فتوحات الجبهة المصريَّة في عهد عثمان بن عفان ٢
الحلقة التاسعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر 2019م
رابعاً : بطولة عبد الله بن الزُّبير في فتح إفريقية :
انقطع خبر المسلمين في إفريقية عن عثمان رضي الله عنه فسيَّر إليهم عبد الله بن الزُّبير في جماعةٍ ليأتيه بأخبارهم ، فسار مُجِدّاً ، ووصل إليهم ، وأقام معهم ، ولمَّا وصل ؛ كثُر الصِّياح ، والتَّكبير في المسلمين ، فسأل جرجير عن الخبر ، فقيل : قد أتاهم عسكرٌ ، ففتَّ ذلك في عضده ، ورأى عبد الله بن الزُّبير قتال المسلمين كلَّ يوم من بكرةٍ إلى الظُّهر فإذا أُذِّن بالظُّهر عاد كلُّ فريق إلى خيامه ، وشهد القتال من الغد فلم يَرَ ابن سعد معهم ، فسأل عنه فقيل : إنَّه سمع منادي جرجير يقول : من قتل عبد الله بن سعدٍ ، فله مئة ألف دينار ، وأزوِّجه ابنتي ! وهو يخاف ، فحضر عنده، وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير؛ نفَّلته مئة ألفٍ، وزوَّجته ابنته، واستعملته على بلاده! ففعل ذلك، فصار جرجير يخاف أشدَّ من عبد الله.
ثمَّ إن عبد الله بن الزُّبير قال لعبد الله بن سعدٍ : إنَّ أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متَّصلةٍ ، وبلادٍ هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين ، وبلادهم ، وقد رأيت أن نترك غداً جماعةً صالحةً من أبطال المسلمين في خيامهم متأهِّبين ، ونقاتل نحن الرُّوم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملُّوا ، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ؛ ركب من كان في الخيام من المسلمين ، ولم يشهدوا القتال ، وهم مستريحون ، ونقصدهم على غرَّةٍ فلعلَّ الله ينصرنا عليهم ! فأحضر جماعةً من أعيان الصَّحابة ، واستشارهم ، فوافقوه على ذلك ، فلمَّا كان الغد ؛ فعل عبد الله ما اتَّفقوا عليه ، وأقام جميع شُجعان المسلمين في خيامهم ، وخيولهم عندهم مُسَرَّجةٌ ، مضى الباقون ، فقاتلوا الرُّوم إلى الظُّهر قتالاً شديداً ، فلمَّا أذَّن بالظُّهر همَّ الرُّوم بالانصراف على العادة ، فلم يمكِّنهم ابن الزُّبير ، وألح عليهم بالقتال ، حتَّى أتعبهم ، ثمَّ عاد عنهم ، والمسلمون ، فكلُّ الطائفتين ألقى سلاحه ، ووقع تعباً ، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزُّبير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الرُّوم فلم يشعروا بهم حتَّى خالطهم ، وحملوا حملة رجلٍ واحدٍ ، وكبَّروا ، فلم يتمكَّن الرُّوم من لبس سلاحهم حتَّى غشيهم المسلمون، وقُتل جرجير قتله ابن الزُّبير، وانهزم الرُّوم ، وقُتل منهم مقتلةٌ عظيمةٌ ، وأُخذت ابنة الملك جرجير سبيةً، ونزل عبد الله بن سعدٍ المدينة ، وحاصرها حتَّى فتحها ، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها ، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينارٍ ، وسهم الرَّاجل ألف دينارٍ.
ولمَّا فتح عبد الله مدينة سبيطلة ، بثَّ جيوشه في البلاد ، فبلغت قفصة ، فسبوا ، وغنموا وسيَّر عسكراً إلى حصن الأجم ، وقد احتمى به أهل تلك البلاد ، فحصره ، وفتحه بالأمان ، فصالحه أهل إفريقية ـ كما مرَّ معنا ـ ونفَّل عبد الله بن الزُّبير ابنة الملك ، وأرسله ابن سعدٍ إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية.
هذا ولقد كان لعبد الله بن الزُّبير رضي الله عنهما موقفٌ عظيم في البطولة ، والشَّجاعة ، وقد ذكره الحافظ ابن كثير ، حيث قال : لمَّا قصد المسلمون وهم عشرون ألفاً إفريقية ، وعليهم عبد الله بن سعدٍ بن أبي سرح، وفي جيشه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزُّبير؛ صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومئة ألفٍ، وقيل : في مئتي ألفٍ ، فلمَّا تراءى الجمعان ، أمر جيشه ، فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف المسلمون في موقفٍ لم يُرَ أشنع منه ، ولا أخوف عليهم منه .
قال عبد الله بن الزُّبير : نظرت إلى الملك جرجير من وراء الصُّفوف وهو راكبٌ على برذون ، وجاريتان تظلانه بريش الطَّواويس ، فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرحٍ ، فسألته أن يبعث معي من يحمي ظهري ، وأقصد الملك ، فجهَّز معي جماعةً من الشجعان ، فأمر بهم فَحَموا ظهري ، وذهبت حتَّى خرقت الصُّفوف إليه ، وهم يظنُّون أنِّي في رسالة إلى الملك ، فلمَّا اقتربت منه أحسَّ منِّي الشَّرَّ ، ففرَّ على برذونه فلحقته ، فصفعته برمحي ، وذففت ـ يعني : أجهزت ـ عليه بسيفي ، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرُّمح ، وكبَّرت ، فلمَّا رأى ذلك البربر ، فَرِقُوا ، وفرُّوا كَفِرار القطا ، واتَّبعهم المسلمون يقتلون ، ويأسرون ، فغنموا غنائم جمَّةً، وأموالاً عظيمةً، وسبياً عظيماً، وذلك ببلد يقال له: (سبيطلة) على يومين من القيروان.
قال ابن كثير : فكان هذا أوَّل موقف اشتهر فيه أمرُ عبد الله بن الزُّبير ، رضي الله عنه وعن أبيه ، وأصحابهما أجمعين.
إنَّ ما قام به ابن الزُّبير نوعٌ من الطُّموح نحو المعالي المحفوفة بالأهوال ، بدون تدرُّج سابق ، لقد كان عمره انذاك سبعاً وعشرين سنةً ، ولم يُذكر له قبل ذلك مواقف بطوليَّة من نوع المغامرات ، فكيف أقدم على هذه المغامرة الهائلة الّتي يغلب على الظَّنِّ ، أو يكاد يقرب من اليقين في عرف النَّاس العاديين أنَّ فيها الهلاك؟ !
إنَّ الاحتمالات الّتي يمكن أن ترد في مثل هذه المغامرة أن يدور في خَلَد المغامر أمران :
1ـ أن ينجح في هجومه فيقضي على ملك البربر ، ويتفرَّق جنده ، كما هي عادة الكفار ، وفي ذلك نصرٌ مؤزَّر للمسلمين ، وكفايةٌ لهم عن خوض معركةٍ شرسةٍ ، قد تخوف منها المسلمون .
2ـ أن يتقبَّله الله شهيداً ، وفي ذلك الوصول إلى أسمى الأماني ، وأبلغ الدَّرجات الّتي يطمح إليها الصَّالحون ويتنافسون على بلوغها ، كما أنَّ في ذلك من إرهاب الكفَّار، وإثارة الرُّعب فيهم الشَّيءَ الكثير ، حيث سيتوقَّع الكفار : أنَّ المسلمين الّذين سيقاتلونهم كلُّهم من هذا النَّوع الجريء الفتَّاك ؛ إذ إنَّه يكفي المغامر شجاعةً أن يقذف بنفسه في أتون المعركة الملتهب ، إنَّه لا يُقدم على هذه الوثبة العالية إلا العظماء الّذين يتصوَّرون الجنَّة من وراء تلك الوثبة ويشتاقون للعيش فيها ، ولقد كان ابن الزُّبير عندما وثب تلك الوثبة متجرِّداً من علائق الدُّنيا ، وأثقالها المثبِّطة ، طامحاً إلى ما أعدَّه الله تعالى للمجاهدين في سبيله على قدر طاقتهم سواءٌ انتصروا على أعدائهم ، أو نالوا الشهادة.
وقد جاء في هذا الخبر : أنَّ البربر بعدما قُتل ملكهم فرُّوا من جيش المسلمين كفرار القطا ، وأنَّ المسلمين تبعوهم يقتلون ، ويأسرون منهم من غير مقاومةٍ ، وإنَّ هذا الخبر دليلٌ على أنَّ الله تعالى مع أوليائه المؤمنين ، وأنَّه يقيِّض لهم إذا صدقوا ما يخلِّصهم من الشَّدائد ، وينقذهم من المآزق ، فإنَّ المسلمين قد وقعوا في معضلةٍ كبرى، حيث أحاط بهم أعداؤهم الّذين يفوقونهم ستَّ مرات في العدد ، أو أكثر ، وكان على المسلمين أن يقاتلوهم من كل جانبٍ ، وهو أمر عسيرٌ على جيش صغيرٍ بالنِّسبة لكثرة عدوِّه ، كما جاء في قول الرَّاوي : فوقف المسلمون في موقفٍ لم يُر أشنع منه ، ولا أخوف عليهم منه ، فقيَّض الله لهم هذا البطل المغوار الّذي أقدم على مغامرةٍ نادرة المثال، فأنقذ الله به ذلك الجيش الإسلاميَّ من عسرةٍ كان يعاني منها.
ولا ننسى موقف الأبطال الّذين كانوا مع عبد الله بن الزُّبير يحمون ظهره ، فإنَّهم قد شاركوه في تلك المخاطرة ، ولئن لم يَذكر التَّاريخ أسماءهم ، فإنَّ عملهم الفدائيَّ قد بقي مخلَّداً في الدُّنيا برفع ذكر هذه الأمَّة حينما تفاخر بأبطالها ، وفي الاخرة بما ينتظرون من وعد الله للمجاهدين الصَّادقين.
هذا وقد قدَّم المسلمون الغالي ، والرَّخيص في فتوحات إفريقية ، واستشهد منهم الكثير ، وممَّن توفي منهم غازياً بإفريقية في خلافة عثمان أبو ذُؤَيبٍ الهُذَليُّ ، وكان شاعراً مشهوراً ، وهو الّذي قال :
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفارَهَا أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيْمَةٍ لا تَنْفَعُوَ
تَجَلُّدي لِلشَّامِتيْنَ أُرِيْهُمُ أنِّي لِرَيْبِ الدَّهر لا أَتَضَعْضَعُ
خامساً : معركة ذات الصَّواري :
أصيب الرُّوم بضربةٍ حاسمةٍ في إفريقية ، وتعرَّضت سواحلهم للخطر بعد سيطرة الأسطول الإسلاميِّ على سواحل المتوسط من رودس حتَّى برقة ، فجمع قسطنطين بن هرقل أسطولاً بناه الرُّوم من قبل ، فخرج بألف سفينةٍ ، لضرب المسلمين ضربةً يثأر بها لخسارته المتوالية في البرِّ ، فأذن عثمان رضي الله عنه لصدِّ العدوان ، فأرسل معاوية مراكب الشَّام بقيادة بُسْر بن أرطاة ، واجتمع مع عبد الله بن سعد بن أبي السَّرح في مراكب مصر ، وكانت كلُّها تحت إمرته ، ومجموعها مئتا سفينةٍ فقط ، وسار هذا الجيش الإسلاميُّ ، وفيه أشجع المجاهدين المسلمين ممَّن أبلوا في المعارك السَّابقة ، فقد انتصر هؤلاء على الرُّوم من قبل في معارك عديدةٍ ، فشوكة عدوِّهم في أنفسهم محطَّمةٌ ، لا يخشونه ، ولا يهابونه ، على الرَّغم من قلَّة عدد سفنهم إذا قيست بعدد سفن عدوِّهم ، خرج المسلمون إلى البحر ، وفي أذهانهم وقلوبهم إعزاز دين الله ، وكسر شوكة الرُّوم ، ولقد كان لهذه المعركة التَّاريخية أسبابٌ ، منها :
1ـ الضَّربات القويَّة الّتي وجَّهها المسلمون إلى الرُّوم في إفريقية .
2ـ إصابة الرُّوم في سواحلهم الشَّرقيَّة ، والجنوبيَّة بعد أن سيطر المسلمون بأسطولهم عليها .
3ـ خشية الرُّوم أن يقوى أسطول المسلمين ، فيفكروا في غزو القسطنطينية .
4ـ أراد قسطنطين بن هرقل استرداد هيبة ملكه بعد الخسائر المتتالية برّاً ، وعلى شواطئه في بلاد الشَّام ، ومصر ، وساحل برقة .
5ـ كما أراد الرُّوم خوض معركةٍ ظنُّوا : أنَّها مضمونة النَّتائج ، كي تبقى لهم السَّيطرة في
المتوسِّط ، فيحافظوا على جزره ، فينطلقوا منها للإغارة على شواطئ بلاد العرب.
6ـ محاولة استرجاع الإسكندريَّة بسبب مكانتها عند الرُّوم ، وقد ثبت تاريخيّاً مكاتبة سكانها لقسطنطين بن هرقل ملك الرُّوم .
هذه بعض أسباب معركة ذات الصَّواري.
أين وقعت هذه المعركة ؟
وهذا السُّؤال لم يجد المؤرِّخون جواباً موحَّداً ، فالمراجع العربيَّة لم تحدِّد مكانها، باستثناء مرجعٍ واحدٍ ـ على ما نعلم ـ صرَّح بالمكان بدقَّةٍ ، وآخر قال : اتَّجه الروم إليه.
* في ( فتح مصر وأخبارها ) ، ذكر الكتاب خطبة عبد الله بن سعد بن أبي سرحٍ، وقال : قد بلغني : أنَّ هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركبٍ ... ولم يحدِّد مكان المعركة.
* ( الطَّبري ) ، في أخبار سنة 31 هـ ، ربط حدوث ذات الصَّواري بما أصاب المسلمون من الرُّوم في إفريقية ، وقال : فخرجوا في جمعٍ لم يجتمع للرُّوم مثله قطُّ .
* ولم يذكر ( الكامل في التاريخ ) ، مكان الموقعة أيضاً ، ولكنَّه ربط سبب وقوعها بما أحرزه المسلمون من نصرٍ في إفريقية بالذَّات .
* وفي ( البداية والنِّهاية ) ؛ فلمَّا أصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح مَنْ أصاب من الفرنج ، والبربر ببلاد إفريقية ، حميت الرُّوم ، واجتمعت على قسطنطين ابن هرقل ، وساروا إلى المسلمين في جمع لهم لم يُرَ مثلهُ منذ كان الإسلام ، خرجوا في خمسمئة مركبٍ وقصدوا عبد الله بن سعد بن أبي سرحٍ في أصحابه من المسلمين ببلاد المغرب .
* ( تاريخ الأمم الإسلاميَّة ) ، لم يذكر مكان الموقعة أيضاً، ورجَّح الدكتور شوقي أبو خليل : أنَّ المعركة كانت على شواطئ الإسكندرية ، وذلك للأسباب التالية:
ـ كتاب ( النُّجوم الزَّاهرة في ملوك مصر والقاهرة ) يذكر صراحةً : غزوة ذات الصَّواري في البحر من ناحية الإسكندريَّة.
ـ تاريخ ابن خلدون يذكر: ثمَّ بعث ـ ابن أبي سرح ـ السَّرايا ، ودوَّخ البلاد، فأطاعوا، وعاد إلى مصر، ولمَّا أصاب ابن أبي السَّرح من إفريقية ما أصاب ، ورجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازياً إلى الإسكندرية في ستِّمئة مركبٍ.
ـ ربطت المراجع العربيَّة الّتي لم تحدِّد موقع المعركة بين حدوث المعركة ، وبين ما خسره الرُّوم في شمال إفريقية بالذَّات .
ـ الأسطول الرُّومي صاحب ماضٍ عريقٍ ، فهو سيِّد المتوسط قبل ذات الصَّواري، فهو أجرأ على مهاجمة السَّواحل الإسلاميَّة ، ولذلك رجح الدُّكتور شوقي أبو خليل مجيء الأسطول الرُّومي إلى شواطئ الإسكندريَّة ؛ لاستعادتها بسبب مكانتها عند الرُّوم ومكاتبة أهلها لملكهم السَّابق ، وهو بذلك يقضي أيضاً على الأسطول الفتي في مهده ، الّذي شرع العرب في بنائه بمصر ، فتبقى للرُّوم السَّيطرة والسَّطوة في مياه المتوسط ، وجزره .
ـ المراجع الأجنبيَّة تعرِّف ذات الصَّواري بموقعة ( فونيكة ) ، وفونيكة : هو ثغرٌ يقع غرب مدينة الإسكندرية ، بالقرب من مدينة مرسى مطروح ، فهي تحدِّد الموقع تماماً.
أحداث المعركة :
قال مالك بن أوس بن الحدثان : كنت معهم ـ في ذات الصَّواري ـ فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قطُّ ، وكانت الرِّيح علينا ـ أي : لصالح مراكب الروم ـ فأرسينا ساعةً ، وأرسوا قريباً منَّا ، وسكتت الرِّيح عنا ، قلنا للرُّوم: الأمن بيننا وبينكم . قالوا : ذلك لكم ، ولنا منكم، كما طلب المسلمون من الرُّوم : إن أحببتم ننزل إلى السَّاحل فنقتتل ، حتى يُكتب لأحدنا النَّصر ، وإن شئتم فالبحر . قال مالك بن أوس : فنخروا نخرةً واحدةً ، وقالوا : بل الماء ، الماء ، الماء ! وهذا يظهر لنا ثقة الرُّوم بخبرتهم البحريَّة ، وأملهم في النَّصر لممارستهم أحواله ، وفنونه ، وقد مرنوا عليه ، فأحكموا الدِّراية بثقافته ، وأنوائه ، فطمعوا بالنَّصر فيه، خصوصاً وأنَّهم يعلمون حداثة عهد المسلمين به.
بات الفريقان تلك اللَّيلة في عرض البحر ، وموقف المسلمين حَرِجٌ ، فقال القائد المسلم لصحبه : أشيروا عليَّ ؟ فقالوا : انتظر اللَّيلة بنا لنرتِّب أمرنا ، ونختبر عدوَّنا، فبات المسلمون يصلُّون ، ويدعون الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ويذكرونه ، ويتهجَّدون، فكان لهم دويٌّ كدويِّ النَّحل ، على نغمات تلاطم الأمواج بالمراكب ، أمَّا الرُّوم ؛ فباتوا يضربون النَّواقيس في سفنهم ، وأصبح القوم ، وأراد قسطنطين أن يسرع في القتال ، ولكنَّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح لمَّا فرغ من صلاته إماماً بالمسلمين للصُّبح ، استشار رجال الرأي ، والمشورة عنده ، فاتفق معهم على خطَّةٍ رائعة : فقد اتفقوا على أن يجعلوا المعركة برِّيَّة على الرَّغم من أنَّهم في عرض البحر ، فكيف تمَّ للمسلمين ذلك ؟ أمر عبد الله جنده أن يقتربوا من سفن أعدائهم فاقتربوا حتى لامست سفنهم سفن العدوِّ ، فنزل الفدائيون ، أو ـ رجال الضَّفادع البشريَّة في عرفنا الحالي ـ إلى الماء ، وربطوا السُّفن الإسلاميَّة بسفن الرُّوم ، ربطوها بحبالٍ متينةٍ ، فصار ( 1200 ) سفينة في عرض البحر ، كلُّ عشرةٍ أو عشرين منها متَّصلةٌ مع بعضها ، فكأنها قطعةُ أرض ستجري عليها المعركة ، وصَفَّ عبد الله بن سعدٍ المسلمين على نواحي السُّفن يعظهم، ويأمرهم بتلاوة القرآن الكريم، خصوصاً سورة الأنفال، لما فيها من معاني الوحدة، والثَّبات، والصَّبر.
وبدأ الرُّوم القتال ، فهم في رأيهم قد ضمنوا النَّصر عندما قالوا : بل الماء ، الماء، الماء ! وانقضُّوا على سفن المسلمين بدافع الأمل بالنَّصر ، مستهدفين توجيه ضربةٍ أولى حاسمةٍ يحطِّمون بها شوكة الأسطول الإسلاميِّ ، فنقض الرُّوم صفوف المسلمين المحاذية لسفنهم ، وصار القتال كيفما اتَّفق وكان قاسياً على الطَّرفين ، وسالت الدِّماء غزيرة ، فاصطبغت بها صفحة الماء ، فصار أحمر . وترامت الجثث في الماء وتساقطت فيه ، وضربت الأمواج السُّفن حتَّى ألجأتها إلى السَّاحل، وقتل من المسلمين الكثير ، وقتل من الرُّوم ما لا يحصى ، حتَّى وصف المؤرخ البيزنطيُّ ( ثيوفانس ) هذه المعركة بأنَّها كانت يرموكاً ثانيةً على الرُّوم، ووصفها الطَّبريُّ بقوله : إنَّ الدَّم كان غالباً على الماء في هذه المعركة. حاول الرُّوم أن يغرقوا سفينة القائد المسلم عبد الله بن أبي سرح ؛ كي يبقى جند المسلمين دون قائد ، فتقدَّمت من سفينته سفينةٌ روميَّة ، ألقت إلى سفينة عبد الله السَّلاسل لتسحبها ، وتنفرد بها ، ولكنَّ علقمة بن يزيد الغطيفي أنقذ السَّفينة ، والقائد ، بأن ألقى بنفسه على السَّلاسل وقطعها بسيفه.
وصمد المسلمون رغم كلِّ شيءٍ ، وصبروا كعادتهم في معاركهم ، فكتب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لهم النَّصر بما صبروا ، واندحر ما تبقى من الأسطول الرُّومي ، وكاد الأمير قسطنطين أن يقع أسيراً في أيدي المسلمين ، كما ذكر ابن عبد الحكم ، لكنَّه تمكَّن من الفرار لمَّا رأى قوته تنهار ، وجثث جنده على سطح الماء تلقي بها الأمواج إلى السَّاحل ، لقد رأى أسطوله ـ الّذي تأمَّل فيه خيراً ، ونصراً ، وإعادة كرامة ـ يغرق قطعةً بعد قطعةٍ ، ففرَّ مدبراً ، والجراحات في جسمه ، والحسرة تأكل فؤاده ، يجرُّ خيبةً ، وفشلاً ، فوصل جزيرة صقلية ... وألقت الرِّيح هناك ، فسأله أهلها عن أمره ، فأخبرهم ، فقالوا : شمت النَّصرانيَّة ، وأفنيت رجالها ، لو دخل المسلمون لم نجد من يردُّهم فقتلوه ، وخلَّوا من كان معه في المراكب .
نتائج ذات الصواري :
1ـ كانت ذات الصَّواري أوَّل معركةٍ حاسمةٍ في البحر خاضها المسلمون ، أظهر فيها الأسطول الفتيُّ الصَّبر ، والإيمان ، والجلد ، والفكر السَّليم ، بما تفتَّق عنه الذِّهن الإسلاميُّ من خطَّةٍ جعلت المعركة صعبةً على أعدائهم ، فاستحال عليهم اختراق صفوف المسلمين بسهولةٍ ، كما استخدم المسلمون خطاطيف طويلة يجرُّون بها صواريَ ، وشُرُعَ الأعداء ، الأمر الّذي انتهى بكارثةٍ بالنِّسبة للرُّوم .
2ـ كانت ذات الصَّواري حدّاً فاصلاً في سياسة الرُّوم إزاء المسلمين ، فأدركوا فشل خططهم في استرداد هيبتهم ، أو استرجاع مصر ، أو الشَّام ، وانطلق المسلمون في عرض هذا البحر ، الّذي كان بحيرة روميَّة ، وانتهى اسم ( بحر الرُّوم ) إلى الأبد، واستطاع المسلمون فتح قبرص ، وكريت ، وكورسيكا ، وسردينيا ، وصقلِّية ، وجزر البليار ، ووصلوا إلى جنوة ، ومرسيليا .
3ـ قُتِلَ قسطنطين ، فتولَّى ابن قسطنطين الرَّابع من بعده ، وكان حدثاً صغير السِّنِّ، ممَّا جعل الظُّروف مواتيةً لقيام حملةٍ بحريَّةٍ ، وبرِّيَّةٍ إسلاميَّةٍ تستهدف روما ( القسطنطينية ) فيما بعد .
4ـ الإعداد الرُّوحي قبل المعركة ، أو مايسمَّى بالتَّوجيه المعنويِّ في أيَّامنا هذه ، له قيمته في تحقيق النَّصر ، حيث تتَّجه القلوب إلى الله بصدقٍ ، فهذا المؤمن الّذي بات ليله في تهجُّدٍ ، وذكرٍ ، يستمدُّ العون من الله ، من عظمته ، وعزَّته ، بعد أن هيَّأ الأسباب، يلقى الأعداء بروحٍ عاليةٍ لا يهاب الموت، فالله أكبر من كلِّ شيءٍ ، وهذه المعارك الّتي نَصِفُ أحداثها التَّاريخيَّة، هي وصفةٌ طبيَّةٌ نعرضها للتَّطبيق، والنَّهج، لنستفيد منها في حياتنا، فحياة الصَّحابة ما هي إلا للقدوة، وسيرةٌ للاتِّباع.
5ـ أصبح البحر المتوسط بحيرةً إسلاميَّة ، وصار الأسطول الإسلاميُّ سيِّد مياه البحر المتوسط ، وهذا الأسطول ليس للتسلُّط ، والقرصنة ، بل للدَّعوة إلى الله ، وكسر شوكة المشركين ، ونشر الحضارة المنبثقة عن كتاب الله ، وسنَّة رسوله (ص) .
6ـ عكف المسلمون على دراسة علوم البحريَّة ، وصناعة السُّفن ، وكيفيَّة تسليحها، وأسلوب القتال من فوقها ، وعلوم الفلك المتَّصلة بتسييرها في البحار ومعرفة مواقعهم على المصوَّرات البحريَّة المختلفة ـ فيما بعد ـ فعرفوا الأسْطُرْلاب ( البوصلة الفلكية ) وطوَّروها إلى المدى الّذي استفاد منه بعد ذلك البحَّارة الغربيُّون أمثال : كرستوف كولومبس ، وأمريكو فيسبوشي في اكتشافاتهم.
7ـ لقد كانت هذه المعركة مظهراً من مظاهر تفوُّق العقيدة الصَّحيحة الصُّلبة على الخبرة العسكريَّة ، والتفوُّق في العَدد ، والعُدد ، فلقد كان الرُّوم هم أهل البحر منذ القدم، وقد مرُّوا بتجارب طويلةٍ في الحروب البحريَّة ، بينما كان المسلمون حديثي عهدٍ بركوب البحر ، والقتال البحريِّ ، ولكن الله ـ تعالى ـ أعلى المسلمين عليهم برغم التفوُّق المذكور ؛ لأنَّه سبحانه قد سخَّر أولئك المؤمنين لنشر دينه ، وإعلاء كلمته في الأرض ، وإنَّ ممَّا يُشاد به في هذه المعركة قوة قائدها عبد الله بن سعد بن أبي سرحٍ ، ورباطة جأشه ، ومقدرته الجيِّدة على إدارة الحروب ، وهي بعد ذلك لونٌ من ألوان بسالة المسلمين ، واستقتالهم في الحروب في سبيل إعزاز دينهم ، ورفع شأن دولتهم.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf