي ألقاه فيه ، فلا يسفل ، فيعرف ، ويطلب قاتله ، وما أخذ من سلبه ، وهرب على وجهه، وجاء في رواية :... وجاءت التُّرك في طلبه فوجدوه قد قتله ، وأخذ حاصله ، فقتلوا ذلك الرَّجل وأهل بيته ، وأخذوا ما كان مع كسرى ، ووضعوا كسرى في تابوتٍ ، وحملوه إلى إصطخر .
وقد ذكر الطَّبريُّ حديثين مطوَّلين ، وأحدهما أطول من الأخر يتضمَّن ضروباً من الاضطرابات تقلَّب فيها ، وأنواعاً من الدَّوائر دارت عليه حتَّى كانت منيته أخرها، وقد قال يزدجرد لمن أراد قتله في بعض الرِّوايات : ألا يقتلوه ، وقال لهم : ويحكم ! إنَّا نجد في كتبنا : أنَّ من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدُّنيا ، مع ما هو قادم عليه ، فلا تقتلوني وائتوا بي إلى الدِّهقان ، أو سرِّحوني إلى العرب ، فإنَّهم يستحيون مثلي من الملوك.
وكان مُلْك يزدجرد عشرين سنة ، منها أربع سنين في دَعَة ، وباقي ذلك هارباً من بلدٍ إلى أخر ، خوفاً من الإسلام ، وأهله ، وهو آخر ملوك الفرس في الدُّنيا على الإطلاق، فسبحان ذي العظمة والملكوت ، الملك الحقُّ الحيُّ الدَّائم الّذي لا يموت، لا إله إلا هو ، كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون.
وقد قال رسول الله (ﷺ) في ملوك الفرس ، والرُّوم : « إذا هلك قَيصر ؛ فلا قيصر بعده ، وإذا هلك كسرى ؛ فلا كسرى بعده ، والّذي نفسي بيده لتُنْفَقَنَّ كنوزُهما في سبيل الله » .
سادساً : تعاطف النَّصارى مع ( يزدجرد ) بعد مقتله :
بلغ قتل يزدجرد رجلاً من أهل الأهواز كان مُطراناً على مرو ، يقال له : إيلياء، فجمع مَنْ كان قبله من النَّصارى ، وقال لهم : إنَّ ملك الفرس قد قُتل ، وهو ابن شهريار بن كسرى ، وإنَّما شهريار ولد شيرين المؤمنة الّتي قد عرفتم حقَّها ، وإحسانها إلى أهل ملَّتها من غير وجهٍ ، ولهذا الملك عنصرٌ في النَّصرانية مع ما نال النَّصارى في ملك جدِّه كسرى من الشَّرف ، وقبل ذلك في مملكة ملوكٍ من أسلافه من الخير ، حتَّى بنى لهم بعض البِيَع ، وسدَّد لهم بعض ملَّتهم ، فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه ، وجدَّته شيرين إلى النَّصارى ، وقد رأيت أن أبني له ناووساً، وأحمل جثَّته في كرامةٍ ؛ حتَّى أواريها فيه . فقال النَّصارى : أمرنا لأمرك أيُّها المطران تبعٌ ، ونحن لك على رأيك هذا مواطئون . فأمر المطران فبنى في جوف بستان المطارنة بمرو ناووساً ، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتَّى استخرج جثة يزدجرد من النَّهر ، وكفَّنها ، وجعلها في تابوتٍ ، وحمله من كان معه من النَّصارى على عواتقهم حتَّى أتوا به النَّاووس الّذي أمر ببنائه له ، وواروه فيه ، وردموا بابه.
سابعاً : فتوحات عبد الله بن عامر 31 هـ :
في هذه السَّنة 31 هـ شخص عبد الله بن عامر إلى خراسان ، ففتح أبرشهر ، وطوس ، وبيورد ، ونسا ؛ حتَّى بلغ سَرخَس ، وصالح فيها أهل مرو ، وقد جاء في روايةٍ عن السَّكن بن قتادة العُرَيْنيِّ قال : فتح ابن عامر فارس ، ورجع إلى البصرة ، واستعمل على إصطخر شريك بن الأعور الحارثيَّ ، فبنى شريكٌ مسجد إصطخر ، فدخل على ابن عامر رجلٌ من بني تميم كنا نقول : إنَّه الأحنف ـ ويقال : أوس بن جابر الجُشمَيُّ جُشَم تميم ـ فقال له : إنَّ عدوك منك هاربٌ ، وهو لك هائبٌ ، والبلاد واسعةٌ ، فسر ؛ فإنَّ الله ناصرك ، ومعزُّ دينه ، فتجهَّز ابن عامر ، وأمر النَّاس بالجهاز للمسير ، واستخلف على البصرة زياداً ، وسار إلى كرمان ، ثمَّ أخذ إلى خراسان ، فقومٌ يقولون : أخذ طريق أصبهان ، ثمَّ سار إلى خراسان ، واستعمل على كرمان مجاشعَ بن مسعودٍ السُّلميَّ ، وأخذ ابن عامر على مفازة وابَر ، وهي ثمانون فرسخاً ، ثمَّ سار إلى الطَّبَسَين يريد أبْرَشهر ، وهي مدينة نيسابور ، وعلى مقدِّمته الأحنف بن قيس ، فأخذ إلى قُهِستان ، وخرج إلى أبرشهر ، فلقيه الهباطلة، وهم أهل هَراة ، فقاتلهم الأحنف ، فهزمهم ، ثمَّ أتى ابن عامر نيسابور.
وجاء في روايةٍ : نزل ابن عامر على أبرشهر ، فغلب على نصفها عَنْوَةً ، وكان النِّصف الآخر في يد كنارَى ، ونصف نسا ، وطوس ، فلم يقدر ابن عامر أن يجوز إلى مرو ، فصالح كنارَى ، فأعطاه ابنه أبا الصَّلت بن كنارى ، وابن أخيه سليماً رهناً، ووجَّه عبد الله بن خازم إلى هراة ، وحاتم بن النُّعمان إلى مرو ، وأخذ ابن عامر ابني كنارى ، فصارا إلى النَّعمان بن الأفقم النصري ، فأعتقهما، وفتح ابن عامر ما حول مدينة أبرشهر ، كطوس ، وبيوَرْد ، ونَسا ، وحُمران ، حتَّى انتهى إلى سَرخَس ، وسرَّح ابن عامر الأسود بن كلثوم العدويَّ ـ عديَّ الرَّباب ـ إلى بَيْهق ، وهو من أبرشهر ، بينهما وبين أبرشهر ستة عشر فرسخاً ، ففتحها وقُتل الأسود بن كلثوم ؛ وكان فاضلاً في دينه ، وكان من أصحاب عبد الله بن عامر العنبريِّ ، وكان ابن عامر يقول بعدما أخرج من البصرة : ما آسى من العراق على شيءٍ إلا على ظمأ الهواجر ، وتجاوب المؤذِّنين ، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم.
واستطاع ابن عامر أن يتغلَّب على نيسابور ، وخرج إلى سرخس ، فأرسل إليه أهل مرو يطلبون الصُّلح ، فبعث إليهم ابن عامر حاتم بن النُّعمان الباهليَّ ، فصالح براز مرزبان مرو على ألفي ألفٍ ومئتي ألفٍ.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf