أهمُّ الدُّروس والعبر والفوائد في فتوحات عثمان رضي الله عنه
الحلقة الثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
1ـ تحقيق وعد الله للمؤمنين :
قال ابن كثير في حديثه عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه : ... ففتح الله على يديه كثيراً من الأقاليم ، والأمصار ، وتوسَّعت المملكة الإسلاميَّة ، وامتدت الدَّولة المحمديَّة ، وبلغت الرِّسالة المصطفويَّة مشارق الأرض ومغاربها ، وظهر للنَّاس مصداق قوله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*} [النور: 55]. وقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *} [ التوبة: 33 ] . وقوله (ص) : « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، والّذي نفسي بيده ! لتُنْفَقَنَّ كنوزُهما في سبيل الله ».
وهذا كلُّه تحقَّق وقوعه ، وتأكَّد وتوطَّد في زمان عثمان رضي الله عنه.
2ـ التَّطور في فنون الحرب والسِّياسة :
كانت الحروب تنشأ بين الشُّعوب من أجل قطعةٍ من الأرض ، يراد تملُّكها ، أو بسبب اعتداءٍ يقع على بلدٍ ، أو قبيلة ، ولكنَّها في عهد النُّبوة والعهد الرَّاشديِّ أصبحت بسبب المبادئ ، فالمسلمون يريدون أن تكون عقيدتهم هي السَّائدة والمهيمنة في الأرض ، فاصطدمت بعقائد فاسدةٍ ، ومنحرفةٍ ، كعقائد المشركين ، والمجوس ، على أنَّ هذا لم يكن كلُّ شيء في التطوُّر الحربيِّ ، بل نجد لوناً جديداً آخر ، وهو ما كان يعرضه المجاهدون المسلمون على أعدائهم من : الإسلام ، أو الجزية ، أو المناجزة ، ونتج عن تلك الفتوح سياسةٌ فذةٌ أرضت جميع الشُّعوب ، إلا من كان في قلبه حقدٌ على العدل، والمساواة ممَّن كانت تحدِّثهم نفوسهم بالفتن، والعصيان ، وهؤلاء اضطرُّوا المسلمين أحياناً إلى الشِّدَّة معهم ، والتَّنكيل بهم.
3ـ بدء التَّجنيد الإلزامي في عهد عمر رضي الله عنه ، واستمراره في عهد عثمان رضي الله عنه :
كانت معركة القادسيَّة من أسباب اتِّخاذ الفاروق لقرار التَّجنيد الإلزاميِّ ، فقد أمر عمَّاله على الأقاليم بإحضار كلِّ فارسٍ ذي نجدةٍ ، أو رأيٍ ، أو فرسٍ ، أو سلاحٍ ، فإن جاء طائعاً ، وإلا حشروه حشراً ، وقادوه مقاداً ، واستعجلهم في ذلك بحزمه المشهور قائلاً : لا تدعوا أحداً إلا وجهتموه إليَّ ، والعَجَل ، العَجَل! وكان عمر يفكِّر في التَّجنيد الإلزاميِّ الموقوف للجهاد ، فلمَّا دوَّن الدِّيوان ، ورتَّب للمسلمين أرزاقهم السَّنويَّة ؛ خرجت فكرته إلى حيِّز الوجود ، واقترنت نشأة الدِّيوان بنشأة التَّجنيد النظاميِّ الرَّسميِّ، وحُدِّدت للجنود النِّظاميين عطاياهم ، ورواتبهم من بيت مال المسلمين ، وعندما أذن عثمان لمعاوية بالغزو بحراً ؛ أمره أن يخيِّر النَّاس، ولا يكرههم ، حتَّى لا يذهب أحد إلى هذا الضَّرب من الغزو إلا طائعاً مختاراً ، أمَّا التَّجنيد برّاً لإتمام حركة الفتوح فقد ظلَّ في عهده إلزاميّاً على أصحاب الرَّواتب ، والأرزاق من الجنود النِّظاميين.
4ـ اهتمام عثمان بحدود الدَّولة الإسلاميَّة :
ترتَّب على توسُّع الدَّولة الإسلاميَّة في عهد عثمان رضي الله عنه الاستمرار في سياسة تحصين الثُّغور للحفاظ على حدود الدَّولة الإسلاميَّة من مهاجمة الأعداء سواءٌ كان ذلك بشحنها بالجند المرابطين ، أو بناء الحاميات الدِّفاعية المختلفة بها ، فكان أوَّل كتابٍ كتبه عثمان بن عفَّان رضي الله عنه في خلافته لأمراء الأجناد في الثُّغور لحماية حدود الدَّولة الإسلاميَّة قوله : أمَّا بعد : فإنَّكم حماة المسلمين ، وذادتهم ، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنَّا ، بل كان على ملأ منَّا ، ولا يبلغني عن أحدٍ منكم تغييرٌ ، ولا تبديلٌ فيغيِّر الله ما بكم ، ويستبدل بكم غيركم ، فانظروا كيف تكونون ، فإنِّي أنظر فيما أكرمني الله النَّظر فيه ، والقيام عليه.
وتسهيلاً ، وتيسيراً للعمليَّة الإداريَّة جمع الخليفة عثمان رضي الله عنه لمعاوية ابن أبي سفيان الشَّام ، والجزيرة ، وولاية ثغورهما في إدارة موحَّدةٍ ، وكلَّفه بغزو ثغر شمشاط بنفسه، أو أن يولِّي ذلك من يرتضيه من كبار قواده من أصحاب الخبرة، والشَّجاعة الرَّاغبين في الجهاد ، والحرب مع الرُّوم، كما كتب أيضاً لمعاوية بن أبي سفيان أن يُلزم ثغر أنطاكية قوماً، وأن يقطعهم القطائع به، ففعل ذلك.
وكان رضي الله عنه يهتمُّ بأمر الثُّغور ، ويبعث مَنْ يستعلم له عن بعضها، وعندما غزا معاوية بن أبي سفيان عمُّورية، وجد الحصون الّتي فيها بين ثغر أنطاكية، وثغر طرسوس خاليةً من مقاتلة الرُّوم، فجعل بها جماعةً من جند الشَّام، والجزيرة ، وقنَّسرين ، وأمرهم بالوقوف عندها لتحمي ظهره أثناء انسحابه وانصرافه من غزواته، ثمَّ أغزى بعد ذلك بسنةٍ ، أو سنتين يزيد بن الحرِّ العبسيَّ الصَّائفة ، وأمره بفعل الشيء نفسه ، وكانت ولاة الصَّوائف ، والشَّواتي إذا دخلوا بلاد الرُّوم ، فعلوا ذلك حيث يخلِّفون بها جنداً كثيفاً إلى خروجهم من أرض العدوِّ، وقد أبلى معاوية بن أبي سفيان في أثناء إدارته للسَّواحل الشَّامية، وفي تحصينها بلاءً حسناً.
وكتب عثمان رضي الله عنه لعبد الله بن سعد بن أبي السَّرح يأمره بالحفاظ على ثغر الإسكندرية بإلزام الجند المرابطة به ، وأن يجري عليهم أرزاقهم ، وأن يعقِّب بين المرابطين من أجل : أنَّه لا يضرُّ بهم التَّجمير ، فقال له : قد علمت كيف كان همُّ أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب بالإسكندرية ، وقد نقضت الرُّوم مرَّتين ، فألْزم الإسكندرية مرابطيها، ثمَّ أجر عليهم أرزاقهم، وأعقب بينهم في كلِّ ستَّة أشهر.
وكان من عادة قادة الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه إذا تقدَّموا في الفتوح، واستولوا على حصون العدوِّ ؛ قاموا بترميمها كمن سبقهم من القادة ، ثمَّ إسكانها جند المسلمين من المرابطين بالإضافة إلى استحداثهم لتحصيناتٍ دفاعيَّةٍ جديدةٍ ، فمن تلك الحصون الّتي قام بترميمها معاوية بن أبي سفيان حصون الفرات، وهي : سميساط، وملطية، وشمشاط ، وكمخ، وقاليقلا، وهي حصونٌ استولى عليها المسلمون عند فتحهم لأرمينية في عهد عثمان رضي الله عنه وقاموا بترميمها ، وإسكانها الجند.
ففي قاليقلا قام القائد حبيب بن مسلمة الفهريُّ بإسكان ألفي رجلٍ ، وأقطعهم بها القطائع ، وجعلهم مرابطين بها، وقد كلَّف الخليفة عثمان رضي الله عنه القائد حبيب بن مسلمة بأن يقيم بثغور الشَّام ، والجزيرة لإدارتها ، وحمايتها، وعندما فتح البراء بن عازبٍ رضي الله عنه ثغر قزوين ؛ رتَّب فيهم خمسمئة رجلٍ من جند المسلمين ، وعيَّن عليهم قائداً ، وأقطعهم أرضاً ، وضياعاً لاحقَّ فيها لأحد ، فعمَّروا ، وأجروا أنهارها ، وحفروا آبارها، وحين فتح سعيد بن العاص طميسة؛ جعل بها مرابطةً من ألفي رجلٍ ، وعيَّن عليهم قائداً، إلى غير ذلك من التَّحصينات الّتي أنشئت بالثُّغور في إدارة الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه والّتي كانت تشحن بالجند لحماية حدود الدَّولة الإسلامية.
وعُني الخليفة عثمان رضي الله عنه في إدارته بأمر الصَّوائف ، والشَّواتي ، حيث عمل على تسييرها ، وتسهيل أمرها في كلِّ عامٍ ، وكان يتولاها كبار قادته ، وولاته ، أمثال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الّذي بنى جسراً بمنبج، لمرور الصَّوائف عليه ، فلم يكن قبل إذ . وقد فوَّض عثمان رضي الله عنه واليه معاوية في غزو الرُّوم، وتولِّي قيادة الصَّائفة من يختاره ، فولَّى معاوية سفيان بن عوف الّذي لم يزل على الصَّوائف في عهد عثمان رضي الله عنه . ولم تقتصر حملات الصَّوائف ، والشَّواتي على الحدود البريَّة ، بل شملت كذلك البحر في عهد عثمان رضي الله عنه.
5ـ قسمة الغنائم بين أهل الشَّام والعراق :
استطاع حبيب بن مسلمة أن يهزم الرُّوم في أرمينية قبل وصول مدد الوليد بن عقبة من الكوفة ، وغنم أهل الشَّام غنائم كثيرةً ، وبعد وصول مدد أهل الكوفة اختلفوا في أمر الغنائم ممَّا جعل حبيباً يكتب بذلك إلى معاوية ، فكتب معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنه يخبره بذلك ، فحكم عثمان بن عفَّان رضي الله عنه على أهل الشَّام أن يقاسموا أهل العراق ما غنموا من تلك الغنائم، فلمَّا ورد كتاب الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه على حبيب بن مسلمة قرأه على جند أهل الشَّام، فقالوا: السَّمع، والطَّاعة لأمير المؤمنين، ثمَّ إنَّهم قاسموا أهل العراق ، وغنموا.
6ـ الحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدو :
في عهد عثمان رضي الله عنه استخلف عبد الله بن عامر على خراسان قيس بن الهيثم السُّلميَّ ، حيث خرج منها فجمع ( قارن ) جمعاً كثيراً من ناحية الطبسين، وأهل بادغيس ، وهراة ، وقهستان ، فأقبل في أربعين ألفاً ، فاستشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم قائلاً له : ما ترى ؟ قال : أرى أن تخلي البلاد ، فإنِّي أميرها ، ومعي عهد من ابن عامر : إذا كانت حرب بخراسان ؛ فأنا أميرها ـ وأخرج كتاباً قد افتعله عمداً ـ فكره قيس مشاغبته ، وخلاه والبلاد. أحبَّ قيس بن الهيثم بفعله هذا أن يجمع الكلمة بدلاً من تفريقها حتَّى لا يحدث الفشل ، والوهن للجنود ، فتكون الهزيمة ، وقد تمَّ النَّصر للمسلمين على الأعداء بحمد الله.
7ـ شرط ما يحتاج إليه الجنود في بنود الصُّلح :
في عهد عثمان رضي الله عنه زادت الفتوحات الإسلاميَّة اتساعاً ممَّا جعل قادته يشترطون في بعض عهودهم للصُّلح بأن تكون من المواشي ، والطَّعام ، والشَّراب لإعداد ما يحتاج إليه الجيش من زادٍ ، وتموينٍ ، وميرةٍ حتَّى تساعدهم في فتوحاتهم ، فلا يتكلَّفون عناء حمل الميرة من القيادة المركزيَّة ، ويستغنون عن طلبها ؛ ليكونوا على الحرب أوفر ، وعلى منازلة العدوِّ أقدر.
8 ـ جمع المعلومات عن الأعداء :
استمرَّت الفتوحات الإسلاميَّة في عهد الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه يهتمُّ بالأخبار ، ويتقصَّاها بنفسه، وسار قادته على منوال من سبقهم من القادة بالاعتناء بأمر العيون ، وتقصِّي أخبار العدوِّ، كما أنَّهم جعلوها شرطاً من شروط المعاهدات بينهم وبين المعاهدين ، حيث طلبوا منهم بأن ينصحوا ، وينذروا المسلمين بسير عدوِّهم إليهم ، ومعاونتهم بأن يكونوا عليهم جواسيس ، وإبلاغ المسلمين بتحرُّكاتهم.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf