فتوحات الشام في عهد عثمان بن عفان
الحلقة السابعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
أولاً : فتوحات حبيب بن مسلمة الفهري :
مرَّ بنا : أنَّ الرُّوم أجلبت على المسلمين بالشَّام بجموع عظيمةٍ أوَّل خلافة عثمان، فكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة بالكوفة أن يمدَّ إخوانه بالشَّام ، فأمدَّهم بثمانية آلاف ، عليهم سلمان بن ربيعة الباهليُّ ، فظفر المسلمون بعدوِّهم بعد أن غزوهم في أرض الرُّوم ، فأسروا منهم ، وغنموا ، وكان تحالف الرُّوم والتُّرك قد تجمَّع لملاقاة المسلمين الّذين غزوا أرمينية من الشَّام ، وكان على المسلمين حبيب ابن مسلمة ، وكان صاحب كيدٍ لعدوه ، فأجمع أن يُبيِّت قائدهم الموريان ـ أي : يباغته ليلاً ـ فسمعته امرأته أمُّ عبد الله بنت يزيد الكلبيَّة يذكر ذلك ، فقالت : فأين موعدك ؟ قال : سرادق الموريان أو الجنَّة ... ثمَّ بيَّتهم ، فغلبهم ، وأتى سرادق الموريان ، فوجد امرأته قد سبقته إليه، وواصل حبيب جهاده ، وانتصاراته المتوالية في أراضي أرمينية ، وأذربيجان ، ففتحها إمَّا صلحاً ، أو عَنْوَةً.
لقد كان حبيب بن مسلمة الفهري من أبرز القادة الّذين حاربوا في أرمينية البيزنطيَّة ، فقد أباد جيوشاً بأكملها للعدوِّ ، وفتح حصوناً ، ومدناً كثيرةً، كما غزا ما يلي ثغور الجزيرة العراقيَّة من أرض الرُّوم فافتتح عدَّة حصونٍ هناك ، مثل شمشاط ، وملطية ، وغيرها ، وفي سنة 25 هـ غزا معاوية الرُّوم فبلغ عمُّورية ، فوجد الحصون الّتي بين أنطاكية ، وطرسوس خاليةً فجعل عندها جماعةً كثيرةً من أهل الشَّام ، والجزيرة ، وواصل قائده قيس بن الحرِّ العبسيُّ الغزو في الصَّيف التَّالي، ولمَّا فرغ هدم بعض الحصون القريبة من أنطاكية كي لا يفيد منها الرُّوم.
ثانياً : أوَّل من أجاز الغزو البحريَّ : عثمان بن عفَّان :
كان معاوية بن أبي سفيان ـ وهو أمير الشَّام ـ يلحُّ على عمر بن الخطَّاب في غزو البحر ، ويصف له قرب الرُّوم من حمص ، ويقول : إن قريةً من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم ، وصياح دجاجهم، حتَّى كان ذلك يأخذ بقلب عمر ، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص : صف لي البحر ، وراكبه ، فإنَّ نفسي تنازعني إليه ، فكتب إليه عمرو : إنِّي رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلقٌ صغير ، إنَّ ركن خرَّق القلب ، وإن تحرَّك أزاغ العقول ، يزداد فيه اليقين قلَّةً ، والشَّكُّ كثرةً ، هم كدود على عودٍ ؛ إن مال ؛ غرق ، وإن نجا ؛ برق . فلمَّا قرأ عمر بن الخطَّاب كتاب عمرو بن العاص كتب إلى معاوية : أنْ لا ، والذي بعث محمَّداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً ، وتالله لمسلمٌ أحبُّ إليَّ ممَّا حوت الرُّوم ، فإيَّاك أن تعرض لي ، وقد تقدَّمت إليك ، وقد علمت ما لقي العلاء منِّي ، ولم أتقدَّم إليه في ذلك، ولكن الفكرة لم تبرح نفس معاوية ، وقد رأى في الرُّوم ما رأى ، فطمع في بلادهم ، وفي فتحها ، فلمَّا تولَّى الخلافة عثمان عاود معاوية الحديث ، وألحَّ به على عثمان ، فردَّ عليه عثمان رضي الله عنه قائلاً : ( أن قد شهدت ما ردَّ عليك عمر ـ رحمه الله ـ حين استأذنته في غزو البحر ) ثمَّ كتب إليه معاوية مرَّةً أخرى يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص ، فكتب إليه : ( فإن ركبت معك امرأتك فاركبه مأذوناً ، وإلا ، فلا ).
كما اشترط عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه أيضاً بقوله : ( لا تنتخب النَّاس، ولا تقرع بينهم ، خيِّرهم ، فمن اختار الغزو طائعاً ؛ فاحمله ، وأعنه ) ، فلمَّا قرأ معاوية كتاب عثمان نشط لركوب البحر إلى قبرص ، فكتب لأهل السواحل يأمرهم بإصلاح المراكب ، وتقريبها إلى ساحل حصن عكَّا ، فقد رمَّمه ليكون ركوب المسلمين منه إلى قبرص .
ثالثاً : غزوة قبرص :
أعدَّ معاوية المراكب اللازمة لحمل الجيش الغازي ، واتَّخذ ميناء عكَّا مكاناً للإقلاع ، وكانت المراكب كثيرةً ، وحمل معه زوجه فاختة بنت قرظة ، كذلك حمل عبادة بن الصَّامت امرأته أمَّ حرام بنت ملحان معه في تلك الغزوة.
وأمُّ حرام هذه هي صاحبة القصَّة المشهورة : عن أنسٍ بن مالكٍ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله (ص) كان يدخل على أمِّ حرام بنت ملحان ، فتطعمه ، وكانت أمُّ حرام تحت عبادة بن الصَّامت ، فدخل عليها رسول الله (ص) يوماً ، فأطعمته ، ثمَّ جلست تفلي من رأسه ، فنام رسول الله (ص) ، ثمَّ استيقظ وهو يضحك . فقالت : فقلت : ما يضحككَ يا رسول الله ؟ !
قال : « ناسٌ من أمتي عُرضوا عليَّ غزاةً في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرَّة ، أو مثل الملوك على الأسرَّة » قالت : فقلت : يا رسول الله ! ادع الله أن يجعلني منهم ! فدعا لها ، ثمَّ وضع رأسه فنام ، ثمَّ استيقظ ؛ وهو يضحك ، قالت: فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ !
قال : « ناس من أمَّتي عُرضوا عليَّ في سبيل الله ... » ـ كما قال في الرواية الأولى ـ . قال : أنت من الأوَّلين . فركبت أمُّ حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابَّتها حين خرجت من البحر ، فهلكت.
ورغم أنَّ معاوية رضي الله عنه لم يجبر النَّاس على الخروج ، فقد خرج معه جيشٌ عظيمٌ من المسلمين، ممَّا يدلُّ على أنَّ المسلمين قد هانت في أعينهم الدُّنيا بما فيها ، فأصبحوا لا يعبؤون بها بالرَّغم من أنَّها قد فتحت عليهم أبوابها ، فصاروا يرفلون في نعيمها .
إنَّ المسلمين قد تربَّوا على أنَّ ما عند الله خيرٌ ، وأبقى ، وأنَّ الله اصطفاهم لنصرة دينه ، وإقامة العدل ، ونشر الفضيلة ، والعمل على إظهار دين الله على كلِّ ما عداه ، وهم يعتقدون : أنَّ هذه المهمَّة هي رسالتهم الحقيقية ، وأنَّ الجهاد في سبيل الله هو سبيل الحصول على مرضاة الله ، فإن هم قصَّروا في مهمَّتهم ، وقعدوا عن أداء واجبهم ؛ فسيمسك الله عنهم نصره في الدُّنيا ، ويحرمهم مرضاته في الاخرة ، وذلك هو الخسران المبين ، من أجل هذا هُرعوا مع معاوية ، وتسابقوا إلى السُّفن يركبونها ، ولعلَّ حديث أمِّ حرامٍ قد ألمَّ بخواطرهم ، فدفعهم إلى الخروج للغزو في سبيل الله تصديقاً لحديث رسول الله (ص) ، وكان ذلك بعد انتهاء فصل الشِّتاء في سنة ثمانٍ وعشرين من الهجرة ( 649م ) .
وسار المسلمون من الشَّام وركبوا من ميناء عكَّا متوجِّهين إلى قبرص ، ونزل المسلمون إلى السَّاحل، وتقدَّمت أمُّ حرام لتركب دابَّتها، فنفرت الدَّابة، وألقت أمَّ حرام على الأرض، فاندقت عنقها، فماتت، وترك المسلمون أمَّ حرام بعد دفنها في أرض الجزيرة عنواناً على مدى التَّضحيات الّتي قدَّمها المسلمون في سبيل نشر دينهم، وعرف قبرها هناك بقبر المرأة الصَّالحة.
واجتمع معاوية بأصحابه ، وكان فيهم : أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريُّ ، وأبو الدَّرداء ، وأبو ذرٍّ الغفاريُّ، وعبادة بن الصَّامت، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن بشر المازنيُّ، وشدَّاد بن أوس بن ثابتٍ، والمقداد بن الأسود، وكعب الحبر بن ماتعٍ ، وجبير بن نفير الحضرميُّ.
وتشاوروا فيما بينهم ، وأرسلوا إلى أهل قبرص يخبرونهم : أنَّهم لم يغزوهم للاستيلاء على جزيرتهم، ولكن أرادوا دعوتهم لدين الله ، ثمَّ تأمين حدود الدَّولة الإسلاميَّة بالشَّام ، وذلك لأنَّ البيزنطيِّين كانوا يتَّخذون من قبرص محطَّةً يستريحون فيها ؛ إذا غزوا ، ويتموَّنون منها ، إذا قلَّ زادهم ، وهي بهذه المثابة تهدِّد بلاد الشَّام الواقعة تحت رحمتها ، فإذا لم يطمئنَّ المسلمون على مسالمة هذه الجزيرة لهم ، وخضوعها لإرادتهم ، فإنَّ وجودها كذلك سيظلُّ شوكةً في ظهورهم ، وسهماً مسدَّداً في صدورهم ، ولكنَّ سكَّان الجزيرة لم يستسلموا للغزاة ، ولم يفتحوا لهم بلادهم ، بل تحصَّنوا في العاصمة ، ولم يخرجوا لمواجهة المسلمين ، وكان أهل الجزيرة ينتظرون تقدُّم الروم للدِّفاع عنهم ، وصدِّ هجوم المسلمين عليها.
رابعاً : الاستسلام ، وطلب الصُّلح :
تقدَّم المسلمون إلى عاصمة قبرص ( قسطنطينا ) وحاصروها وما هي إلا ساعات حتَّى طلب النَّاس الصُّلح ، وأجابهم المسلمون إلى الصُّلح ، وقدَّموا للمسلمين شروطاً ، واشترط عليهم المسلمون شروطاً ، وأمَّا شرط أهل قبرص ؛ فكان في طلبهم ألا يشترط عليهم المسلمون شروطاً تورِّطهم مع الرُّوم ؛ لأنَّهم لا قبل لهم بهم، ولا قدرة لهم على قتالهم ، وأمَّا شروط المسلمين ؛ فهي :
1ـ ألا يدافع المسلمون عن الجزيرة ؛ إذا هاجم سكانها محاربون .
2ـ أن يدلَّ سكان الجزيرة المسلمين على تحرُّكات عدوِّهم من الرُّوم .
3ـ أن يدفع سكان الجزيرة للمسلمين سبعة آلاف ومئتي دينارٍ في كلِّ عامٍ .
4ـ أن يكون طريق المسلمين إلى عدوِّهم عليهم .
5ـ ألا يساعدوا الرُّوم إذا حاولوا غزو بلاد المسلمين ، ولا يُطلعوهم على أسرارهم.
وعاد المسلمون إلى بلاد الشَّام ، وأثبتت هذه الحملة قدرة المسلمين على خوض غمار المعارك البحريَّة بجدارةٍ ، وأعطت المسلمين فرصة المران على الدُّخول في معارك من هذا النَّوع مع العدوِّ المتربِّص بهم سواءً بالهجوم على بلاد الشَّام ، أو على الإسكندرية.
خامساً : عبد الله بن قيس قائد الأسطول الإسلامي في الشَّام :
استعمل معاوية بن أبي سفيان على البحر عبد الله بن قيس الجاسيَّ حليف بني فزارة ، فغزا خمسين غزاةً ما بين شاتيةٍ ، وصائفةٍ في البحر ، ولم يغرق فيه أحدٌ ، ولم ينكب ، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده ، وألا يبتليه بمصاب أحدٍ منهم ، ففعل ، حتَّى إذا أراد أن يصيبه وحده ، خرج في قاربه طليعةً ، فانتهى إلى المرفأ من أرض الرُّوم ، وعليه سُؤَّال يعترُّون بذلك المكان ، فتصدق عليهم ، فرجعت امرأة من السُّؤَّال إلى قريتها، فقالت للرِّجال: هل لكم في عبد الله بن قيس ؟ قالوا : وأين هو ؟ قالت : في المرفأ ، قالوا : أي عدوَّة الله ، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس ؟ فوبَّختهم، وقالت : أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحدٍ ! فساروا إليه ، فهجموا عليه ، فقاتلوه ، وقاتلهم ، فأصيب وحده ، وأفلت الملاح حتَّى أتى أصحابه ، فجاؤوا حتَّى أرقوا ، وخليفته منهم سفيان بن عوف الأزديُّ ، فخرج فقاتلهم ، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ، ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله : واعبد الله ! ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان : وكيف كان يقول ؟ قالت : الغمرات ثمَّ ينجلينا ، فترك ما كان يقول ، ولزم : الغمرات ثمَّ ينجلينا .
وأصيب في المسلمين يومئذٍ ، وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس الجاسيِّ. وقيل لتلك المرأة الّتي استثارت الرُّوم على عبد الله بن قيس : كيف عرفته ؟ قالت : كان كالتَّاجر ، فلمَّا سألته ؛ أعطاني كالملك ، فعرفت أنَّه عبد الله بن قيس.
وهكذا حينما أراد الله تعالى أن يمنَّ بالشَّهادة على هذا القائد العظيم أتيحت له وهو في وضع لا يضرُّ بسمعة المسلمين البحريَّة ، حيث كان وحده يتطلَّع ، ويراقب الأعداء، فكانت تلك الكائنة الغريبة الّتي أبصرت غورها تلك المرأة الذَّكيَّة من نساء تلك البلاد ، حيث رأت ذلك الرَّجل يظهر في مظاهره الخارجيَّة بمظهر التُّجار العاديين، ولكنَّه يعطي عطاء الملوك ، فلقد رأت فيه أمارات السِّيادة مع بساطة مظهره، فعرفت : أنَّه قائد المسلمين ، الّذي دوَّخ المحاربين في تلك البلاد ، وهكذا كانت سماحة ذلك القائد وسخاؤه البارز حتَّى مع غير المسلمين سبباً في كشف أمره، ومعرفة مركزه ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فيتمَّ بذلك الهجوم عليه ، وظفره بالشَّهادة ، وهكذا يضرب قادة المسلمين المُثُل العليا بأنفسهم ، لتتمَّ الإنجازات الكبرى على أيديهم ، وليكونوا قدوةً صالحة لمن يخلفهم ، فقد قام هذا القائد الملهم بمهمَّة الاستطلاع بنفسه ، ولم يكل الأمر إلى جنوده ، وفي انفراده بهذه المهمَّة مظنَّةٌ للتورُّط مع الأعداء ، والهلاك على أيديهم ، ولكنَّه مع ذلك يغامر بنفسه ، فيتولَّى هذه المهمَّة ، ثمَّ نجده يتخلَّق بأخلاق الإسلام العليا حتَّى مع نساء الأعداء ، وضَعَفَتهم فيمدُّ إليهم يد الحنان ، والعطف ، ويسخُو لهم بالمال الّذي هو من أعزِّ ما يملك النَّاس ، ونجده قبل ذلك مع جنده رفيقاً صبوراً ، لا معنِّفاً ، ولا مستكبراً ، وإذا ادلهمَّت الخطوب ، تفاءل بانكشاف الغمَّة ، ولم يلجأ إلى لوم أصحابه ، وتعنيفهم ، ولم يهيمن عليه الارتباك الّذي يفسد العمل ، ويعجِّل بالخلل ، والفوضى ، وأمَّا خليفته سفيان الأزديُّ ، فلعلَّه وقع فيما وقع فيه من الارتباك ، والاشتغال بطرح اللائمة على جنده لكونه حديث العهد بأمور القيادة ، ولكن ممَّا يُحفظ له : أنَّه لما نبَّهته جارية عبد الله بن قيس إلى ذلك الأسلوب الحكيم الّذي كان أميره ينتهجه في القيادة سارع في التأسِّي به في ذلك ، ولم يحمله التكبُّر على عدم سماع كلمة الحقِّ ، وإن صدرت من جارية مغمورة .
وهذا مثلٌ من أمثلة التَّجرُّد من هوى النَّفس ، هذا الخلق العظيم الّذي كان غالباً في الجيل الأوَّل ، وبه تمَّ إنجاز الفتوحات العظيمة ، ونجاح الولاة ، والقادة في إدارة أمور الأمَّة ، فَلّلهِ درُّ أبناء ذلك الجيل : ما أبلغ ذكرهم ! وما أبعد غورهم ! وما أعظم وطأتهم في الأرض على الجبارين ! وما أعذب لمساتهم في الأرض على المستضعفين، والمساكين!
سادساً : القبارصة ينقضون الصلح :
في سنة اثنتين وثلاثين هجريَّة ، وقع سكان قبرص تحت ضغطٍ روميٍّ عنيفٍ أجبرهم على إمداد جيش الرُّوم بالسُّفن ، ليغزوا بها بلاد المسلمين ، وبذلك يكون القبرصيون قد أخلُّوا بشروط الصُّلح ، وعلم معاوية بخيانة أهل قبرص ، فعزم على الاستيلاء على الجزيرة ، ووضعها تحت سلطان المسلمين ، فقد هاجم المسلمون الجزيرة هجوماً عنيفاً ، فقتلوا ، وأسروا ، وسلبوا ، هجم عليها جيش معاوية من جهةٍ، وعبد الله بن سعد من الجانب الآخر ، فقتلوا خلقاً كثيراً ، وسبوا سبياً كثيراً ، وغنموا مالاً جزيلاً، وتحت ضغط القوَّات الإسلاميَّة اضطر حاكم قبرص أن يستسلم للفاتحين ويلتمس منهم الصُّلح ، فأقرَّهم معاوية على صلحهم الأوَّل، وخشي معاوية أن يتركهم هذه المرَّة بغير جيشٍ يرابط في الجزيرة ، فيحميها من غارات الأعداء ، ويضبط الأمن فيها حتَّى لا تتمرَّد على المسلمين ؛ فبعث إليهم اثني عشر ألفاً من الجنود ، ونقل إليهم جماعةً من بعلبك ، وبنى هناك مدينة ، وأقام فيها مسجداً ، وأجرى معاوية على الجنود أرزاقهم ، وظلَّ الحال على ذلك ، الجزيرة هادئةٌ ، والمسلمون آمنون من هجمات الرُّوم المفاجئة ، ولاحظ المسلمون: أنَّ أهل قبرص ليس فيهم قدراتٌ عسكريَّة، وهم مستضعفون أمام من يغزوهم ، وأحسَّ المسلمون : أنَّ الرُّوم يغلبونهم على أمرهم ، ويسخِّرونهم لمصالحهم فرأوا أنَّ من حقِّهم عليهم أن يحموهم من ظلم الرُّوم ، وأن يمنعوهم من تسلُّط البيزنطيِّين.
وقال إسماعيل بن عيَّاش : أهل قبرص أذلاء مقهورون يغلبهم الرُّوم على أنفسهم، ونسائهم ، فقد يحقُّ علينا أن نمنعهم ، ونحميهم.
سابعاً : ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه :
وقد جاء في سياق هذه الغزوة المذكورة خبر أبي الدَّرداء رضي الله عنه حينما نظر إلى سبي الأعداء ، فبكى ، ثمَّ قال : ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه ، فانظر إلى هؤلاء القوم بينما هم ظاهرون قاهرون لمن ناوأهم، فلمَّا تركوا أمر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وعصوه؛ صاروا إلى ما ترى.
وجاء في روايةٍ : فقال له جبير بن نفير : أتبكي وهذا يومٌ أعزَّ الله فيه الإسلام ، وأهله ؟ فقال : ويحك ! إنَّ هذه كانت أمَّةً قاهرةً لهم مُلْكٌ ، فلمَّا ضيَّعوا أمر الله ، صيَّرهم إلى ما ترى ، سلَّط الله عليهم السَّبي ، وإذا سلط على قوم السَّبي ، فليس لله فيهم حاجةٌ ، وقال : ما أهون العباد على الله تعالى ؛ إذا تركوا أمره.
إنَّ ما تفوَّه به أبو الدَّرداء ، يعتبر مثلاً للبصيرة النافذة ، والفقه في أمر الله تعالى ، فهذا الصَّحابيُّ الجليل يبكي حسرةً على هؤلاء الّذين أعمى الله بصائرهم ، فلم ينقادوا لدعوة الحقِّ ، فباؤوا بهذا المصير المؤلم ، حيث تحوَّلوا من الملك ، والعزَّة إلى الاستسلام والذلَّة ؛ لإصرارهم على لزوم الباطل ، والتكبُّر على الخضوع لدعوة الحقِّ، ولو أنَّهم عقلوا ، وتدبَّروا لكان في دخولهم في الإسلام بقاء ملكهم ، وعمران ديارهم ، والظَّفر بحماية دولة الإسلام ، وإنَّ هذا التَّفكير العميق من أبي الدَّرداء مظهرٌ من مظاهر الرَّحمة ، والعطف ، تفتَّحت عنه نفسه الزَّكيَّة ، فتشكَّل ذلك في الظَّاهر على هيئة دموع تتحدَّر من عيني هذا الرَّجل العظيم ، ليعبِّر عمَّا يجول في نفسه من نظرات الحنان ، والرَّحمة ، والأسى على مصير تلك الأمَّة الّتي اجتمع لها البقاء على الضَّلال ، والمال السَّيأى بزوال الملك ، والوقوع في الذلِّ والهوان ، وإنَّه بقدر ما يفرح المسلم بدخول النَّاس في الإسلام ، فإنَّه يحزن من رؤية الكافرين وهم يعيشون في ضلالٍ مع إدراكه ما ينتظرهم من العذاب الأليم المؤبَّد في الأخرة ، فكيف إذا أضيف إلى ذلك وقوعهم في الأسر ، والتشرُّد ، وتعرضهم للقتل في الحياة الدُّنيا؟ !
ثامناً : عبادة بن الصَّامت يقسِّم غنائم قبرص :
قال عبادة بن الصَّامت لمعاوية رضي الله عنهما : شهدت رسول الله (ص) في غزوة حنين والنَّاس يكلِّمونه في الغنائم ، فأخذ وبرةً من بعيرٍ ، وقال : « ما لي ممَّا أفاء الله عليكم من هذه الغنائم إلا الخمس ، والخمس مردودٌ عليكم » . فاتَّق الله يا معاوية ! واقسم الغنائم على وجهها ، ولا تعط منها أحداً أكثر من حقِّه ! فقال له معاوية: قد ولَّيتك قسمة الغنائم ، ليس أحدٌ بالشَّام أفضل منك ، ولا أعلم ، فاقسمها بين أهلها ، واتَّق الله فيها ! فقسمها عبادة بين أهلها ، وأعانه أبو الدَّرداء ، وأبو أمامة.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf