من أعظم مفاخر عثمان بن عفان: جمعُ الأمَّة على مصحفٍ واحدٍ
الحلقة الثانية والثلاثين
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
أولاً : المراحل الّتي مرَّت بها كتابة القران الكريم :
1ـ المرحلة الأولى : في العهد النَّبويّ :
ثبت بالدَّليل القاطع : أنَّ رسول الله (ﷺ) كان يأمر بكتابة القرآن ؛ الّذي ينزل عليه ، وثبت : أنَّه كان له كاتبٌ ، أو كُتَّاب يكتبون الوحي ، حتَّى شُهر زيد بن ثابتٍ بلقب ( كاتب النَّبيّ (ﷺ) لاختصاصه بكتابة الوحي ) . وبوَّب البخاريُّ في كتاب ( فضائل القرآن ) ( باب كتَّاب النَّبيّ (ﷺ) ) وذكر فيه حديثين :
الأوَّل : أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه قال لزيد : إنَّك كنت تكتب الوحي لرسول الله (ﷺ) .
والثاني : عن البراء ، قال : لمَّا نزلت {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95 ] قال النَّبيّ (ﷺ) : « ادعُ لي زيداً ، وليجأ باللَّوح ، والدَّواة ، والكتف ، أو الكتف ، والدَّواة » وكان النَّبيّ (ﷺ) يكتب القرآن في مكَّة أيضاً قبل الهجرة ، وممَّن كتب له عبد الله بن سعد بن أبي السَّرح ، ثمَّ ارتدَّ ، ثمَّ أسلم عام الفتح ، وله في ذلك قصَّة مشهورةٌ ـ قد ذكرتها ـ والمعروف أنَّ الخلفاء الرَّاشدين الأربعة كانوا كتبةً ، فلعلَّهم كانوا يكتبون القرآن في مكَّة ، وممَّا يدلُّ على أنَّ القرآن كان مكتوباً في مكَّة قصَّة إسلام عمر بن الخطَّاب ، ودخوله على أخته ، وبيدها صحيفةٌ فيها سورة طه ، وقد أعلم الله تعالى في القران الكريم بأنَّه ـ أي : القرآن ـ مجموعٌ في الصُّحف في قوله تعالى : {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً *} [البينة: 2 ] .
وقد توفِّي رسول الله (ﷺ) ، والقرآن كلُّه مكتوبٌ ، لكنَّه غير مجموعٍ في موضعٍ واحدٍ . وكان مكتوباً على العُسُب ، واللِّخاف ، ومحفوظاً في صدور الرِّجال، ومع حفظه في الصُّحف ، وفي الصُّدور كان جبريل يعرض القرآن على النَّبيّ (ﷺ) كلَّ عامٍ مرَّةً ، فعرض عليه مرَّتين في العام الّذي قُبض فيه. ويحتمل: أنَّ النَّبيّ (ﷺ) لم يجمع القرآن في مصحفٍ ؛ لما كان يترقَّبه من ورود ناسخٍ لبعض أحكامه ، أو تلاوته، فلمَّا انقضى نزوله بوفاته (ﷺ) ؛ ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك ، وفاءً لوعده الصَّادق بضمان حفظه على هذه الأمَّة المحمَّدية.
2ـ المرحلة الثَّانية : في عهد أبي بكر رضي الله عنه :
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثيرٌ من حفظة القرآن ، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر رضي الله عنه بمشورة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه بجمع القرآن ؛ حيث جُمع من الرِّقاع ، والعظام ، والسَّعف ، ومن صدور الرِّجال، وأسند الصِّدِّيق هذا العمل العظيم إلى الصَّحابيِّ الجليل زيد بن ثابت الأنصاريِّ رضي الله عنه ، يروي زيدُ بن ثابتٍ رضي الله عنه فيقول : بعث إليَّ أبو بكرٍ رضي الله عنه لمقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطَّاب عنده ، قال أبو بكر رضي الله عنه : إنَّ عمر أتاني ، فقال : إنَّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرَّاء القرآن ، وإنِّي أخشى أن يستحرَّ القتل بالقرَّاء في المواطن كلِّها ، فيذهب كثيرٌ من القرآن ، وإنِّي أرى أن تأمر بجمع القرآن . قلت لعمر : كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله (ﷺ) ؟ ! ! فقال عمر: هذا والله خير ! فلم يزل عمر يراجعني حتَّى شرح الله صدري لِلَّذي شرح له صدر عمر ، ورأيت في ذلك الّذي رأى عمر . قال زيد : قال أبو بكر : وإنَّك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ ، ولا نتَّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (ﷺ) ، فتتبَّع القرآن ، فاجمعه.
قال زيد : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ ممَّا كلَّفني به من جمع القرآن! فتتبَّعت القرآن من العُسُبِ، واللِّخاف، وصدور الرِّجال، والرِّقاع، والأكتاف. قال : حتَّى وجدت آخر سورة التَّوبة مع أبي خزيمة الأنصاريِّ ، لم أجدها مع أحدٍ غيره . {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [التوبة : 128 ] حتَّى خاتمة براءة، وكانت الصُّحف عند أبي بكر في حياته حتَّى توفَّاه الله ، ثمَّ عمر في حياته حتَّى توفَّاه الله ، ثمَّ عند حفصة بنت عمر ، رضي الله عنهم.
ونستخلص من المرحلة الثانية في جمع القرآن بعض النتائج :
أنَّ جمع القرآن الكريم جاء نتيجة الخوف على ضياعه ؛ نظراً لموت العديد من القرَّاء في حروب الردَّة ، وهذا يدلُّ على أنَّ القرَّاء ، والعلماء كانوا وقتئذٍ أسرع النَّاس إلى العمل ، والجهاد لرفع شأن الإسلام ، والمسلمين بأفكارهم ، وسلوكهم ، وسيوفهم ، فكانوا خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس ينبغي الاقتداء بهم لكلِّ مَنْ جاء بعدهم .
ـ أنَّ جمع القرآن تمَّ بناءً على المصلحة المرسلة ، ولا أدلَّ على ذلك من قول عمر لأبي بكر حين سأله : كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله (ﷺ) ؟ : إنَّه خير ، وفي بعض الرِّوايات : أنه قال له : إنَّه والله خيرٌ ، ومصلحةٌ للمسلمين ، وهو نفس ما أجاب به أبو بكرٍ زيدَ بن ثابتٍ حين سأل نفس السُّؤال . وسواءٌ صحَّت الرِّواية الّتي جاء فيها لفظ المصلحة ، أو لم تصحَّ ؛ فإنَّ التَّعبير بكلمة « خير » يفيد نفس المعنى ، وهو مصلحة المسلمين في جمع القرآن ، مبنيّاً على المصلحة المرسلة أوَّل الأمر ، ثمَّ انعقد الإجماع على ذلك بعد أن وافق الجميع بالإقرار الصَّريح ، أو الضمنيِّ ، وهذا يدلُّ على أنَّ المصلحة المرسلة يصحُّ أن تكون سنداً للإجماع بالنِّسبة إلى مَنْ يقول بحجِّيتها كما هو مقرَّرٌ في كتب أصول الفقه .
ـ وقد اتَّضح لنا من هذه الواقعة كذلك كيف كان الصَّحابة يجتهدون في جوٍّ من الهدوء يسوده الودُّ ، والاحترام ، هدفهم الوصول إلى ما يحقِّق الصَّالح العامّ لجماعة المسلمين ، وأنَّهم كانوا ينقادون إلى الرَّأي الصَّحيح ، وتنشرح قلوبهم له بعد الإقناع، والاقتناع ، فإذا اقتنعوا بالرَّأي دافعوا عنه كما لو كان رأيهم منذ البداية ، وبهذه الرُّوح أمكن انعقاد إجماعهم حول العديد من الأحكام الاجتهاديَّة.
ما المقوِّمات الأساسيَّة لزيد بن ثابتٍ للقيام بهذه المهمَّة ؟
اختار أبو بكر رضي الله عنه زيد بن ثابتٍ لهذه المهمَّة العظيمة ، وذلك لأنَّه رأى فيه المقوِّمات الأساسيَّة للقيام بها ، وهي :
أ ـ كونه شابّاً ، حيث كان عمره 21 سنةً ، فيكون أنشط ، لما يُطلب منه .
ب ـ كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له؛ إذ مَنْ وهبه الله عقلاً راجحاً، فقد يسَّر له سبيل الخير.
ج ـ كونه ثقةً ، فليس هو موضعاً للتُّهمة ، فيكون عمله مقبولاً ، وتركن إليه النَّفس، ويطمئن إليه القلب
د ـ كونه كاتباً للوحي ، فهو بذلك ذو خبرةٍ سابقةٍ في هذا الأمر ، وممارسةٍ عمليَّةٍ له ، فليس غريباً عن هذا العمل ، ولا دخيلاً عليه.
هـ ويضاف لذلك أنَّه أحد الأربعة الّذين جمعوا القرآن على عهد النَّبيّ (ﷺ) ، فعن قتادة ، قال : سألت أنس بن مالك رضي الله عنه : مَنْ جمع القرآن على عهد النَّبيّ (ﷺ) ؟ قال : أربعةٌ كلُّهم من الأنصار : أبيُّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيدُ بن ثابتٍ ، وأبو زيد، وأمَّا الطَّريقة الّتي اتَّبعها زيدٌ في جمع القرآن ، فكان لا يُثْبِتُ شيئاً من القرآن إلا إذا كان مكتوباً بين يدي النَّبيّ (ﷺ) ، ومحفوظاً من الصَّحابة ، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة ، خشية أن يكون في الحفظ خطأٌ ، أو وهمٌ ، وأيضاً لم يقبل من أحدٍ شيئاً جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان : أنَّ ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله (ﷺ) ، وأنَّه من الوجوه الّتي نزل بها القرآن، وعلى هذا المنهج استمرَّ زيدٌ رضي الله عنه في جمع القرآن حَذِراً ، متثبِّتاً ، مبالغاً في الدِّقَّة والتَّحرِّي.
الفرق بين المكتوب في العهد النبوي ، وعهد الصدِّيق :
الفرق بين المكتوب في العهد النَّبويِّ ، وما كتب في عهد أبي بكرٍ : أنَّ القران كان مكتوباً في العهد النَّبويِّ ، مفرَّقاً في الصُّحف ، والألواح ، والعُسُب ، والكرانيف ، والقصب ، وأدواتٍ أخرى ، ولم تكن مجموعةُ سوره في خيطٍ واحدٍ .. وأمَّا الّذي تمَّ في أيام أبي بكرٍ ، فهو كتابة القرآن في صحفٍ ، كلُّ سورةٍ ، أو سورٍ في صحيفةٍ مرتَّبةٍ آياتُه على ما حفظوه عن رسول الله (ﷺ) ، فكانت مهمَّة زيد بن ثابت ، أن يكتب ما كان مكتوباً في العهد النَّبويِّ في صحفٍ ، كلُّ سورةٍ في صحيفةٍ مرتَّبةٌ فيها الايات ترتيباً توقيفيّاً.
3ـ المرحلة الثَّالثة في جمع القران : في عهد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه:
الباعث على جمع القرآن في عهد عثمان :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أنَّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان رضي الله عنه وكان يُغازي أهل الشَّام في فتح أرمينية ، وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين ! أدرك هذه الأمَّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنَّصارى ! فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخُها في المصاحف ثمَّ نردُّها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزُّبير ، وسعيد بن العاص، وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم فنسخوها في المصاحف .
وقال عثمان للرَّهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن ؛ فاكتبوه بلسان قريش ، فإنَّما نزل بلسانهم ، ففعلوا ، حتَّى إذا نسخوا الصُّحف في المصاحف ؛ ردَّ عثمان رضي الله عنه الصُّحف إلى حفصة ، فأرسل إلى كُلِّ أفقٍ بمصحفٍ ممَّا نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ ، أو مصحف أن يُحرق.
ويؤخذ من هذا الحديث الصَّحيح أمورٌ منها :
أ ـ أنَّ السَّبب الحامل لعثمان رضي الله عنه على جمع القرآن مع أنَّه كان مجموعاً، مرتَّباً في صحف أبي بكر الصِّدِّيق ، إنَّما هو اختلاف قرَّاء المسلمين في القراءة اختلافاً أوشك أن يؤدِّي بهم إلى أخطر فتنةٍ في كتاب الله تعالى ، وهو أصل الشَّريعة ، ودعامة الدِّين ، وأساس بناء الأمَّة الاجتماعيِّ ، والسِّياسيِّ ، والخُلُقيِّ ، حتَّى إنَّ بعضهم كان يقول لبعضٍ : إن قراءتي خيرٌ من قراءتك ، فأفزع ذلك حذيفةَ، ففزع فيه إلى خليفة المسلمين ، وإمامهم ، وطلب إليه أن يدرك الأمَّة قبل أن تختلف ، فيستشري بينهم الاختلاف ، ويتفاقم أمره ، ويعظم خطبه ، فيُمَسَّ نصُّ القرآن ، وتُحرَّف عن مواضعها كلماتُه ، وآياتُه ، كالّذي وقع بين اليهود ، والنَّصارى من اختلاف كلِّ أمةٍ على نفسها في كتابها .
ب ـ أنَّ هذا الحديث الصَّحيح قاطعٌ بأنَّ القرآن الكريم كان مجموعاً في صحفٍ ومضموماً في خيط ، وقد اتَّفقت كلمة الأمَّة اتِّفاقاً تامّاً على أنَّ ما في تلك الصُّحف هو القرآن كما تلقَّته عن النَّبيّ (ﷺ) في آخر عرضةٍ على أمين الوحي جبريل عليه السَّلام؛ وأنَّ تلك الصُّحف ظلَّت في رعاية الخليفة الأوَّل أبي بكرٍ الصدِّيق ، ثمَّ انتقلت بعده إلى رعاية الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب ، ثمَّ لما عرف عمر حضور أجله ولم يولِّ عهده أحداً معيناً في خلافة المسلمين ، وإنَّما جعل الأمر شورى في الرَّهط المصطفين بالرِّضا من رسول الله (ﷺ) ؛ أوصى بحفظ الصُّحف عند ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وأنَّ عثمان اعتمد في جمعه على تلك الصُّحف، وعنها نقل مصحفه ( الرَّسمي ) وأنَّه أمر أربعةً من أشهر قرَّاء الصَّحابة إتقاناً لحفظ القران ، ووعياً لحروفه ، وأداءً لقراءاته ، وفهماً لإعرابه ولغته : ثلاثة قرشيين ، وواحداً أنصارياً ، وهو زيد بن ثابت صاحب الجمع الأوَّل في عهد الصِّدِّيق بإشارة الفاروق .
وفي بعض الرِّوايات : أنَّ الّذين أمرهم عثمان أن يكتبوا من الصُّحف اثنا عشر رجلاً ، فيهم أبيُّ بن كعب ، وآخرون من قريشٍ ، والأنصار.
ج ـ ونأخذ من هذا : أنَّ الفتوحات في عهد عثمان كانت بإذنٍ ، وأمر من الخليفة، وأنَّ القرار العسكريَّ يصدر من المدينة ، وأنَّ الولايات الإسلاميَّة كلَّها كانت خاضعةً لأمر الخليفة عثمان في عهده ، بل يدلُّ على أنَّ هناك إجماعاً من الصَّحابة ، والتَّابعين في جميع الأقاليم على خلافة عثمان ، وقدوم حذيفة بن اليمان إلى المدينة ، لرفع اختلاف الناس في قراءة القرآن ، يدلُّ على : أنَّ القضايا الشَّرعيَّة الكبرى كان يُستشار فيها الخليفة في المدينة ، وأنَّ المدينة ما زالت دار السُّنَّة ، ومجمع فقهاء الصَّحابة.
ثانياً : استشارة جمهور الصَّحابة في جمع عثمان :
جمع عثمان رضي الله عنه المهاجرين ، والأنصار ، وشاورهم في الأمر ، وفيهم أعيان الأمَّة ، وأعلام الأئمَّة ، وعلماء الصَّحابة ، وفي طليعتهم عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه ، وعرض عثمان رضي الله عنه هذه المعضلة على صفوة الأمَّة ، وقادتها الهادين المهديِّين ، ودارسهم أمرها ، ودارسوه ، وناقشهم فيها ، وناقشوه ، حتَّى عرف رأيهم ، وعرفوا رأيه ؛ فأجابوه إلى رأيه في صراحةٍ لا تجعل للرَّيب إلى قلوب المؤمنين سبيلاً ، وظهر للنَّاس في أرجاء الأرض ما انعقد عليه إجماعهم ، فلم يُعرف قطُّ يومئذٍ لهم مخالفٌ ، ولا عرف عند أحدٍ نكيرٌ ، وليس شأن القرآن الّذي يخفى على أحاد الأمَّة فضلاً عن علمائها ، وأئمَّتها البارزين.
إنَّ عثمان رضي الله عنه لم يبتدع في جمعه المصحف ، بل سبقه إلى ذلك أبو بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه ، كما أنَّه لم يصنع ذلك من قبل نفسه ، إنَّما فعله عن مشورةٍ للصَّحابة رضي الله عنهم ، وأعجبهم هذا الفعل ، وقالوا : نِعمَ ما رأيت ! وقالوا : أيضاً: قد أحسن ـ أي : في فعله في المصاحف.
وقد أدرك مصعب بن سعدٍ صحابة النَّبيّ (ﷺ) حين مشق عثمان رضي الله عنه المصاحف ، فرآهم قد أعجبوا بهذا الفعل منه، وكان عليٌّ رضي الله عنه ينهى من يعيب على عثمان رضي الله عنه بذلك ، ويقول : يا أيُّها الناس ! لا تغلوا في عثمان ، ولا تقولوا له إلا خيراً ـ أو قولوا خيراً ـ فوالله ما فعل الّذي فعل ـ أي في المصاحف ـ إلا عن ملأ منَّا جميعاً ؛ أي : الصَّحابة ... والله لو ولِّيت ؛ لفعلت مثل الّذي فعل.
وبعد اتِّفاق هذا الجمع الفاضل من خيرة الخلق على هذا الأمر المبارك ؛ يتبيَّن لكلِّ متجرِّدٍ عن الهوى : أنَّ الواجب على المسلم الرِّضا بهذا الصَّنيع الّذي صنعه عثمان رضي الله عنه وحفظ به القرآن الكريم.
قال القرطبيُّ في التَّفسير: وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار، وجلَّة أهل الإسلام ، وشاورهم في ذلك ، فاتَّفقوا على جمعه بما صحَّ ، وثبت من القراءة المشهورة عن النَّبيّ (ﷺ) ، واطِّراح ما سواها ، واستصوبوا رأيه ، وكان رأياً سديداً موفَّقاً.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf