الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

اجتهادات عثمان بن عفان في العبادات والمعاملات (2)

الحلقة الثالثة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد محمد الصلابي

ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م

12ـ أكل لحم الصَّيد :
لا يجوز للمحرم أن يأكل من الصَّيد الّذي صاده هو ، أو صاده له غيره من الحلال، فعن عبد الرحمن بن حاطب : أنَّه اعتمر مع عثمان بن عفَّان في ركبٍ ، فلمَّا كان بالرَّوحاء ؛ قدم لهم لحم طير . يعاقيب ـ فقال عثمان : كلوا ، وكره أن يأكل منه ، فقال عمرو بن العاص : أنأكل ممَّا لست منه أكلاً ؟ ! قال عثمان : لست في ذلك مثلكم، إنَّما صيدت لي ، وأميتت باسمي ، أو قال : من أجلي. وقد تكرَّر ذلك من عثمان مرَّة أخرى ، كما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة ، قال : رأيت عثمان بن عفَّان بالعرج ، وهو محرمٌ في يومٍ صائفٍ قد غطَّى وجهه بقطيفة أرجوانٍ ، ثم أُتِيَ بلحم صيدٍ ، فقال لأصحابه : كلوا ، فقالوا : ألا تأكل أنت ؟ قال : إنِّي لست كهيئتكم ؛ إنَّما صيد من أجلي.
13ـ كراهية الجمع بين القرابة في الزَّواج :
أخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن أبي بكرٍ، وعمر ، وعثمان : أنَّهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضَّغائن.
14ـ في الرَّضاعة :
روى عبد الرزاق عن ابن جريجٍ عن ابن شهابٍ ، قال : فرَّق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أرضعتهم.
15ـ في الخُلع :
عن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ ، قالت : كان بيني وبين ابن عمِّي كلامٌ ، وكان زوجها ، قالت : فقلت له : لك كل شيءٍ وفارقني . قال : قد فعلت . فأخذ والله كلَّ شيءٍ حتَّى فراشي ، فجئت عثمان وهو محصورٌ ، فقال : الشَّرط أملك ، خذ كلَّ شيءٍ حتى عقاص رأسها، وفي روايةٍ : اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي ، فأجاز ذلك عثمان.
16ـ يجب الإحداد على المعتدَّة لوفاة زوجها :
ومن الإحداد ترك الزِّينة ، وترك المبيت في غير البيت الّذي توفي فيه زوجها إلا لضرورةٍ ، ويجوز لها أن تخرج نهاراً لقضاء حاجتها ، ولكنَّها لا تبيت في المساء إلا في بيتها، فعن فُريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيدٍ الخدري أنَّها جاءت إلى رسول الله (ﷺ) ، فأخبرته : أنَّ زوجها خرج في طلب أعبُدٍ له ، فقتلوه بطرف القُدوم، فسألت رسول الله (ﷺ) أن أرجع إلى أهلي ، فإنَّ زوجي لم يتركني في مسكنٍ يملكه ، ولا نفقةٍ ، قالت : فقال رسول الله (ﷺ) : « نعم ! » قالت : فانصرفت ، حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله ، أو أمر بي ، فنوديتُ ، فقال : « كيف قلت » ؟ فرددت عليه القصَّة الّتي ذكرت له من شأن زوجي ، فقال : امكثي في بيتك حتَّى يبلغ الكتابُ أجله ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر ، وعشراً، قالت : فلمَّا كان عثمان بن عفَّان أرسل إليَّ ، فسألني عن ذلك ؟ فأخبرته ، فاتَّبعه ، وقضى به، ولذلك كان عثمان يتشدَّد في أمر مبيت المرأة المعتدَّة خارج بيتها ، فقد حدث : أنَّ امرأةً توفي عنها زوجها زارت أهلها في عدَّتها ، فضربها الطَّلق ، فأتوا عثمان ، فسألوه ، فقال : احملوها إلى بيتها ، وهي تطلق.
17ـ لا تنكحها إلا نكاح رغبةٍ :
جاء رجلٌ إلى عثمان في خلافته وقد ركب ، فسأله ، فقال : إنَّ لي إليك حاجةً يا أمير المؤمنين ! فقال له عثمان : إنِّي الآن مستعجلٌ ، فإن أردت أن تركب خلفي حتَّى تقضي حاجتك ، فركب خلفه ، فقال : إنَّ لي جاراً طلَّق امرأته في غضبه ، ولقي شدَّةً، فأردت أن أحتسب بنفسي ، ومالي ، فأتزوجها ثمَّ أبتني بها ، ثمَّ أطلِّقها ، فترجع إلى زوجها الأوَّل ، فقال له عثمان : لا تنكحها إلا نكاح رغبةٍ.
18ـ طلاق السَّكران :
كان عثمان بن عفَّان رضي الله عنه يرى : أنَّ كلَّ ما يتكلم به السَّكران فهو هدرٌ ، فلا تصحُّ عقوده ، ولا فسوخه ، ولا إقراره ، ولا يقع طلاقه ؛ لأنَّه لا يعي ما يقول ، ولا يريد ما يقول ، ولا إلزام لغير إرادة، قال عثمان رضي الله عنه : ليس لسكران ، ولا مجنونٍ طلاقٌ.
19ـ هبة الوالد لولده :
إذا نحل الأب ولده نحلةً ؛ كان عليه أن يُشهد على هذه الهبة ، فإذا أشهد عليها ؛ اعتبر هذا الإشهاد قبضاً لها، وصحَّ أن تبقى بعد ذلك في يد الأب ، فقد ورد عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه قوله : من نحل ولداً له صغيراً لم يبلغ أن يجوز نحلةً ، فأعلن ذلك ، وأشهد عليه ؛ فهي جائزةٌ وإن وليَّها أبوه. وأمَّا إذا لم يشهد ، ولم يسلِّمها للولد؛ فهي هبة غير لازمةٍ ، قال عثمان رضي الله عنه : ما بال أقوام يعطي أحدهم ولده العطيَّة ، فإن مات ولده ، قال : مالي ، وفي يدي ، وإن مات هو قال : وهبته ، لا يثبت من الهبة إلا ما حازه الولد من مال أبيه.
20ـ الحجر على السَّفيه :
كان عثمان بن عفَّان رضي الله عنه يرى الحجر على السَّفيه ، فقد حدث أن اشترى عبدُ الله بن جعفر أرضاً بمبلغ ستِّين ألف دينارٍ، فبلغ ذلك عليَّ بن أبي طالبٍ، فقرَّر عليٌّ: أنَّ الأرض لا تساوي هذا المبلغ من المال ، وأنَّ عبد الله بن جعفر قد غُبن فيها غبناً فاحشاً ، بل إنَّه قد تصرَّف تصرُّفاً أخرق ، وأعرب : أنَّه سيتوجه نحو أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان ليطلب منه الحجر على عبد الله بن جعفر لسفهه ، وإساءته التَّصرُّف في ماله ، فأسرع عبد الله بن جعفر إلى الزُّبير ـ وكان تاجراً حاذقاً ـ وقال له : إنِّي ابتعت بيعاً بكذا ، وكذا ، وإنَّ عليّاً يريد أن يأتي عثمان ، فيسأله أن يحجر عليَّ ، فقال له الزبير : فأنا شريكُك في البيع ، وأتى عليٌّ عثمان بن عفَّان ، فقال له : إنَّ ابن أخي اشترى سبخةً بستين ألفاً ما يسرُّني: أنَّها لي بنعليَّ، فاحجر عليه! وقال الزُّبير لعثمان : أنا شريكه في هذا البيع ، فقال عثمان ابن عفَّان لعليِّ بن أبي طالب : كيف أحجر على رجلٍ في بيعٍ شريكه فيه الزُّبير؟ يعني : أننا لا نستطيع أن نحكم على جعفر بالسَّفه لتصرفٍ تصرَّفه شريكه فيه الزُّبير ؛ لأنَّ الزُّبير لا يمكن أن يشارك في تصرُّفٍ تجاريٍّ أخرق لحذقه بالتِّجارة.
21ـ الحجر على المفلس :
كان عثمان بن عفَّان رضي الله عنه يرى الحجر على المفلس ، وإذا حُجر على مفلس اقتسم الدَّائنون ماله بنسبة ديونهم ، لكن إن وجد بعض دائنيه سلعته الّتي باعه إيَّاها بعينها عنده؛ جاز له أن يفسخ البيع، ويأخذ سلعته، فهو أحقُّ بها من غيره.
22ـ تحريم الاحتكار :
كان عثمان بن عفَّان رضي الله عنه يمنع الاحتكار ، وينهى عنه، ويظهر : أنَّ عثمان بن عفَّان كان كسَلفهِ عمر بن الخطَّاب لا يفرِّق في تحريم الاحتكار بين الطَّعام، وغيره ، لأنَّ نهيه عن الاحتكار كان عامّاً ، خاصّةً : أنَّ ما ورد عن رسول الله في تحريم الاحتكار منه ما هو مطلقٌ في كلِّ شيءٍ ، ومنه ما هو مقيَّدٌ ـ عند الجمهور ـ لعدم التَّعارض بينهما ؛ بل يبقى المطلق على إطلاقه.
23ـ ضوالُّ الإبل :
روى مالك : أنَّه سمع ابن شهابٍ يقول : كانت ضوالُّ الإبل في زمن عمر بن الخطَّاب إبلاً مرسلةً تناتج لا يمسُّها أحدٌ ، حتَّى إذا كان زمان عثمان بن عفَّان أمر بتعريفها ، ثمَّ تباع ، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، وقد كان فعل عمر تبعاً لحديث الصَّحيحين عن زيد بن خالد الجهنيِّ رضي الله عنه قال : جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيّ (ﷺ)، فسأله عمَّا يلتقطه ، فقال : « اعرف عفاصها ، ووكاءها، ثمَّ عرِّفها سنةً ، فإن جاء صاحبها ، وإلا ؛ فشأنك بها » قال : فضالَّة الغنم يا رسول الله ؟ ! قال : « هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب » قال : فضالَّة الإبل ؟ قال : « مالك ولها ، معها سقاؤها ، وحذاؤها ترد الماء ، وتأكل الشَّجر حتَّى يلقاها ربها » .
وقد رأى الأستاذ الحجوي : أنَّ هذا الاجتهاد من عثمان بن عفَّان رضي الله عنه مبنيٌّ على المصلحة المرسلة ؛ لأنَّه رأى النَّاس مدُّوا أيديهم إلى ضوالِّ الإبل ، فجعل راعياً يجمعها ، ثمَّ تباع قياماً بالمصلحة العامَّة. غير أنَّ الأستاذ عبد السَّلام السُّليماني ردَّ على هذا القول بقوله : غير أنَّه من الصَّعب التسليم بمقالة الأستاذ الحجوي على إطلاقها ؛ لأنَّ المصلحة المرسلة هي الّتي لم ينصَّ الشَّارع لا على اعتبارها ، ولا على إلغائها ، في حين : أنَّ النَّبيّ (ﷺ) قد نصَّ على حكم ضوالِّ الإبل في الحديث المذكور أعلاه ، فهي إذاً مصلحةٌ معتبرةٌ نصَّ عليها النَّبيُّ بنفسه ، فلا يصحُّ أن يقال : إنَّ ما فعله عثمان من بيع ضوالِّ الإبل يعدُّ مصلحةً مرسلةً ، فالمصلحة المرسلة لا تكون في مقابلة النَّص .
والّذي يظهر لنا : أنَّ اجتهاد عثمان في هذه القضيَّة بُني على المصلحة العامَّة ، فعلاً ، لكنَّها ليست مصلحةً مرسلةً ، وأنَّ هذه القضيَّة من القضايا القابلة للاجتهاد ، والّتي يمكن أن يتغيَّر حكمها بتغيُّر الأزمنة ، والأحوال ، وبالنَّظر إلى ما يحقِّق مصلحة أصحاب ضوالِّ الإبل ؛ لأنَّ علَّة الحكم فيها ـ على ما يظهر ـ هي المحافظة على هذه الإبل إمَّا بأعيانها ، أو في شكل ثمنها ، وكلا الأمرين مصلحةٌ ، ولا شكَّ : أنَّ سيدنا عثمان بصنيعه هذا كان هدفه تحقيق المصلحة العامَّة ؛ لأنَّه رأى : أنَّ ترك الإبل على حالها ، كما كان الأمر في عهد النَّبيّ (ﷺ) وإلى زمن عمر ، يعرِّضها للضَّياع بعد أن تغيَّرت أخلاق الناس ، وأصبحوا يمدُّون أيديهم لضوالِّ الإبل ، فرأى أن يقطع الطَّريق عليهم بما فعل ، وهو اجتهادٌ سليمٌ ، وحكمٌ ( سديدٌ ) بلا ريب.
24ـ توريث المرأة المطلقة في مرض الموت :
طلَّق عبد الرحمن بن عوف زوجته وهو مريضٌ ، فورَّثها عثمان منه بعد انقضاء مدَّة عدَّتها ، وقد روي : أنَّ شريحاً كتب إلى عمر بن الخطَّاب في رجلٍ طلَّق امرأته ثلاثاً ، وهو مريضٌ ، فأجاب عمر : أنْ ورِّثها ما دامت في عدَّتها ، فإن انقضت عدَّتها فلا ميراث لها ، فبعد أن اتَّفقا على أنَّ طلاق المريض مرض الموت لا يزيل الزَّوجية كسببٍ موجب للإرث ، جعل عمر حدّاً لذلك وهو العدَّة ، بينما لم يجعل عثمان حدّاً لذلك ، وقال : ترث مطلِّقها سواءٌ مات في العدَّة أو بعدها ، وليس في المسألة نصٌّ يرجع إليه ، والباعث على الحكم هو معاملة الزَّوج بنقيض قصده؛ لأنَّ الزوج بطلاقه في مرض الموت يعتبر فارّاً من توريث زوجته.
25ـ توريث المطلَّقة ما لم تنقضِ عدَّتها :
قال عثمان بن عفَّان : إذا مات أحد الزَّوجين قبل الحيضة الثَّالثة للمطلَّقة ؛ ورث الحيُّ منهما الميت، ولا يمنع التَّوارث بينهما طول فترة العدَّة كما إذا حاضت المعتدة حيضةً ، أو حيضتين ثمَّ ارتفعت حيضتها ، فقد طلَّق حبَّان بن منقذ امرأته وهو صحيحٌ، وهي ترضع ابنته ، فمكثت سبعة عشر شهراً لا تحيض ، يمنعها الرَّضاع أن تحيض ، ثمَّ مرض حبَّان بعد أن طلقها سبعة أشهر ، أو ثمانية ، فقيل له : إن امرأتك ترث ، فقال : احملوني إلى عثمان ، فحملوه إليه ، فذكر له شأن امرأته ، وعنده عليُّ بن أبي طالبٍ ، وزيد بن ثابت ، فقال لهما عثمان : ما تريان ؟ فقالا : نرى أنَّها ترثه إن مات ، ويرثها إن ماتت ، فإنَّها ليست من القواعد من النِّساء اللائي يئسن من المحيض ، وليست من الأبكار اللاتي لم يحضن ، ثمَّ هي على عدَّة حيضها ما كان من قليل أو كثيرٍ ، فرجع حبَّان إلى أهله ، فأخذ ابنته ، فلمَّا فقدت الرَّضاع حاضت حيضةً، ثمَّ حاضت أخرى ، ثمَّ توفي حبَّان قبل أن تحيض الثَّالثة ، فاعتدَّت عدَّة الوفاة ، وورثت زوجها حبَّان بن منقذ.

26ـ توريث الحميل :
إذا سبيت امرأةٌ من الكفَّار ومعها طفلٌ تحمله مدَّعيةً : أنَّه ولدها ـ وهو ما يسمَّى بـ( الحميل ) ـ فإنَّا لا تصدَّق بدعواها ، ولا يجري التَّوارث بينها وبينه إلا إذا أقامت البيِّنة على أنَّه ابنها ، وقد استشار عثمان في ذلك أصحاب رسول الله (ﷺ) ، فأبدى كلٌّ منهم رأيه ، وقال عثمان انئذٍ : ما نرى أن نورِّث مال الله إلا بالبيِّنات . وقال : لا يُورَّث الحَميل إلا ببينةٍ .
هذه بعض اجتهادات ذي النُّورين أَثْرَت في المؤسَّسة القضائيَّة في مجال القصاص والحدود ، والجنايات ، والتَّعزير ، كما أنَّه ساهم في تطوير المدارس الفقهيَّة الإسلاميَّة باجتهاداته الدَّالة على سعة اطِّلاعه ، وغزارة علمه ، وعمق فهمه ، واستيعابه لمقاصد الشَّريعة الغرَّاء ، فهو خليفةٌ راشدٌ ، أعماله تسترشد بها الأمَّة في مسيرتها الطَّويلة لنصرة دين الله تعالى ، وإعزازه .

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022