من قادة الفتح في عهد عثمان بن عفان: الأحنف بن قيس
الحلقة السادسة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
1ـ نسبه وأهله :
هو أبو بحر الأحنف بن قيس بن معاوية بن حُصَين بن حَفص بن عبادة التَّميمي، واسمه :
الضَّحاك. وقيل: صخر، وأمُّه: حبَّة بنت عمرو بن قُرْط الباهليَّة، كان أخوها الأخطل بن قُرط من الشُّجعان، وقد قال الأحنف مفاخراً بخاله هذا : وَمَنْ له خالٌ مثل خالي ؟ ! .
2ـ حياته :
كان من سادات التَّابعين ، وأكابرهم ، وسيِّداً مطاعاً في قومه، وسيِّد أهل البصرة، وكان موضع ثقة النَّاس جميعاً بمختلف طبقاتهم ، وأهوائهم ، وميولهم ، وكان أحد الحكماء الدُّهاة العقلاء، ذا دينٍ ، وذكاءٍ ، وفصاحةٍ، وكان سيِّد قومه موصوفاً بالعقل ، والدَّهاء ، والعلم ، والحلم ، يضرب بحلمه المثل ، وقد قال فيه الشَّاعر :
إِذَا الأَبْصَارُ أَبْصَرَتِ ابْنَ قَيْسٍ ظَلَلْنَ مَهَابَةً مِنْهُ خُشُوعا
وقال عنه خالد بن صفوان : كان الأحنف يفرُّ من الشَّرف ، والشَّرف يتبعه، وإليك بعض صفاته الّتي أثرت فيمن حوله :
أ ـ حلمه :
كان الأحنف حليماً ، يضرب بحلمه المثل ، سئل عن الحلم : ما هو ؟ فقال : الذُّلُّ مع الصَّبر . وكان يقول إذا عجب النَّاس من حلمه : إنِّي لأجد ما تجدون ، ولكنِّي صبورٌ ، ما تعلَّمت الحلم إلا من قيس بن عاصم المِنقَريِّ؛ لأنَّه قتل ابن أخٍ له بعضَ بنيه ، فأتى القاتل مكتوفاً يُقاد إليه ، فقال : ذعرتم الفتى ! ثمَّ أقبل على الفتى ، فقال : بئس ما فعلت ! نقصت عددك ، وأوهنت عضدك ، وأشمتَّ عدوَّك ، وأسأت لقومك . خلُّوا سبيله ، واحملوا إلى أمِّ المقتول ديته ، فإنَّها غريبةٌ ! ثمَّ انصرف القاتل وما حلَّ قيسٌ حبوته ، ولا تغيَّر وجهه. وقال رجلٌ للأحنف : علِّمني الحلم يا أبا بحر ! فقال : هو الذُّلُّ يا بن أخي ! أفتصبر عليه ؟ ! وقال : لست حليماً ، ولكنَّني أتحالم.
ومن أخبار حلمه : أنَّ رجلاً شتمه ، فسكت عنه ، وأعاد الرَّجل ، فسكت عنه ، وأعاد ، فسكت عنه ، فقال الرَّجل : والهفاه ! ما يمنعه من أن يردَّ عليَّ إلا هوني عنده.
وكان يقول : من لم يصبر على كلمة سمع كلماتٍ ، وربَّ غيظٍ قد تجرَّعتُه مخافة ما هو أشدُّ منه .
ولكن حلمه كان حلم القويِّ القدير ، لا حلم العاجز الضَّعيف ، فقد قاتل في بعض المواطن قتالاً شديداً ، فقال له رجل : يا أبا بحر ! أين الحلم ؟ فقال : عند الحيّ.
ب ـ عقله :
كان الأحنف عاقلاً راجح العقل ، قال مرَّةً : من كان فيه أربع خصال ساد قومه غير مدافعٍ : من كان له دينٌ يحجزه ، وحسبٌ يصونه ، وعقلٌ يرشده ، وحياءٌ يمنعه.
وقال : العقل خير قرين ، والأدب خير ميراثٍ ، والتَّوفيق خير رفيقٍ.
وقال : ما ذكرت أحداً بسوء بعد أن يقوم من عندي ، وكان يقول إذا ذكر عنده رجلٌ : دعوه يأكل رزقه ، ويأتي عليه أجله.
وشكا ابن أخيه وجع الضِّرس ، فقال : ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة ما ذكرتها لأحد.
وقال : ما نازعني أحدٌ فوقي إلا عرفت له قدره ، ولا كان دوني إلا رفعت قدري عنه ، ولا كان مثلي إلا تفضَّلت عليه.
ج ـ علمه :
كان عالماً ثقةً مأموناً قليل الحديث ، وقد روى عن عمر بن الخطَّاب ، وعثمان ابن عفَّان ، وعليِّ بن أبي طالب ، وأبي ذرٍّ الغفاري ، وروى عنه الحسن البصريُّ، وعُروة بن الزُّبير، وغيرهما، وقد كان من الفقهاء البارزين أيَّام معاوية.
د ـ حكمته :
كان حكيماً ينطق بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، سئل عن المروءة ، فقال : التُّقى، والاحتمال ، ثمَّ أطرق ساعةً ، وقال :
وَإِذَا جَمِيْلُ الْوَجْهِ لَمْ يَأْتِ الجَمِيْلَ فَمَا جَمَالُه ؟ !
مَاْ خَيْرُ أَخْلاَقِ الْفَتَى إلا تُقَاهُ وَاحْتِمَالُه
وسئل عن المروءة ، فقال : العفَّة في الدِّين ، والصَّبر على النَّوائب ، وبرُّ الوالدين، والحلم عند الغضب ، والعفو عند المقدرة.
وقال : رأس الأدب ألة المنطق ، ولا خير في قولٍ إلا بفعلٍ ، ولا منظر إلا بمَخبر، ولا في مالٍ إلا بجودٍ ، ولا في صديق إلا بوفاء ، ولا في فقه إلا بورعٍ ، ولا في صدقةٍ إلا بنيَّة.
وقال : أَحْيِ المعروف بإماتة ذكره، وقال : كثرة الضَّحك تذهب الهيبة ، وكثرة المزاح تذهب المروءة ، ومن لزم شيئاً عُرف به ، وقال : جنِّبوا مجلسنا الطَّعام ، والنِّساء ، فإنِّي لأبغض الرَّجل يكون وصافاً لفرجه ، وبطنه ، وإنَّ المروءة أن يترك الرَّجل الطَّعام وهو يشتهيه .
وقال : السُّؤدد مع السَّواد . يريد : مَنْ لم يَطِرْ له اسمٌ على ألسنة العامَّة بالسُّؤدد ؛ لم ينفعه ما طار له في الخاصَّة.
هـ بلاغته :
كان فصيحاً مفوَّهاً. خطب مرَّةً ، فقال : بعد حمد الله والثناء عليه : يا معشر الأزد ، وربيعة ! أنتم إخواننا في الدِّين ، وشركاؤنا في الصِّهر ، وأشقَّاؤنا في النَّسب ، وجيراننا في الدَّار، ويدنا على العدوِّ ، والله لأزد البصرة أحبُّ إلينا من تميم الكوفة ، ولأزد الكوفة أحبُّ إلينا من تميم الشَّام، فإن استشرف شنان حسد صدوركم؛ ففي أحلامنا، وأموالنا سَعَةٌ لنا ولكم.
لقد كان حاضر البديهة ، قويَّ الحجَّة ، منطقيّاً . جاء الأحنف إلى قومٍ يتكلَّمون في دمٍ ، فقال : احكموا ! فقالوا : نحكم بديتين ! فقال : ذلك لكم . فلمَّا سكتوا ؛ قال : أنا أعطيكم ما سألتم ، غير أنِّي قائلٌ لكم شيئاً : إن الله عزَّ وجلَّ قضى بديةٍ واحدةٍ ، وإن النَّبيّ (ص) قضى بديةٍ واحدةٍ ، وأنتم اليوم طالبون ، وأخشى أن تكونوا غداً مطلوبين ، فلا يرضى النَّاس منكم إلا بمثل ما سننتم لأنفسكم ! ، فقالوا : نردَّها ديةً واحدةً.
وسمع الأحنف رجلاً يقول : ما أبالي : أمدحتُ ، أم ذُممت ، فقال له : لقد استرحت من حيث تعب الكرام.
و ـ إيثاره :
كان الأحنف يحبُّ لغيره ما يحبُّه لنفسه ، بل كان يؤثر غيره على نفسه بالخير، والمعروف ، ويرضي نفسه الرَّضيَّة المطمئنة إلى ما أصاب غيره بجهده من خيرٍ، فعندما جاء الأحنف إلى عمر في المدينة ، عرض أمير المؤمنين عليه جائزةً ، فقال: يا أمير المؤمنين ! والله ما قطعنا الفلوات ، ودأبنا الرَّوحات ، والعشيَّات للجوائز ، وما حاجتي إلا حاجة من خلفي ، فزاده ذلك عند عمر خيراً.
ز ـ أمانته :
كان الأحنف أميناً غاية الأمانة ، وقد مرَّ بنا عندما استعمل ابن عمِّه على أهل بلخ، وقد قبض ابن عمِّه ما صالحوه عليه من آنية الذَّهب ، والفضَّة ، ودنانير ، ودراهم ، ومتاعٍ ، وثيابٍ ، فقال ابن عمِّه لهم : هذا ما صالحناكم عليه ؟ فقالوا : لا ! ولكن هذا شيءٌ نضعه في هذا اليوم بمن ولينا نستعطف به، قال: وما هذا اليوم؟ فقالوا : المهرجان، فقال : ما أدري ما هذا ! وإنِّي لأكره أن أردَّه ، ولعلَّه من حقِّي ، ولكن أقبضه ، وأعزله حتَّى أنظر ، فقبضه ، وقدم الأحنف ، فأخبره ، فسألهم عنه ، فقالوا مثل ما قالوا لابن عمِّه ، فقال : أتي به الأمير ، فحمله إلى عبد الله بن عامر، فأخبره عنه، فقال: اقبضه يا أبا بحر ! فهو لك ، فقال الأحنف : لا حاجة لي فيه. لقد كان يتحرَّج من الهدايا، وكان يكتفي بسهمه من الغنائم.
ح ـ أناته :
كان الأحنف شديد الأناة ، لا يقدم على عملٍ إلا بعد أن يحسب له ألف حساب . قيل له : يا أبا بحر ! إنَّ فيك أناة شديدة ! فقال : قد عرفت من نفسي عجلةً في أمورٍ ثلاثة : في صلاتي إذا حضرت حتَّى أصلِّيها ، وجنازتي إذا حضرت حتَّى أغيِّبها في حفرتها ، وابنتي إذا خطبها كفيئها حتَّى أزوِّجه.
ط ـ ورعه :
كان الأحنف مؤمناً ورعاً قويَّ الإيمان ، فقد سارع إلى اعتناق الإسلام أوَّل ما بلغته الدَّعوة الإسلاميَّة ، وأسلم قومه بإشارته، وبسط حمايته القويَّة الأمينة على الدُّعاة الأوَّلين، وثبت على عقيدته عندما ارتدَّ أكثر قومه ، وأكثر العرب بعد وفاة النَّبيّ (ص) ، وجاهد للدِّفاع عنها ، ونشرها حقَّ الجهاد ، وأبلى في ذلك أعظم البلاء . قال الحسن البصريُّ عنه : ما رأيت شريف قوم أفضل منه.
قال الأحنف : حبسني عمر بن الخطَّاب عنده بالمدينة سنةً ، يأتيني كلَّ يومٍ وليلةٍ ، فلا يأتيه عنِّي إلا ما يحبُّ، فكتب عمر بعد نجاح الأحنف في الاختبار العمريِّ وما أصعبه ، وأدقَّه من اختبار ! معه كتباً إلى الأمير على البصرة يقول: الأحنف سيِّد أهل البصرة.
وكتب إلى أبي موسى الأشعريِّ أن يشاور الأحنف ، ويسمع منه .
وقال له عمر بعد أن حبسه حولاً عنده : يا أحنف ! قد بلوتك ، وخبرتك ، فلم أرَ إلا خيراً، ورأيت علانيتك حسنةً ، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك.
لقد كان الأحنف رجلاً صالحاً كثير الصَّلاة باللَّيل ، وكان يسرج المصباح ، ويصلِّي ، ويبكي حتَّى الصَّباح ، وكان يضع أصبعه في المصباح ويقول لنفسه : إذا لم تصبر على المصباح ، فكيف تصبر على النَّار الكبرى. وقيل له : إنَّك تكثر الصَّوم ، وإنَّ ذلك يرقُّ المعدة . فقال : إنِّي أعدُّه لسفرٍ طويل. واستُعمل الأحنف على ( خراسان) ، فلمَّا أتى فارس ؛ أصابته جنابةٌ في ليلة باردةٍ ، فلم يوقظ أحداً من غلمانه ، ولا جنده ، وانطلق يطلب الماء ، فأتى على شوكٍ ، وشجرٍ حتَّى سالت قدماه دماً ، فوجد الثَّلج ، فكسره ، واغتسل، وكان قلَّ ما خلا إلا دعا بالمصحف، وكان النَّظر في المصاحف خُلُقاً في الأوَّلين.
وكان من دعائه : الّلهُمَّ إن تغفر لي ؛ فأنت أهل ذاك ! وإن تعذِّبني ؛ فأنا أهل ذاك.
ومن دعائه : اللَهُمَّ هبْ لي يقيناً تهوِّن به عليَّ مصيبات الدُّنيا! ومرَّت به جنازة، فقال : رحم الله من أجهد نفسه لمثل هذا اليوم .
وكان يقول : عجبت لمن يجري في مجرى البول مرَّتين كيف يتكبر؟ !
هذه بعض صفات شخصيَّة الأحنف ، استحوذ بها على ثقة النَّاس به ، وحبِّهم ، وتقديرهم له ، وهذه الصِّفات تجعل من يتحلَّى بها شخصيَّةً قويَّةً ، نافذةً ، يندر وجودها بين النَّاس في كلِّ زمانٍ ، ومكانٍ ، وقلَّما يجود بها الدَّهر إلا نادراً. لقد كان الأحنف من قادة الفتوحات في عهد عثمان رضي الله عنه وقد تميَّز في قيادته لجيوش الفتح لبلاد المشرق بقدرته على إعداد الخطط الصَّحيحة النَّاجحة ، وإعطاء القرارات السَّريعة الصَّائبة ، كما كان لشجاعته الشَّخصية ، وإقدامه أثرٌ كبيرٌ في وضع تلك الخطط ، والقرارات في حيِّز التَّنفيذ ، لقد كان يبذل قصارى جهده في إعداد خططه العسكريَّة ، وإعطاء ذوي الرَّأي ، بل يتجوَّل سرّاً في اللَّيل بين عامَّة رجاله يتسمَّع أحاديثهم ، فإذا وجد رأياً سديداً يبدونه فيما بينهم ؛ سارع إلى العمل به ، لا يهمُّه أن يأخذ الحكمة من أيِّ وعاءٍ .
وقد كان هذا القائد الميدانيُّ في عهد عثمان يقاتل عدوَّه بسيفه ، وعقله معاً ، فقد كان على جانبٍ عظيمٍ من الشَّجاعة ، والإقدام ، حتَّى إنَّه كان يستأثر بالخطر دون رجاله ، ويؤثرهم بالرَّاحة ، والأمن ؛ كما كان على جانبٍ عظيمٍ من الدَّهاء ، فيوفِّر بدهائه على قواته كثيراً من الجهود والمشقَّات.
لقد كان الأحنف رجلاً في أمَّةٍ ، وأمَّةً في رجلٍ... إنَّه سيِّد أهل المشرق المسمَّى بغير اسمه ، كما كان يقول عنه عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf