الولايات والولاة في عهد عثمان بن عفان ٢
الحلقة الخامسة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
سابعاً : ولاية مصر :
كان والي مصر في خلافة عمر بن الخطَّاب هو عمرو بن العاص الّذي حكمها ما يقرب من أربع سنوات، وتوفي عمر وهو والٍ عليها ، وقد أقرَّه عثمان بن عفَّان في بداية خلافته لفترة من الوقت ، وكان يساعده في عمله في بعض نواحي مصر عبد الله بن أبي السَّرح، الّذي كان مصاحباً لعمرو بن العاص منذ أيام فتوحه في فلسطين حيث كان من ضمن قوَّاده ، واشترك معه في فتوح مصر، وقد عيَّنه عمر على بعض صعيد مصر بعد فتحها، ويبدو : أنَّ عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي السَّرح حدث بينهما خلافٌ في وجهات النَّظر ، فوفد عمرو بن العاص على عثمان بعد مبايعته بالخلافة ، وطلب منه عزل عبد الله بن سعد عن ولاية الصَّعيد ، فرفض عثمان ذلك ، وذكر له : أنَّ عمر هو الّذي ولَّى ابن أبي السَّرح ، وأنه لم يأت بما يوجب العزل ، فأصرَّ عمرٌو على عزله ، وأصرَّ عثمان على عدم موافقته ، ونتيجة لإصرار كلٍّ من الطَّرفين على رأيه ـ رأى عثمان أنَّ من الأصلح عزل عمرو عن مصر وتولية عبد الله بن أبي السَّرح مكانه، وهذا ما حدث بالفعل، وفي هذه الظُّروف قام الرُّوم بالإغارة على الإسكندرية ، والاستيلاء عليها ، وقتلوا جميع من فيها من المسلمين ، فرأى أمير المؤمنين تعيين عمرو على جيوش مصر لفتح الإسكندرية من جديدٍ ، والقضاء على جيش الرُّوم ، وتمَّ ذلك فعلاً وقد فصَّلت أحداثه في حديثي عن الفتوحات.
ثمَّ إن عثمان أراد أن يعيد عمراً على ولاية أجناد مصر ، وحربها ، وأن يجعل عبد الله بن سعد على الخراج ، إلا أنَّ عمراً رفض ذلك ، وتكاد الأخبار تندر عن ولاية عمرو في مصر خلال عهد عثمان رضي الله عنه سوى ما ورد من دوره في الجهاد ، سواءٌ في ردِّ الرُّوم ، وطردهم عن الإسكندريَّة وتثبيت الأمن في أنحاء مصر ، أو في قضايا الخراج الّتي دارت فيها بين عثمان وبين عَمْرٍو خلافاتٌ في الرَّأي، وبعد عزل عمرو بن العاص عن مصر مرَّةً أخرى ، أو عن ولاية الإسكندريَّة على أرجح الآراء، وبعد رفضه ما اقترحه عثمان رضي الله عنه من ولايته على الأجناد وولاية ابن أبي السَّرح على الخراج ، أقرَّ عثمان عبد الله بن أبي السَّرح مرَّة أخرى على مصر ، وأصبح هو الوالي الرَّسمي لمصر ، والمدير الفعلي لولاية مصر بأجنادها ، وخراجها، ومختلف شؤونها.
وقد كانت ولاية مصر في أول أمرها هادئةً مستقرَّةً ، إلى أن تمكَّن مثيرو الفتنة من أمثال عبد الله بن سبأ من الوصول إليها ، وإثارة النَّاس فيها ، فكان لهم وللمتأثِّرين بهم دورٌ كبيرٌ في مقتل عثمان رضي الله عنه، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل ذلك .
ثامناً : ولاية البصرة :
استشهد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وواليه على البصرة أبو موسى الأشعريُّ، وكان المجتمع البصري في تلك الفترة قد بدأ يشهد تغيرات أساسية في بنيته السُّكَّانيَّة والاجتماعيَّة ، حيث أصبحت البصرة من أكبر المعسكرات الإسلاميَّة، إذ هاجر إليها العديد من القبائل ، وقام جندها بفتح الكثير من المواقع ، وبالتَّالي اكتسبت أهمِّيَّةً خاصَّةً في بداية عهد عثمان، وقد انشغل النَّاس بأمورهم الخاصَّة إضافةً إلى الأمور العامَّة من جهادٍ ، وغيره ، وبالتَّالي فإنَّ الولاية على مثل هذه المنطقة، وكذلك ما يتَّبعها من أقاليم أخرى تعتبر مهمَّة ليست باليسيرة، وتتطلَّب درايةً خاصَّةً بإدارة أحوال تلك الولاية، ولعلَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كان يحسُّ بمقدرة أبي موسى الخاصَّة على إدارة تلك الولاية ، حيث أوصى الخليفة بعده أن يترك أبا موسى في الولاية من بعده أربع سنوات بعد وفاته.
وقد كانت فترة ولاية أبي موسى للبصرة فترة جهادٍ ، وكفاح برز فيها دور أهل البصرة ، كما برز فيها أبو موسى رضي الله عنه بفتح العديد من المواقع في بلاد فارس ، إضافة إلى تثبيته لأقدام المسلمين في المواقع المفتوحة سابقاً ، والّتي حاول أهلها الانتقاض بعد وفاة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ، فقام أبو موسى بغزوهم، وتثبيت الإسلام في تلك الرُّبوع، وبالإضافة إلى دور أبي موسى في الفتوح فإنَّه قام بدورٍ مهمٍّ في تنظيم الرَّيِّ ، وحفر القنوات ، والأنهار في البصرة أثناء ولايته زمن الخليفة عثمان ، وقد قام بحفر قناةٍ لجلب مياه الشرب إلى البصرة اعتمد عليها النَّاس بعد ذلك في شربهم ، كما بدأ في مشاريع لحفر قنواتٍ أخرى ، إلا أنَّ عزله عن الولاية حال دون إتمامها، فقام خليفته عبد الله بن عامر بإتمامها، ولم تستمرَّ ولاية أبي موسى على البصرة طويلاً ، إذ قام عثمان بعزله سنة 29هـ كما ترجِّح معظم الرِّوايات ـ وعيَّن مكانه عبد الله بن عامر بن كريز.
ويورد المؤرِّخون عدَّة رواياتٍ حول عزل أبي موسى ، نستخلص منها : أنَّ هناك مشكلةً قامت بين أبي موسى وبين جند البصرة ، اختُلف في سببها ، وقد قدِمت مجموعةٌ من أهل البصرة إلى عثمان تحرِّضه على عزل أبي موسى قائلين له : ما كل ما نعلم نحبُّ أن تسألنا عنه فأبدلنا سواه ، قال عثمان : من تحبُّون ؟ فقالوا في كلِّ أحد عوضٌ عنه ، وطلب قومٌ من عثمان أن يولِّي عليهم قرشيّاً، فعزل عثمان أبا موسى ، وولَّى مكانه عبد الله بن عامر ، وهنا تتجلَّى لنا حكمة أبي موسى ، وسعة صدره ، وطاعته لأمر الخليفة ، وأنَّه لم يكن يحرص على الولاية كما يظنُّ البعض ، فحينما بلغه عزله ، وتولية عبد الله بن عامر مكانه ، صعد المنبر، وأثنى على عبد الله بن عامر ـ وكان شابّاً صغيراً عمره 25 سنة ـ وكان ممَّا مدحه به أبو موسى قوله : قد جاءكم غلامٌ كريمُ العمَّات ، والخالات ، والجدَّات في قريشٍ ، يفيض عليكم المال فيضاً.
لقد استطاع عثمان رضي الله عنه في تلك الظُّروف الصَّعبة الّتي تمرُّ بها ولاية البصرة أن يعيِّن قائداً جديداً يستجيب له الأجناد ، وبالتَّالي توحَّدت صفوفهم أمام الأعداء ، فضلاً عن أنَّ هذا العزل تكريمٌ لأبي موسى من أن يهان من قبل بعض العوامِّ ممَّن تأثَّروا بالغوغاء ، وأفكار المتمرِّدين المنحرفة ممَّن حملوا في نفوسهم كراهيته ، والتَّشهير به ، والتفُّوا عليه، وقد كانت ولاية البصرة تمرُّ بظروفٍ صعبةٍ حينما تولَّى ابن عامر ، ممَّا دفع عثمان رضي الله عنه إلى إجراء تغيير أساسيٍّ في إدارة الولاية ؛ إذ إنَّه ضمَّ أجناد البحرين وعمان إلى ابن عامر في البصرة حتَّى يعطيه سلطةً أقوى للوقوف أمام التَّحدِّيات الّتي تواجهه في تلك الفترة.
وقد كان لهذا الدَّمج أثره الكبير على قوَّة ابن عامرٍ ، ونفوذه ، كما أنَّه أثَّر من ناحيةٍ أخرى على البصرة نفسها ، حيث أصبحت إحدى العواصم الإسلاميَّة المستقرَّة ، وزادت هجرة القبائل إليها أكثر من ذي قبل، وبالتَّالي زادت أعباء الولاية سواءٌ في الدِّيوان ، أو في تنظيم مختلف شؤون الولاية : الإداريَّة ، والماليَّة، والأمنيَّة ، وغيرها.
وقد كانت لولاية البصرة ، وأجنادها ، ولابن عامرٍ نفسه فتوحٌ عظيمةٌ بدأت بعد ولايته مباشرةً ، وانتهت قبيل مقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه. وقد تمَّ بيانها عند حديثنا عن فتوحات عثمان رضي الله عنه ، وقد اكتسبت البصرة أيَّام ابن عامر مكانةً خاصةً بين الولايات الإسلاميَّة لفتت نظر الخليفة عثمان رضي الله عنه نتيجة فتوحها ، وتوسعها في مختلف المجالات ، فأصبحت مركزاً إداريّاً مرموقاً، وتدار منها العديد من المناطق الإسلاميَّة ، وكان ابن عامر مسؤولاً عن توزيع الأمراء في مختلف المناطق التَّابعة لولايته باتِّفاقٍ مسبقٍ مع الخليفة عثمان ، رضي الله عنه ، وبالتَّالي كانت مسؤوليَّاته عظيمةً ، وقد قام ابن عامر بتوزيع الأمراء على المناطق التَّابعة له بمجرَّد أن تولَّى الإمارة حيث اختار بعض القوَّاد ، والأمراء ، وعيَّنهم على تلك المناطق ، ومن أهمِّها : عُمان ، والبحرين ، وسجستان، وخراسان ، وفارس ، والأهواز ، بما في هذه المناطق من مدنٍ مختلفةً، ومناطق شاسعةٍ، وكان يُجري تنقُّلاتٍ بين هؤلاء الأمراء ، والعمَّال من وقتٍ لآخر تبعاً للمصلحة في ذلك ، كما اشتهرت البصرة في أيَّامه ببيت مالها ؛ الّذي زاد دخله في أيَّامه ، وكثرت مصروفاته، وكان المسؤول عن بيت المال في أيَّام عمر زياد بن أبي سفيان ، وقد كان يلي بعض المشاريع من حفرٍ للأنهار ، وغيرها نيابةً عن ابن عامر، وفي ولاية ابن عامر ضربت الدَّراهم في أنحاء فارس التَّابعة لولايته ، وعليها ألفاظ عربيَّةٌ في الفترة من سنة 30 هـ حتى 35 هـ.
وقد كان ابن عامر محبوباً لأهل البصرة عموماً منذ قدومه إليها ، ورغم ما أثير حوله من أنَّ عثمان ولاه ، لأنَّه قريبٌ له ، إلا أنَّ أهل البصرة تمسَّكوا به.
ومن خلال هذا العرض تبيَّن : أن ولاية البصرة في عهد عثمان انحصرت بين رجلين هما أبو موسى الأشعريُّ ، وعبد الله بن عامر ، ولقد كان لكلا الواليين دوره الرَّئيسيُّ في ضبط أمور البصرة ، وما يتبعها.
تاسعاً : ولاية الكوفة :
كان على ولاية الكوفة حين بويع عثمان بالخلافة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وكان قد تولَّى في أواخر عهد عمر رضي الله عنه، وقد قام عثمان رضي الله عنه بعزل المغيرة عن الكوفة وتعيين سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه مكانه، وقد ذكر في سبب العزل : أنَّه كان بوصية من عمر رضي الله عنه ، حيث أوصى الخليفة من بعده أن يستعمل سعداً ؛ نظراً لأنَّ عمر عزله عن الكوفة في أواخر خلافته ، وقال : إنِّي لم أعزله عن سوءٍ ، ولا خيانةٍ ، وأوصي الخليفة بعدي أن يستعمله، تولَّى سعد بن أبي وقاص على الكوفة ، وكان قرار التَّعيين مشتركاً بين سعد بن أبي وقَّاص ، وعبد الله بن مسعود ، سعدٌ على الصَّلاة والجند ، وابن مسعود على بيت المال، وقد كان سعد بن أبي وقَّاص صاحب خبرةٍ في ولاية الكوفة ، وله معرفةٌ تامَّةٌ بأمورها وسكَّانها ، وثغورها ، وأجنادها ؛ نظراً لأنَّه كان مؤسِّسها في عهد عمر ، كما أنَّه وليها عدَّة سنوات ، فكان أخبر النَّاس بها ، وأعلمهم بأحوالها.
ومن الأعمال الّتي قام بها سعدٌ أثناء ولايته في عهد عثمان على الكوفة قيامه بزيارة بعض الثُّغور التَّابعة للكوفة ، ومنها ( الرَّيُّ ) وترتيب أمورها ، وضبطها سنة 25هـ، وكذلك قيامه بتعيين بعض الأمراء ، والعمَّال الجدد في ( همذان ) وما حولها، ولم تطل فترة ولاية سعد بن أبي وقَّاص على الكوفة ؛ إذ حدث بينه وبين عبد الله بن مسعود خلافٌ ، وكان ابن مسعود على بيت المال ، فاقترض منه سعد شيئاً من الأموال إلى أجلٍ ، فجاء الأجل ، ولم يكن عند سعدٍ ما يسدُّ به ذلك القرض ، فجاءه ابن مسعود يطالبه بتسديد ذلك القرض ، فاشتدَّا في الكلام ، واجتمع حولهما الناس ، فقرَّر عثمان عزل سعد ، وإبقاء ابن مسعودٍ ، فكانت عقوبة سعد العزل ، وعقوبة ابن مسعود الإقرار في العمل كما يقول الطَّبري.
وهذه القصَّة تدلُّنا على تورُّع كلا الصَّحابيين ، وتدلُّ على حاجة سعدٍ إلى المال ، وعدم وجود ما يكفيه ، وأنَّه ـ لذلك ـ اضطر إلى الاقتراض من بيت المال ، كما تدلُّ على اجتهاد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في حفظ أموال المسلمين ، وإصراره على استرداد القرض من سعدٍ والي الكوفة ، وحاكمها ، وكانت ولاية سعدٍ على الكوفة سنةً ، وشهراً، وبعد عزل سعد ولَّى عثمان على الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط الّذي كان قبل تعيينه على الكوفة قد عمل قائداً لجيش من جيوش أبي بكر في الأردن ، ثمَّ عمل لعمر على عرب الجزيرة.
وفي أواخر خلافة عمر، وأوائل خلافة عثمان كان الوليد أحد قوَّاد أجناد الكوفة، وقام بالجهاد في العديد من المواقع قائداً لتلك الأجناد، فكان قبل تعيينه على ولاية الكوفة صاحب خبرةٍ بالكوفة ، وأجنادها ، وثغورها ومختلف شؤونها ، وكعادة الخلفاء الراشدين في تفضيل أصحاب الخبرة في المنطقة على غيرهم عند الحاجة إلى تعيين ولاةٍ جدد ، فقد وقع اختيار عثمان رضي الله عنه على الوليد بن عقبة لولاية الكوفة ، وكثيرٌ ممَّن كتبوا عن تعيين عثمان رضي الله عنه للوليد سواءٌ من المتقدِّمين ، أو من المتأخِّرين حاولوا اتِّهام عثمان في هذا التعيين ، فهم يقولون : إنَّ عثمان استعمل على الكوفة أخاه لأمِّه الوليد بن عقبة ، وهذا فيه غمزٌ مباشرٌ لعثمان رضي الله عنه، وفي بداية ولاية الوليد كان يشترك معه عبد الله ابن مسعودٍ ، حيث كان والياً على بيت المال؛ إلا أنَّ خلافاً حدث بين الوليد ، وعبد الله بن مسعودٍ ، على أمرٍ يتعلَّق بأموال الدَّولة ، ورفع النِّزاع إلى عثمان ليفصل فيما يراهُ ، فرأى عثمان رضي الله عنه أنَّ من المصلحة توحيد الولاية ، وبيت المال في يد الوليد ، وعزل عبد الله بن مسعودٍ ، وقد اعتقد : أنَّ المصلحة العامَّة تقتضي ذلك الضَّمَّ.
وقد بقي الوليد بن عقبة في الكوفة محبوباً من أهلها ، ليس على داره بابٌ، يستقبل الناس في مختلف الأوقات ؛ ليحلَّ مشكلاتهم ، ويقوم بالواجبات الملقاة عليه، إلى أن وقعت بعض الحوادث في الكوفة أوجدت بعض الحاقدين عليه بسبب موقفه الحازم في قضيَّة ابن الحيسمان الخزاعيِّ ؛ الّذي قتله مجموعةٌ من شباب الكوفة ، فأقام الوليد بن عقبة بأمرٍ من عثمان رضي الله عنه حدَّ القصاص على هؤلاء الشباب المعتدين ، ومنذ تلك الحادثة : أخذ أولياء هؤلاء المجرمين ، وأقاربهم يروِّجون الشَّائعات على الوليد بن عقبة ، ويحاولون جاهدين أن يتصيَّدوا أخطاء الوليد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، واستطاع أولئك الموتورون تلفيق قضيَّةٍ ضدَّ الوليد ، وهي دعوى شربه الخمر ، الّتي سبَّبت إقامة الحد عليه ، وعزله عن ولاية الكوفة ، وهذا ما أراده المتآمرون، وسيأتي تفصيل قضيَّة شرب الوليد بن عقبة للخمر عند حديثنا عن ولاة عثمان رضي الله عنه بإذن الله تعالى .
وبعد عزل الوليد أرسل عثمان إلى أهل الكوفة كتاباً جاء فيه : من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة ، سلامٌ ، أمَّا بعد : فإنِّي استعملت عليكم الوليد بن عقبة حتَّى تولت منعته، واستقامت طريقته، وكان من صالحي أهله، وأوصيته بكم ، ولم أوصكم به ، فلمَّا بدا لكم خيرهُ ، وكف عنكم شرَّه ، وغلبتكم علانيته؛ طعنتم به في سريرته ، والله أعلم بكم ، وبه ، وقد بعثت عليكم سعيد بن العاص أميراً.
وكانت شكاية أهل الكوفة للوليد وعزله حلقةً في سلسلةٍ طويلة من الشكايات ، والعزل من قِبَلِ بعض أهل الكوفة لأمرائهم، وقد غضب الكثير من أهل الكوفة لعزل الوليد ، وبعد عزل عثمان رضي الله عنه للوليد عن ولاية الكوفة عيَّن بعده سعيد بن العاص سنة 30 هـ الّذي كان مقيماً في المدينة ، فاتَّجه إلى الكوفة ، ورافقه وفدٌ من أهل الكوفة الّذين قدموا على عثمان في شكاية الوليد ، وكان فيهم الأشتر النَّخعيُّ ، وغيره، فلمَّا وصل سعيد الكوفة ، صعد المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه، ثم قال : والله لقد بعثت إليكم ، وإنِّي لكارهٌ ! ولكنِّي لم أجد بُدّاً ؛ إذ أمرت أن أأتمر ، ألا إنَّ الفتنة قد أطلعت خطمها ، وعينيها ، والله لأضربنَّ وجهها حتَّى أقمعها ، أو تعييني ، وإنِّي الرَّائد نفسي اليوم . ثمَّ نزل عن المنبر.
ومن خلال هذه الخطبة يتبيَّن لنا معرفة سعيد ببدايات الفتنة ، وإرهاصاتها الّتي بدأت تظهر في الكوفة قبل ولايته ، وتهديده لأصحاب الفتنة ، وعزمه على القضاء على الفتنة الّتي استشعر بدايتها في الكوفة، واستطاع سعيد بن العاص أن ينظِّم أمور ولايته ، ويعيِّن الأمراء ، والولاة في مختلف الثُّغور التَّابعة للكوفة ويضبط أمورها، وقام بغزوات ناجحةٍ تمَّ ذكرها عند حديثنا عن الفتوحات في عهد عثمان ، ثمَّ بدأت الفتنة تطلُّ برأسها في الكوفة سنة 33 هـ ، وسيأتي الحديث عنها ـ بإذن الله تعالى ـ بالتفصيل ، ودبَّر الأشتر النَّخعيُّ مؤامرةً ضدَّ سعيد بن العاص ، وانخدع بها بعض عوامِّ الكوفة ، فقاموا مع الأشتر في رفض ولاية سعيدٍ ، والطَّلب من عثمان إبداله بغيرهِ ، ولم يكن سعيد سوى والٍ من الولاة الّذين سبق لأهل الكوفة أن اعترضوا عليهم ، وطلبوا عزلهم قبل ذلك كسعد بن أبي وقاص ، والوليد بن عقبة ، وغيرهم ، وكان طلب خلعه مقروناً بثورةٍ حمل الغوغاء فيها السِّلاح ، وهي سابقةٌ خطيرةٌ في تاريخ الكوفة ، بل وفي تاريخ الدَّولة الإسلاميَّة كلِّها ، وليس فيها سببٌ حقيقي ، وإنَّما السَّبب الحقيقيُّ هو تطور الأوضاع ، والتَّغيُّر الّذي طرأ على نفوس الناس بتأثير دعاة الفتنة ، والخروج على عثمان ، وقد أصدر الخليفة عثمان رضي الله عنه أمراً بتولية أبي موسى الأشعريِّ على الكوفة ، وعزل سعيد بن العاص بناءً على طلب بعض أهل الكوفة ، وقد استهلَّ أبو موسى ولايته بخطبةٍ أمام أهل الكوفة ، قال فيها : أيُّها النَّاس ! لا تنفروا في مثل هذا ، ولا تعودوا لمثله ، الزموا جماعتكم ، والطَّاعة ، وإيَّاكم والعجلة ! اصبروا ، فكأنَّكم بأميرٍ . قالوا : فَصَلِّ بنا . قال: لا إلا على السَّمع والطَّاعة لعثمان بن عفَّان ، قالوا : على السَّمع ، والطَّاعة لعثمان.
وقد كتب عثمان إلى أهل الكوفة : بسم الله الرحمن الرَّحيم : أما بعد فقد أمَّرت عليكم من اخترتم ، وأعفيتكم من سعيدٍ ، ووالله لأفرشنَّكم عرضي ، ولأبذلن لكم صبري ، ولأستصلحنكم بجهدي ! فلا تدعوا شيئاً أحببتموه ، لا يُعصى الله فيه إلا سألتموه ، ولا شيئاً كرهتموه ، لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه ، أنزل فيه عندما أحببتم ؛ حتَّى لا يكون لكم عليَّ حجَّةٌ.
وقد استمرَّ أبو موسى رضي الله عنه والياً على الكوفة حتَّى قتل عثمان رضي الله عنه، وهكذا نجد أنَّ ولاية الكوفة في خلافة عثمان رضي الله عنه قد تولَّى عليها خمسةُ ولاةٍ ابتداءً بالمغيرة بن شعبة ، وانتهاءً بأبي موسى الأشعريِّ ، وقد حفلت فترة الولاية لكلٍّ من هؤلاء الخمسة بالعديد من الحوادث الّتي برزت على ساحة الأحداث ، وكان لها تأثيرٌ مباشرٌ على مسيرة الدَّولة الإسلاميَّة ، وقد نمت الفتنة في الكوفة ، واشتهر عن أهلها تسلُّطهم على ولاتهم ، ورفضهم لهم في كثير من الأحيان مهما استرضوهم ، فقد شكوا سعد بن أبي وقَّاص ، وشكوا الوليد بن عقبة ، وطردوا سعيد بن العاص ، ولعلَّنا نتذكَّر هنا : أنَّهم أتعبوا عمر قبل عثمان ؛ حتَّى قال فيهم : من عذيري من أهل الكوفة ؟!
وقد كان لبعض أهل الكوفة دورٌ مباشرٌ ، ورئيسيٌّ في مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه . وجديرٌ بالذِّكر : أنَّه كانت هناك بعض الولايات المتفرِّعة من ولاية الكوفة كطبرستان ، وأذربيجان ، وبعض المناطق الأخرى شمالي بلاد فارس، وممَّا يؤيِّد ارتباطها بالكوفة : أنَّ ولاة الكوفة ، ومنهم سعيد بن العاص هم الّذين كانوا يتولَّون الفتوح في نواحيها ، كما كانوا يؤدِّبون أهلها في حال عصيانهم ، وقد لعبت هذه الولايات الفرعيَّة دوراً مرتبطاً بدور الكوفة أيضاً إلى حدٍّ كبير.
ومن خلال العرض السَّابق للولايات الإسلاميَّة في عهد عثمان يتبيَّن لنا أنَّ هناك ولاياتٍ تمتَّعت بالاستقرار طيلة عهد عثمان رضي الله عنه ، ومنها الولايات الواقعة في بلاد العرب ، كالبحرين ، واليمن ، ومكَّة ، والطَّائف ، وغيرها ، كما تمتَّعت الشَّام بالاستقرار أيضاً طيلة خلافة عثمان رضي الله عنه ، وأمَّا البصرة فقد شغل أهلها بالفتوح مع واليهم عبد الله بن عامرٍ ، وأمَّا مصر ، والكوفة فقد حدث فيهما الاضطراب في أواخر خلافة عثمان وبالتَّالي ولدت فيهما الفتنة ، وأقدم أناسٌ من أهلها على غزو المدينة ، وعلى قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه بدلاً من غزو أعداء الإسلام.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf