الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

من أعظم مفاخر عثمان بن عفان: جمعُ الأمَّة على مصحفٍ واحدٍ ٢

الحلقة الثالثة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م

ثالثاً : الفرق بين جمع الصِّديق ، وجمع عثمان رضي الله عنهما :
قال ابن التِّين : الفرق بين جمع أبي بكر ، وجمع عثمان : أنَّ جمع أبي بكر كان لخشيته أن يذهب شيءٌ من القرآن بذهاب حملته ؛ لأنَّه لم يكن مجموعاً في موضعٍ واحدٍ ، فجمعه في صحائف مرتِّباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النَّبيُّ (ﷺ) ، وجمع عثمان كان لمَّا كثر الاختلاف في وجوه القراءة، حتَّى قرؤوه بلغاتهم على اتِّساع اللُّغات، فأدَّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعضٍ ، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصُّحف في مصحفٍ واحدٍ مرتِّباً لسوره ، واقتصر من سائر اللُّغات على لغة قريش محتجّاً بأنَّه نزل بلغتهم ، وإن كان قد وسَّع في قراءته بلغة غيرهم دفعاً للحرج والمشقَّة في ابتداء الأمر ، فرأى : أنَّ الحاجة قد انتهت ، فاقتصر على لغةٍ واحدةٍ .
وقال القاضي أبو بكر الباقلانيُّ : لم يقصد أبو بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين ، إنَّما قصد جمعهم على القراءات الثَّابتة المعروفة عن النَّبيّ (ﷺ) ، وإلغاء ما ليس كذلك ، وأخْذِهم بمصحفٍ لا تقديم فيه ، ولا تأخير ، ولا تأويلَ أُثْبِتَ مع تنزيلٍ ، ولا منسوخ تلاوته كُتِب مع مُثْبَتٍ رَسْمُه ومفروضٍ قراءته ، وحفظه ؛ خشية دخول الفساد والشُّبهة على مَنْ يأتي بَعْدُ .
وقال الحارث المحاسبيُّ : المشهور عند النَّاس : أن جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك إنَّما حمل عثمان النَّاس على القراءة بوجهٍ واحدٍ على اختيارٍ وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين ، والأنصار ؛ لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق ، والشَّام في حروف القراءات ، فأمَّا قبل ذلك ، فقد كانت المصاحف بوجوه القراءات المطلقات على الحروف السَّبعة الّتي أنزل بها القرآن ، فأمَّا السَّابق إلى جمع الجملة ، فهو الصِّدِّيق ، وقد قال عليٌّ رضي الله عنه : لو ولِّيت ؛ لعملت بالمصاحف الّتي عمل بها عثمان.
وقال القرطبيُّ : فإن قيل : فما وجه جمع عثمان النَّاس على مصحفه ، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك ، وفرغ منه ؟ قيل له : إنَّ عثمان رضي الله عنه لم يقصد بما صنع جمع النَّاس على تأليف المصحف ، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة : أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخها في المصاحف ثم نردُّها إليك ؟ وإنَّما فعل ذلك عثمان ، لأنَّ الناس اختلفوا في القراءة ، لتفرُّق الصَّحابة في البلدان ، واشتدَّ الأمر في ذلك ، وعظم اختلافهم ، وتشبُّثهم ، ووقع بين أهل الشَّام ، والعراق ما ذكره حذيفة رضي الله عنه.
رابعاً : هل المصاحف العثمانية مشتملةٌ على جميع الأحرف السَّبعة ؟
ذهب الشَّيخ المحقِّق صادق عرجون ـ رحمه الله ـ إلى أنَّ : صحف الصِّدِّيق الّتي كانت أصلاً للمصحف الإمام بإجماع المسلمين لم تكن جامعةً للأحرف السَّبعة؛ الّتي وردت صحاح الأحاديث بإنزال القرآن عليها، بل كانت على حرفٍ منها؛ هو الّذي وقعت به العرضة الأخيرة ، واستقرَّ عليها الأمر في آخر حياة رسول الله (ﷺ) ، وإنَّما كانت الأحرف السَّبعة أوَّلاً من باب التَّيسير على الأمَّة ، ثمَّ ارتفع حكمها لمَّا استفاض القرآن ، وتمازج النَّاس ، وتوحَّدت لغاتهم ، قال الإمام الطَّحاويُّ: إنَّما كانت السَّعة للنَّاس في الحروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم؛ لأنَّهم كانوا أمِّيين، لا يكتب إلا القليل منهم، فلمَّا كان يشقُّ على كل ذي لغةٍ أن يتحوَّل إلى غيرها من اللُّغات ، ولو رام ذلك لم يتهيَّأ له إلا بمشقَّةٍ عظيمةٍ ـ وُسِّع لهم في اختلاف الألفاظ ؛ إذا كان المعنى متَّفقاً، فكانوا كذلك حتَّى كثر منهم مَنْ يكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله (ﷺ) ، فقدروا بذلك على تحفُّظ ألفاظه ، فلم يسعهم حينئذٍ أن يقرؤوا بخلافها . قال ابن عبد البرِّ : فبان بهذا : أن تلك السَّبعة الأحرف إنَّما كانت في وقتٍ خاصٍّ لضرورةٍ دعت إلى ذلك ، ثمَّ ارتفعت تلك الضَّرورة ، فارتفع حكم هذه السَّبعة الأحرف ، وعاد ما يقرأ به القران على حرفٍ واحد.
وقال الطَّبريُّ : إنَّ القراءة على الأحرف السَّبعة لم تكن واجبةً على الأمَّة ، وإنَّما كان جائزاً لهم ، ومرخَّصاً لهم فيه ، فلمَّا رأى الصَّحابة : أنَّ الأمَّة تفترق ، وتختلف إذا لم يجتمعوا على حرفٍ واحدٍ ـ أجمعوا على ذلك إجماعاً شائعاً ، وهم معصومون من الضَّلالة.
وهذا الحرف الّذي كتبت به صحف الإجماع القاطع ، ونقل عنها المصحف الإمام ـ جامعٌ لقراءات القرَّاء السَّبعة ، وغيرها ، ممَّا يقرأ به النَّاس ، ونُقل متواتراً عن رسول الله (ﷺ) ؛ لأنَّ الأحرف الواردة في الحديث غير هذه القراءات.
قال القرطبيُّ: قال كثير من علمائنا كالدَّاووديِّ، وابن أبي صفرة، وغيرهما: هذه القراءات السَّبع الّتي تنسب لهؤلاء القرَّاء السَّبعة ليست هي الأحرف السَّبعة الّتي اتَّسعت الصحابة في القراءة بها، وإنَّما هي راجعةٌ إلى حرفٍ واحد من تلك السَّبعة، وهو الّذي جمع عليه المصحف، وأقرب الآراء إلى الفهم ـ عند ظنِّنا ـ في معنى الأحرف إنَّما هو الرَّأي القائل بأنَّها هي أفصح لغات العرب، وأشهرها، وهي مبثوثةٌ في القرآن كلِّه، وإليه ذهب القاسم بن سلام، وابن عطيَّة في جماعةٍ من الأجلاء، وإليه يرجع نحو سبعة أقوال ممَّا ذكره السُّيوطيُّ في الإتقان في معنى الأحرف.

خامساً : عدد المصاحف الّتي أرسلها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار :
لمَّا فرغ عثمان رضي الله عنه من جمع المصاحف ، أرسل إلى كلِّ أفقٍ بمصحفٍ، وأمرهم أن يحرقوا كلَّ مصحف يخالف المصحف الّذي أرسله إلى الآفاق ، وقد اختلفوا في عدد المصاحف الّتي فرَّقها في الأمصار، فقيل: إنَّها أربعة؛ وهو الّذي اتَّفق عليه أكثر العلماء، وقيل : إنَّها خمسة ، وقيل : إنَّها ستَّةٌ ، وقيل : إنَّها سبعةٌ ، وقيل : ثمانية، أما كونها أربعةً ؛ فقيل : إنَّه أبقى مصحفاً بالمدينة ، وأرسل مصحفاً إلى الشَّام، ومصحفاً إلى الكوفة ، ومصحفاً إلى البصرة، وأمَّا كونها خمسةً؛ فالأربعة المتقدِّم ذكرها ومصحفاً لأهل مكة، وأما كونها ستة فالخمسة المتقدمة، والسَّادس اختلف فيه، فقيل: جعله خاصّاً لنفسه، وقيل: أرسله إلى البحرين.
وأمَّا كونها سبعة ؛ فالستَّة المتقدِّم ذكرها ، والسَّابع أرسله إلى اليمن ، وأمَّا كونها ثمانيةً ؛ فالسَّبعة المتقدِّم ذكرها ، والثَّامن كان لعثمان يقرأ فيه ، وهو الّذي قتل ، وهو بين يديه، وبعث رضي الله عنه مع كلِّ مصحفٍ من يرشد النَّاس إلى قراءته بما يحتمله رسمه من القراءات ممَّا صح ، وتواتر ، فكان عبد الله بن السَّائب مع المصحف المكِّيِّ ، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشَّامي ، وأبو عبد الرحمن السُّلمي مع المصحف الكوفيِّ ، وعامر بن قيس مع المصحف البصريِّ ، وأمر زيد بن ثابت أن يقرأى الناس بالمدنيِّ.
سادساً : موقف عبد الله بن مسعود من مصحف عثمان :
لم يثبت أنَّ ابن مسعود رضي الله عنه خالف عثمان في ذلك ، وكلُّ ما روي في ذلك ضعيف الإسناد ، كما أنَّ هذه الروايات الضَّعيفة الّتي تتضمَّن ذلك تثبت : أنَّ ابن مسعود رضي الله عنه رجع إلى ما اتَّفق عليه الصَّحابة في جمع القرآن ، وأنَّه قام في النَّاس ، وأعلن ذلك ، وأمرهم بالرُّجوع إلى جماعة المسلمين في ذلك. وقال : إنَّ الله لا ينتزع العلم انتزاعاً ، ولكن ينتزعه بذهاب العلماء ، وإنَّ الله لا يجمع أمَّة محمَّدٍ (ﷺ) على ضلالة ، فجامعوهم على ما اجتمعوا عليه ، فإنَّ الحقَّ فيما اجتمعوا عليه .. وكتب بذلك إلى عثمان، وقد ورد عن ابن كثير رجوع ابن مسعود إلى الوفاق، وأكَّد الذَّهبيُّ ذلك ، فقال : وقد ورد أنَّ ابن مسعود رضي وتابع عثمان ، ولله الحمد.
ولا يلتفت إلى ما كتبه طه حسين في قضيَّة المصحف ، وعلاقة عثمان مع ابن مسعود ، وما ساقه بأسلوبٍ مسمومٍ ، فيه أفكارٌ أخذها من أساتذته المستشرقين والّذين اعتمدوا على رواياتٍ ضعيفةٍ ، وإماميَّة في تشويه علاقة الصَّحابة ببعضهم ، رضي الله عنهم جميعاً .
إنَّ ابن مسعود رضي الله عنه الّذي ترك صلاة القصر في منى خشيةً من الخلاف، والفتنة ، ومتابعةً للخليفة ، هل يتوقَّع منه أن يصعد المنبر ، ويحرِّض الناس على الخلاف ، وهو القائل : إنَّ الخلاف شرٌّ.
إنَّ مؤرِّخي الإمامية زوَّروا روايات ، ونسبوها لابن مسعودٍ ، وموقفه من عثمان، رضي الله عنهم ، وأظهروا ـ في تلك الأكاذيب ـ الصَّحابة قوماً متنازعين ، متباغضين، متعنِّتين ، متفاحشين في القول ، وهي رواياتٌ ساقطةٌ لا تثبت أمام النَّقد الهادئ الموضوعيِّ ، ويرفضها الذَّوق المؤمن ، والعقل الفطن، وقد زعم بعضهُم كذباً ، وزوراً ؛ بأنَّ ابن مسعودٍ كان يطعن على عثمان ، ويكفِّره ، ولمَّا حكم عثمان ، ضربه حتَّى مات ، وهذا كذب بيِّنٌ على ابن مسعودٍ ، فإنَّ علماء النقل يعلمون أنَّ ابن مسعود ما كان يكفِّر عثمانَ ، بل لمَّا بويع عثمان بالخلافة سار عبد الله بن مسعود من المدينة إلى الكوفة ، ولمَّا وصل إليها ؛ حمد الله ، وأثنى عليه ثمَّ قال : أمَّا بعد فإنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب مات ـ فلم نرَ يوماً أكثر نشيجاً من يومئذٍ ـ وإنَّا اجتمعنا أصحاب محمد ، فلم نألُ عن خيرنا ذي فُوقٍ ، فبايعنا أمير المؤمنين عثمان ، فبايعوه.
وهذه الكلمات الواضحات أكبر دليل على تلك المكانة الرَّفيعة لعثمان بن عفَّان في قلب ابن مسعودٍ ، وعند جميع الصَّحابة ، أولئك الّذين مدحهم الله تعالى ، ورضي عنهم، وهم خَيْرُ مَنْ فَقِه قوله سبحانه : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا*} [الأحزاب : 70 ] .
فقول عبد الله بن مسعود صدقٌ لا يعدو الحقيقة ، كما أنَّه نابع عن قناعته ، وصادرٌ عن محض إرادته ، ما قاله خوفاً ، ولا خشيةً ، ولم يقذف به هكذا رخيصاً للاستهلاك، والتغرير ، أو ليحوز مكانةً ، ومنصباً من الخلافة الجديدة ، وإذاً فمن بدهيَّات الأمور ، وأوَّليَّاتها أن ليس ثمَّة حقدٌ ، أو بغضاء في قلب أحدهما على الاخر ، وإذا حدث شيءٌ فإنَّما هو من أجل الحقِّ ، وصالح المسلمين، ويندرج تحت فقه النَّصيحة ، وأدابها وتأديب الخليفة لرعيَّته ، وأمَّا ما زعم الإماميَّة ، ومن سار على نهجهم من أنَّ عثمان ضرب ابن مسعود حتَّى مات ، فهذا كذبٌ باتِّفاق أهل العلم ، قال أبو بكر بن العربيِّ : وأمَّا ضربه لابن مسعود ، ومنعه عطاءه ؛ فزورٌ.
فلا وجهة للرَّافضة بالطَّعن على عثمان بقصَّة ابن مسعودٍ هذه ، فإنه لم يضربه عثمان ، ولم يمنعه عطاءه ، وإنَّما كان يعرف له قدره ، ومكانته ، كما كان ابن مسعود شديد الالتزام بطاعة إمامه ؛ الّذي بايع له ، وهو يعتقد : أنَّه خير المسلمين وقت البيعة.
سابعاً : فَهْمُ الصحابة لآيات النَّهي عن الاختلاف :
قال تعالى : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} [الأنعام : 153 ] فالصِّراط المستقيم هو: القرآن ، والإسلام ، والفطرة الّتي فطر الله النَّاس عليها ، والسُّبل هي : الأهواء ، والفرق ، والبدع ، والمحدثات ، قال مجاهد : {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} ، يعني : البدع ، والشُّبهات ، والضلالات.
ونهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذه الأمَّة عمَّا وقعت فيه الأمم السَّابقة من الاختلاف، والتَّفرُّق من بعد ما جاءتهم البيِّنات ، وأنزل الله إليهم الكتب ، فقال سبحانه : {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [آل عمران : 105 ] .
ونهى الأمَّة أن تكون من المشركين ، الّذين فرَّقوا دينهم ، وكانوا شيعاً ، فقال عزَّ من قائل : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ*} [الروم: 30ـ32].
وأخبر سبحانه وتعالى : أنَّ الرَّسول (ﷺ) بريءٌ من الّذين يفرِّقون دينهم ، ويكونون شيعاً ، وأحزاباً، قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} [الأنعام : 159 ] .
ويظهر من قصَّة جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه مدى فهم الصَّحابة رضي الله عنهم لآيات النَّهي عن الاختلاف ، حيث إنَّ الله نهى عن الاختلاف وحذَّر منه ، فلعمق فهمهم لهذه الآيات ارتعد حذيفة رضي الله عنه عندما سمع بوادر الاختلاف في قراءة القرآن ، فرحل فوراً إلى المدينة النَّبويَّة، وأخبر عثمان رضي الله عنه بما رأى، وبما سمع، فسرعان ما قام عثمان يخطب النَّاس ؛ يحذِّرهم من مغبَّة هذا الخلاف ، ويشاور الصَّحابة رضي الله عنهم في الحلِّ لهذه المحنة الّتي بدأت بالظُّهور، وفي مدَّةٍ قصيرةٍ يحسم الأمر، ويغلق باب الخلاف الّذي كاد أن ينفتح بجمع الصُّحف ، ونسخها في مصحفٍ واحدٍ من المصادر الموثوقة جدّاً ، وبإغلاق باب الفتنة هذا فرح المسلمون ، بينما اغتاظ المنافقون الّذين كانوا قد استبشروا ببوادر الخلاف الّتي كانوا ينتظرونها بفارغ الصَّبر ، ويسعون إلى تحقيقها ، ولمَّا حسم الخلاف ، ولم يجد أولئك طريقاً إلى استنهاضه ، ازداد حقدهم على عثمان رضي الله عنه ، وسعوا في التَّشنيع عليه وتصوير حسنته هذه سيئةً ، وتلمَّسوا في سبيل إثبات ذلك خيوط العنكبوت الواهية؛ ليطعنوا فيه ويسوِّغوا خروجهم عليه بها ، مظهرين للنَّاس : أنَّ هذه الحسنة سيئةٌ ، تستوجب الخروج عليه.
إن الصَّحابة رضي الله عنهم لم يتركوا كل قارئ على قراءته الصحيحة ، بل جمعوهم على قراءة واحدة ، فاجتمع شملهم وتوحد صفهم ، وهذا درس عظيم نستلهمه من دراستنا لتاريخ عهد الخلفاء الراشدين ، الحافل بالعبر والدروس ومواطن القدوة.
قال رسول الله (ﷺ) : « إنَّ الله يرضى لكم ثلاثاً : أن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم».
إنَّ طريق الاعتصام بحبل الله أن نلتزم بكتاب الله وسنَّة رسوله (ﷺ) ، وهذا الأصل من اكد الأصول في هذا الدِّين العظيم ، يقول ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ : وهذا الأصل العظيم : وهو الإسلام ممَّا عظمت وصيَّة الله تعالى به في كتابه ، وممَّا عظم ذمُّه لمن تركه من أهل الكتاب ، وغيرهم ، وممَّا عظمت به وصيَّة النَّبيّ (ﷺ) في مواطن عامَّةٍ ، وخاصَّةٍ .
ولذلك أمر الله تعالى ورسوله (ﷺ) بكلِّ ما يحفظ على المسلمين جماعتهم ، وألفتهم ، ونهيا عن كلِّ ما يعكِّر صفو هذا الأمر العظيم .
إنَّ ما حصل من فرقة بين المسلمين ، وتدابرٍ ، وتقاطع ، وتناحرٍ ، بسبب عدم مراعاة هذا الأصل وضوابطه ، ممَّا ترتب عليه تفرُّقٌ في الصُّفوف ، وضعفٌ في الاتحاد ، وأصبحوا شيعاً ، وأحزاباً ، كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون.
إنَّ وحدة المسلمين ، واجتماعهم مطلبٌ شرعيٌّ ، ومقصدٌ عظيمٌ من مقاصد الشَّريعة ؛ بل من أهم أسباب التَّمكين لدين الله تعالى ، ونحن مأمورون بالتَّواصي بالحقِّ ، والتَّواصي بالصَّبر ، فلابدَّ من تضافر الجهود بين الدُّعاة ، وقادة الحركات الإسلاميَّة ، وبين علماء المسلمين ، وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحاً حقيقيّاً لا تلفيقيّاً ، لأنَّ أنصاف الحلول تفسد أكثر ممَّا تصلح . قال الشَّيخ عبد الرَّحمن السَّعديُّ ـ رحمه الله ـ: الجهاد نوعان : جهاد يقصد به صلاح المسلمين ، وإصلاحهم في عقائدهم، وأخلاقهم ، وادابهم ، وجميع شؤونهم الدِّينيَّة ، والدُّنيويَّة ، وفي تربيتهم العلميَّة ، وهذا النَّوع هو الجهاد ، وقوامه ، وعليه يتأسَّس النَّوع الثَّاني ، وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الإسلام والمسلمين : من الكفَّار ، والمنافقين، والملحدين ، وجميع أعداء الدِّين ، ومقاومتهم . وهذا نوعان : جهاد بالحجَّة ، والبرهان ، واللِّسان ، وجهادٌ بالسِّلاح المناسب في كلِّ وقتٍ ، وزمانٍ.
ثمَّ أفرد فصلاً بعنوان: الجهاد المتعلِّق بالمسلمين بقيام الألفة، واتِّفاق الكلمة. وبعد أن ذكر الآيات، والأحاديث الدَّالَّة على وجوب تعاون المسلمين ، ووحدتهم قال: فإنَّ من أعظم الجهاد السَّعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين ، واجتماعهم على دينهم ، ومصالحهم الدِّينيَّة ، والدُّنيويَّة.
ولذلك نرى : أنَّ الأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين ، وتوحيد صفِّهم من أعظم الجهاد ؛ لأنَّ هذه الخطوة مهمةٌ جدّاً في إعزاز المسلمين ، وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربِّهم ، وهذا من فقه الخلفاء الرَّاشدين ، ويتجلَّى في أبهى صورة في جمع عثمان رضي الله عنه للأمَّة على مصحفٍ واحدٍ .

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022