الفتوحات في عهد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه
الحلقة الخامسة والعشرون
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
- غزو الباب وبَلَنْجَر سنة اثنتين وثلاثين :
كتب عثمان بن عفَّان رضي الله عنه إلى سعيد بن العاص : أن أغزِ سلمان الباب ، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة وهو على الباب : إنَّ الرَّعية قد أبطر كثيراً منهم البطنةُ ، فقصِّر ، ولاتقتحم بالمسلمين ، فإنِّي خاشٍ أن يُبتلوا ، فلم يزجر ذلك عبد الرَّحمن عن غايته ، وكان لا يقصِّر عن بلنجر ، فغزا سنة تسع من إمارة عثمان حتَّى إذا بلغ بلنجر ، حصروها ، ونصبوا عليها المجانيق ، والعرَّادات، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أعنتوه ، أو قتلوه ، فأسرعوا في النَّاس.
ثمَّ إنَّ التُّرك اعتدوا يوماً ، فخرج أهل بلنجر ، وتوافت إليهم التُّرك ، فاقتتلوا ، فأصيب عبد الرَّحمن بن ربيعة ـ وكان يقال له : ذو النُّور ـ وانهزم المسلمون ، فتفرَّقوا، فأما من أخذ طريق سلمان بن ربيعة ، فحماه حتَّى خرج من الباب ، وأمَّا من أخذ طريق الخزر ، وبلادها ، فإنَّه خرج على جيلان ، وجُرجان ، وفيهم سلمان الفارسيُّ ، وأبو هريرة ، وأخذ القوم جسد عبد الرَّحمن فجعلوه في سَفَط ، فبقي في أيديهم ، فهم يستسقون به إلى اليوم ، ويستنصرون به.
1ـ مقتل يزيد بن معاوية :
غزا أهل الكوفة بلنجر بعد سنين من إمارة عثمان لم تئِم فيهنَّ امرأةٌ ، ولم ييتم فيهنَّ صبيٌّ من قتلٍ ، حتَّى كان سنة تسع من خلافة عثمان قبل المزاحفة بيومين رأى يزيد بن معاوية : أنَّ غزالاً جيء به إلى خبائه ، لم ير غزالاً أحسن منه ، حتَّى لُفَّ في ملحفته ، ثمَّ أتي به قبرٌ عليه أربعة نفرٍ ، لم ير قبراً أشدَّ استواءً منه ، ولا أحسن منه حتَّى دُفن فيه ، فلمَّا تفادى النَّاس على الترك ، رمي يزيد بحجرٍ ، فهشم رأسه ، فكأنما زيِّن ثوبه بالدِّماء زينةً ، وليس بتلطُّخٍ ، فكان ذلك الغزال الّذي رأى، وكان يزيد رقيقاً جميلاً ـ رحمه الله ـ ، وبلغ ذلك عثمان ، فقال : إنَّا لله وإنا إليه راجعون ! انتكث أهل الكوفة ، الّلهمَّ تب عليهم ، وأقْبل بهم!
2ـ ما أحسن حمرة الدِّماء في بياضك !
كان عمرو بن عتبة يقول لقباءٍ عليه أبيضَ : ما أحسن حمرة الدِّماء في بياضك ! فأصيب عند الالتحام مع العدوِّ بجراحةٍ ، فرأى قباءه كما اشتهى ، وقتل .
3ـ ما أحسن لمع الدِّماء على الثياب !
كان القرَّشَع يقول: ما أحسن لمع الدِّماء على الثياب ! فلمَّا كان يوم المزاحفة ؛ قاتل القرَّشَع حتَّى خُرِّق بالحراب ، فكأنَّما كان قباؤه ثوباً أرضه بيضاء ، ووشيه أحمر، وما زال النَّاس ثبوتاً حتَّى أصيب ، وكانت هزيمة النَّاس مع مقتله.
4ـ إنَّ هؤلاء يموتون كما تموتون :كان التُّرك ـ في تلك المعركة ـ قد اختفوا في الغياض، وكانوا قد خافوا المسلمين، واعتقدوا أنَّ السلاح لا يعمل فيهم ! واتَّفق : أنَّ تركيّاً اختفى في غيضةٍ ، ورشق مسلماً بسهم فقتله ، فنادى في قومه : إنَّ هؤلاء يموتون كما تموتون ، فلِمَ تخافوهم ؟ فاجترأ التُّرك على المسلمين ، وخرجوا عليهم من مكامنهم ، وأوقعوا بهم ، واشتدَّ القتال ، فثبت عبد الرحمن حتَّى استشهد .
5ـ صبراً آل سلمان !
جاء في روايةٍ أخرى: حين استشهد عبد الرَّحمن؛ أخذ الرَّاية أخوه سلمان بن ربيعة الباهليُّ، وقتل بها ، ونادى منادٍ : ( صبراً ال سلمان ! ) فقال سلمان : أو ترى جَزَعاً ! ! وخرج سلمان، ومعه أبو هريرة الدَّوسيُّ على جيْلان، فقطعوها إلى جُرجان منسحباً من معركة خاسرة ، بعد أن دفن أخاه عبد الرَّحمن بنواحي بلنجر، وبهذا الانسحاب أنقذ سلمان بقيَّةً باقيةً من جيش أخيه.
وقد رجَّح هذه الرِّواية محمود شيت خطَّاب ، وقال : إنَّ الانسحاب أشبه بقتال المسلمين يومئذٍ ، وذلك في حالة اشتداد الضَّغط عليهم من العدوِّ ، وتكبُّدهم خسائر فادحةً بالأرواح ، والانسحاب هو من أجل الانحياز إلى فئةٍ من المسلمين ، ليعيدوا الكرَّة ثانيةً ، على عدوِّهم ، وقد جاء سلمان بن ربيعة مدداً لعبد الرَّحمن بأمر عثمان بن عفَّان ، فليس من المعقول أن يبقى ومدده في ( الباب ) ، وليس من المعقول أن يتركه أخوه عبد الرَّحمن هناك ، وهو يخوض معركةً قاسية شرسةً ، يكون فيها القائد بأمسِّ الحاجة إلى الجنديِّ الواحد ، فكيف يترك عبد الرَّحمن جيشاً كاملاً على رأسه أخوه دون أن يستفيد منه في المعركة ؟
إنَّ المؤرِّخين القُدامى كانوا يستعملون تعبير : ( الهزيمة ) وهم يريدون بها تعبير الانسحاب ؛ ذلك لأنَّ أكثرهم مدنيُّون لا يفرِّقون بين هذين التَّعبيرين : ( الهزيمة ) ترك ساحة القتال بدون نظامٍ ، ولا قيادةٍ ، فهي كارثةٌ ، و( الانسحاب ) ترك ساحة القتال وفق خُطةٍ مرسومةٍ بقيادةٍ واحدةٍ ، فهو ـ أي : الانسحاب ـ صفحةٌ من صفحات القتال ، الهدف منه إعادة الكرَّة على العدوِّ بعد إكمال متطلبات المعركة عدداً ، وعُدداً ، وعسى ألا يقع المؤرخون المحدثون في مثل هذا الخطأ في التَّعبير ، فلا يفرِّقون بين ( الهزيمة) و( الانسحاب ) ؛ لأنَّ الفرق بين التَّعبيرين شاسعٌ بعيد .
- أوَّل اختلاف وقع بين أهل الكوفة ، وأهل الشام 32 هـ :
لما قتل عبد الرَّحمن بن ربيعة ، استعمل سعيدُ بن العاص على ذلك الفرع سلمان بن ربيعة ، وأمدَّهم عثمان بأهل الشَّام : عليهم حبيب بن مسلمة ، فتنازع حبيب وسلمان على الإمرة ، وقال أهل الشَّام : لقد هممنا بضرب سلمان ، فقال في ذلك النَّاس : إذاً والله نضرب حبيباً ، ونحبسه ، وإن أبيتم ؛ كثرت القتلى فيكم ، وفينا، حتَّى قال في ذلك رجلٌ من أهل الكوفة ، وهو أوس بن مغراء :
إنْ تَضْرِبُوا سَلْمَانَ نَضْرِبْ حَبِيْبَكُمْ وَإِنْ تَرْحَلُوا نَحْوَ ابْنِ عفَّانَ نَرْحَلُ
إنْ تُقْسِطُوا فَالثَّغْرُ ثَغْرُ أَمِيْرِنَا وَهذَا أَمِيْرٌ فِي الكَتَائِبُ مُقْبِلُ
وَنَحْنُ وُلاَةُ الثَّغْرِ كُنَّا حُمَاتَهُ لَيَالِيَ نَرْمِي كُلَّ ثَغْرٍ ونُنْكِلُ
وتغلَّب المسلمون على الفتنة بتوفيق الله ، ثمَّ بوجود أمثال حذيفة بن اليمان ؛ الّذي كان على الغزو بأهل الكوفة ، فقد غزا ذلك الثَّغر ثلاث غزواتٍ ، فقُتل عثمان رضي الله عنه في الثَّالثة.
- فتوحات ابن عامرٍ سنة اثنتين وثلاثين :
وفيها فتح ابن عامر مرو الرُّوذ ، والطَّالقان ، والفارياب ، والجُوزجان ، وطُخارستان ، فقد بعث ابن عامرٍ الأحنف بن قيس إلى مرو روذ ، فحصر أهلها ، فخرجوا إليهم ، فقاتلوهم ، فهزمهم المسلمون حتَّى اضطروهم إلى حصنهم ، فأشرفوا عليه ، وقالوا : يا معشر العرب ! ما كنتم عندنا كما نرى ، ولو علمنا أنَّكم كما نرى لكانت لنا ، ولكم حالٌ غير هذه ، فأمهلونا ننظر يومنا ، وارجعوا إلى عسكركم ، فرجع الأحنف ، فلمَّا أصبح غاداهم ، وقد أعدُّوا له الحرب ، فخرج رجلٌ من العجم معه كتاب من المدينة ، فقال : إنِّي رسول فأمِّنوني ! فأمَّنوه ، فإذا رسول من مرزبان مرو ابن أخيه ، وترجمانه ، وإذا كتاب المرزبان إلى الأحنف ، فقرأ الكتاب ، قال : فإذا هو إلى أمير الجيش ، إنَّا نحمد الله الّذي بيده الدُّول ، يغيِّر ما شاء من الملك ، ويرفع من شاء بعد الذِّلَّة ، ويضع من شاء بعد الرِّفعة : إنَّه دعاني إلى مصالحتك ، وموادعتك ما كان من إسلام جدِّي ، وما كان رأى من صاحبكم من الكرامة ، والمنزلة ، فمرحباً بكم، وأبشروا ، وأنا أدعوكم إلى الصُّلح فيما بينكم ، وبيننا ، على أن أؤدِّي إليكم خراجاً ستين ألف درهم ، وأن تُقِرُّوا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جدَّ أبي حيث قتل الحية التي أكلت النَّاس ، وقطعت السَّبيل من الأرضين والقرى بما فيها من الرِّجال ، ولا تأخذوا من أحدٍ من أهل بيتي شيئاً من الخراج ، ولا تخرج المرزبة من أهل بيتي إلى غيركم ، فإن جعلتَ ذلك لي ؛ خرجتُ إليك ، وقد بعثت إليك ابن أخي ماهَك ؛ ليستوثق منك . فكتب إليه الأحنف :
بسم الله الرحمن الرَّحيم ، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرو روذ ومن معه من الأساورة ، والأعاجم . سلامٌ على من اتَّبع الهدى ، وآمن ، واتَّقى . أما بعد : فإنَّ ابن أخيك ماهك قدم عليَّ ، فنصح لك جهده ، وأبلغ عنك ، وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين ، وأنا وهم فيما عليك سواءٌ ، وقد أجبناك إلى ما سألت، وعرضت على أن تؤدِّي عن أكرتك، وفلاحيك ، والأرضين الّتي ذكرت : أن كسرى الظالم لنفسه أقطع جدَّ أبيك لما كان من قتله الحيَّة ؛ الّتي أفسدت الأرض ، وقطعت السبيل ، والأرض لله ولرسوله يورثها من يشاء من عباده ، وإنَّ عليك نصرة المسلمين ، وقتال عدوِّهم بمن معك من الأساورة، إن أحبَّ المسلمون ذلك ، وأرادوه، وإنَّ لك على ذلك نصرة المسلمين على من يقاتل مَنْ وراءك من أهل ملَّتك ، جارٍ لك بذلك منِّي كتابٌ يكون لك بعدي ، ولا خراج عليك ، ولا على أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام ، وإن أنت أسلمت ، واتَّبعت الرَّسول ؛ كان لك من المسلمين العطاء ، والمنزلة ، والرِّزق ، وأنت أخوهم ، ولك بذلك ذمَّتي ، وذمَّة أبي ، وذمم المسلمين وذمم آبائهم .
شهد على ما في هذا الكتاب جَزْءُ بن معاوية ـ أو معاوية بن جَزْءٍ السَّعديُّ ـ وحمزة بن الهرماس ، وحُميد بن الخيار المازنيَّان ، وعياض بن ورقاء الأسيديُّ . وكتبه كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر المحرّم ، وختم أمير الجيش الأحنف بن قيس ، ونقش خاتم الأحنف : نعبد الله.
- القتال بين جيش الأحنف وأهل طخارستان والجوزجان، والطَّالقان، والفاريان:
صالح ابن عامر أهل مرو ، وبعث الأحنف في أربعة آلاف إلى طخارستان ، فأقبل ؛ حتَّى نزل موضع قصر الأحنف من مرو روذ ، وجمع له أهل طُخارستان ، وأهل الجوزجان ، والطالقان ، والفاريان ، فكانوا ثلاثة زحوفٍ ثلاثين ألفاً ، وأتى الأحنف خبرهم ، وما جمعوا له ، فاستشار النَّاس ، فاختلفوا ، فبين قائلٍ : نرجع إلى مرو ، وقائل : نرجع إلى أبْرشهر ، وقائل : نقيم نستمدُّ ، وقائل : نلقاهم فنناجزهم ؛ فلمَّا أمسى الأحنف ؛ خرج يمشي في العسكر ، ويستمع حديث النَّاس ، فمرَّ بأهل خباءٍ، ورجلٍ يوقد تحت خزيرةٍ، أو يعجن ، وهم يتحدَّثون ، ويذكرون العدوَّ ، فقال بعضهم : الرأي للأمير أن يسير إذا أصبح ، حتَّى يلقى القوم حيث لقيهم ـ فإنَّه أرعب لهم ـ فيناجزهم . فقال صاحب الخزيرة ، أو العجين : إن فعل ذلك ؛ فقد أخطأ ، وأخطأتم ؛ أتأمرونه أن يلقي حدَّ العدو مصحِّراً في بلادهم ، فيلقى جمعاً كثيراً بعددٍ قليل ، فإن جالوا جولةً اصطلمونا؛ ولكنَّ الرأي له أن ينزل بين المرغاب ، والجبل ، فيجعل المرغاب عن يمينه ، والجبل عن يساره ، فلا يلقاه من عدوِّه وإن كثروا إلا عدد أصحابه .
فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال ، فضرب عسكره ، وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا معه ، فقال : إني أكره أن أستنصر بالمشركين ، فأقيموا على ما أعطيناكم ، وجعلنا بيننا ، وبينكم ، فإن ظفرنا ؛ فنحن على ما جعلنا لكم ، وإن ظفروا بنا ، وقاتلوكم ، فقاتلوا عن أنفسكم ؛ فوافق المسلمين صلاة العصر ، فعاجلهم المشركون فناهضوهم ، فقاتلوهم وصبر الفريقان حتَّى أمسوا ، والأحنف يتمثَّل بشعر ابن جُؤيَّة الأعرجي :
أَحَقُّ مَنْ لَمْ يَكْرَهِ المَنِيَّة حَزَوَّرٌ لَيْسَ لَهُ ذُرِّيَّة
وجاء في رواية :... فقاتلهم حتَّى ذهب عامَّة اللَّيل ، ثمَّ هزمهم الله ، فقاتلهم المسلمون حتَّى انتهوا إلى رَسْكن ـ وهي على اثني عشر فرسخاً من قصر الأحنف ـ وكان مرزبان مرو روذ قد تربَّص بحمل ما كانوا صالحوه عليه ، لينظر ما يكون من أمرهم ، فلمَّا ظفِر الأحنف ؛ سرَّح رجلين إلى المرزبان ، وأمرهما ألا يكلماه حتَّى يقبضاه ، ففعلا ؛ فعلم أنَّهم لم يصنعوا ذاك به إلا وقد ظفروا ، فحمل ما كان عليه، وبعث الأحنف الأقرع بن حابس في جريدة خيلٍ، إلى الجوزجان حيث بقيَّةٌ كانت بقيت من الزُّحوف الّذين هزمهم الأحنف ، فقاتلهم ، فجال المسلمون جولةً ، فقُتل فرسان من فرسانهم ، ثمَّ أظفر الله المسلمين بهم ، فهزموهم ، وقتلوهم، فقال كُثيِّر النَّهشليُّ :
سَقَى مُزْنُ السَّحَاب إذَا استَهلَّت مَصَارِعَ فِتْيَةٍ بِالجُوزَجَانِ
إلى القَصْرَيْنِ مِنْ رُسْتَاقِ خُوْطٍ أَقَادَهُمُ هُنَاكَ الأَقْرَعَانِ
- صلح الأحنف مع أهل بلخ 32 هـ :
سار الأحنف من مرو الرُّوذ إلى بلخ ، فحاصرهم ، فصالحه أهلها على أربعمئة ألفٍ ، فرضي منهم بذلك ، واستعمل ابن عمِّه ، وهو أسيد بن المتشمِّس ؛ ليأخذ منهم ما صالحوه عليه ، ومضى إلى خوارِزْم ، فأقام حتَّى هجم عليه الشِّتاء ، فقال لأصحابه: ما تشاؤون ؟ فقالوا : قد قال عمرو بن معد يكرب :
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْراً فَدَعْهُ وَجَاوِزْهُ إلى مَاْ تَسْتَطِيْعُ فأمر الأحنف بالرَّحيل ، ثمَّ انصرف إلى بلخ ، وقد قبض ابن عمِّه ما صالحهم عليه ، وكان وافق وهو يجيبهم المهرجان ، فأهدوا إليه هدايا من آنية الذَّهب ، والفضَّة ، ودنانير ، ودراهم ، ومتاع ، وثياب ، فقال ابن عمِّ الأحنف : هذا ما صالحناكم عليه ؟ قالوا : لا ، ولكن هذا شيءٌ نصنعه في هذا اليوم بمن وَلِينا ، نستعطفه به ، قال : وما هذا اليوم ؟ قالوا : المهرجان، قال : ما أدري ما هذا ؟ وإنِّي لأكره أن أردَّه ، ولعلَّه من حقِّي ، ولكن أقبضه ، وأعزله حتَّى أنظر فيه ، فقبضه ، وقدم الأحنف ، فأخبره ، فسألهم عنه ، فقالوا له مثل ما قالوا لابن عمِّه ، فقال : أتي به الأمير ، فحمله إلى ابن عامر ، فأخبره عنه ، فقال : اقبضه يا أبا بحر ! فهو لك . قال : لا حاجة لي فيه ، فقال ابن عامر : ضمَّه إليك يا مسمار ! فضمَّه القرشيُّ ، وكان مضمّاً.
- لأجعلنَّ شكري لله على ذلك أن أخرج مُحْرِماً معتمراً من موقفي هذا:
لَّما رجع الأحنف إلى ابن عامرٍ ؛ قال النَّاس لابن عامر : ما فُتح على أحدٍ ما قد فُتح عليك : فارس ، وكرمان ، وسجستان ، وعامة خراسان ! قال : لا جرم ، لأجعلنَّ شكري لله على ذلك أن أخرج مُحرماً معتمراً من موقفي هذا ! فأحرم بعمرةٍ من نيسابور ، فلمَّا قدم على عثمان لامه على إحرامه من خراسان ، وقال : ليتك تضبط ذلك من الوقت الّذي يحرم منه النَّاس!
- هزيمة ( قارِنْ ) في خراسان :
لمَّا رجع ابن عامر من الغزو ؛ استخلف قيس بن الهيثم على خراسان ، فأقبل قارن في جمع من التُّرك أربعين ألفاً ، فالتقاه عبد الله بن خازم السُّلمي في أربعة آلاف، وجعل له مقدِّمةً ستَّمئة رجلٍ ، وأمر كُلاًّ منهم أن يجعل رأس رُمحه ناراً ، وأقبلوا إليهم في وسط اللَّيل فبيَّتوهم ، فثاروا إليهم ، فناوشتهم المقدِّمة ، فاشتغلوا بهم ، وأقبل عبد الله بن خازم بمن معه من المسلمين ، فأحاطوا بهم ، فولَّى المشركون مدبرين ، واتَّبعهم المسلمون يقتلون من شاؤوا ، وقُتلَ قارن فيمن قُتل ، وغنموا سبياً كثيراً ، وأموالاً جزيلةً ، ثمَّ بعث عبد الله بن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضي عنه ، وأقرَّه على خراسان ، وذلك : أنَّه كان قد احتال على الوالي السَّابق قيس بن الهيثم السُّلميِّ حتَّى أخرجه من خراسان ، ثمَّ تولَّى حرب قارن ، فلمَّا هزمه، وغنم عسكره ؛ رضي عليه ابن عامر ، وأقرَّه على ولاية خراسان.
وهكذا تصدَّى الخليفة الرَّاشد عثمان لحركات التمرُّد في المشرق وواصل فتوحاته، ولم تفتَّ تلك الثَّورات في عضد المسلمين ، ولم تنل من عزم الخليفة الّذي كان كفؤاً لها ، حيث واجهها بالعزم ، والرَّأي ، والسُّرعة في تصريف الأمور ، وتسيير النَّجدات ، وإسناد كلِّ عملٍ إلى من يحسنه ، كما يظهر من تتبُّع الأحداث في تاريخ الطَّبري ، وابن كثير ، والكلاعي ، بما لا يدع شكّاً في أنَّ اختيار عثمان للقادة الّذين قاموا بهذه الانتصارات ، وتطويق هذه القلاقل كان اختياراً موفَّقاً ، مع العلم بأن أعباء الجهاد كانت أشقَّ ، وأكبر ، وأحوج إلى التَّوجيه النَّاجز ، لامتداد خطوط القتال، وتعدُّد الفتن ، وتباعد المسافات بين البلدان ، إنَّ علاج تلك المعضلات الّتي فاجأت عثمان رضي الله عنه بعد ولايته ، وتصدَّى لها بالعزم ، والسَّداد ، والسُّرعة، والحيطة ، والأناة لَدليلٌ على قوَّة شخصيته ، ونفاذ بصيرته ، وكان له بعد ذلك أكبر الفضل بعد الله في تثبيت مهابة الدَّولة بعدما أصابها من الوهن ، والتَّخلخل عند مقتل عمر رضي الله عنه ، وكانت ثمرات تلك الوقفات الرَّائعة :
أ ـ إخضاع المتمرِّدين ، وإعادة سلطة المسلمين عليهم .
ب ـ ازدياد الفتوحات الإسلاميَّة إلى ما وراء البلاد المتمرِّدة ؛ منعاً لارتداد الهاربين إليها ، وانبعاث الفتن ، والدَّسائس من قِبَلها .
ج ـ اتِّخاذ المسلمين قواعد ثابتةً يرابط بها المسلمون لحماية البلاد ؛ الّتي خضعت للمسلمين .
فهل كانت تلك الفتوحات العظيمة ، والسِّياسة الحكيمة ، والضَّبط للأقاليم يمكن أن تتحقَّق لو كان عثمان رضي الله عنه ضعيفاً ، غير قادر على اتِّخاذ القرار ؟ ! كما يزعم مَنْ وقع ، وتورَّط في روايات الإمامية ، والتَّشيُّع ، والاستشراق ، ومن سار على نهجهم السَّقيم .
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf