الولايات والولاة في عهد عثمان بن عفان
الحلقة الرابعة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
أولاً : مكَّة المكرَّمة :
توفي عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وواليه على مكَّة خالد بن العاص بن هشام ابن المغيرة المخزوميُّ، وقد أبقاه عثمان رضي الله عنه فترةً من الوقت يصعب تحديدها ، ثمَّ قام بعزله ، ولم ترد أخبار عن سبب ذلك إضافةً إلى صعوبة تحديد أهمِّ أعماله ، وقد قام عثمان رضي الله عنه بعد عزله بتولية عليِّ بن ربيعة بن عبد العزَّى، ثمَّ قام عثمان رضي الله عنه بعد ذلك بتولية مجموعةٍ من الأمراء على مكَّة يصعب تحديد فترات ولايتهم ، منهم عبد الله بن عمرو الحضرميُّ ، الّذي كان أحد عمَّال عثمان على مكَّة ، كما أنَّ النُّصوص تثبت : أنَّ عثمان رضي الله عنه قد أعاد خالد بن العاص بن هشام على مكَّة مرَّة أخرى ، وتؤكِّد بعض المصادر: أنَّ عثمان توفي وخالدٌ على مكة ، فقام عليٌّ رضي الله عنه بعزله ، وتولية غيره.
وهذه الرِّواية على مايبدو أثبت من الرِّوايات الّتي تذكر : أنَّ عبد الله بن الحضرميِّ هو الوالي على مكَّة حين قتل عثمان.
وقد تميَّزت مكَّة في عهد عثمان بالهدوء المستمرِّ رغم ما وقع في بعض الأمصار من فتنةٍ في أواخر عهد عثمان.
ثانياً : المدينة النَّبويَّة :
تعدُّ المدينة المنوَّرة من أهمِّ المدن الإسلاميَّة في عهد عثمان ، وبها مركز الخلافة، وإليها تفد الوفود من مختلف الأمصار ، والأجناد الإسلاميَّة ، ويقيم بها كثيرٌ من شيوخ الصَّحابة من المهاجرين ، والأنصار ، وبذلك تكتسب أهميَّة خاصَّةً، وقد كان عثمان بحكم خلافته مقيماً بها ، ويتفقَّد أحوالها حتَّى إنَّه كان يسأل عن أسعار المواد الغذائيَّة ، وعن أخبار النَّاس، وكان عثمان رضي الله عنه إذا سافر إلى الحجِّ يستخلف أحد الصَّحابة على المدينة حتَّى يرجع ، وكثيراً ما كان يستخلف زيد بن ثابت رضي الله عنه.
وكان في المدينة بيت مالٍ ، وديوانٌ للأعطيات كغيرها من الأمصار ، وتعتبر المدينة من أكثر الأمصار الإسلاميَّة هدوءاً خلال عصر عثمان سوى ما حدث في أيَّامه الأخيرة من اضطراب الأحوال فيها بعد وصول جيوش الفتنة، وحصار عثمان، وخروج بعض كبار الصَّحابة منها.
ثالثاً : البحرين ، واليمامة:
توفي عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص الثَّقفيُّ ، فأقرَّه عثمان عليها فترةً من الوقت ، وتدلُّ الرِّوايات على أَنَّ عثمان بن أبي العاص كان على ولاية البحرين بعد مبايعة عثمان بثلاث سنين ؛ أي : سنة 27 هـ بدليل مشاركته بجيشه مع جيش البصرة في بعض الفتوح، ويبدو : أنَّ التعاون الّذي بدأ بين ولاية البحرين وولاية البصرة في عهد عمر أخذ يشتدُّ ، ويقوى في عهد عثمان، خصوصاً بعد تولية ( عبد الله بن عامر بن كريز ) على البصرة ، حيث أصبح عامل البحرين أحد القواد التَّابعين لعبد الله بن عامر والي البصرة ، كما أنَّ النُّصوص التَّاريخيَّة تفيد تبعية ولاية البحرين للبصرة ـ إلى حدٍّ ما ـ واندماجها معها بحيث أصبح ابن عامر يعيِّن العمَّال عليها من قبله.
ويؤكِّد أحد الباحثين هذا التَّعاون في قوله : وفي زمن الخليفة عثمان بن عفَّان ألحقت البحرين بالبصرة عندما أصبحت الأخيرة قاعدةً لفتوح فارس ، وجنوب إيران، فصار ولاتها تابعين لأمير البصرة ، وقد عزَّز هذا صلة البصرة بالبحرين ، ووثَّقها، وقد ذُكر من ولاة عثمان على البحرين : مروان بن الحكم ، وعبد الله بن سوار العبديُّ، وقد توفِّي عثمان وعبد الله على البحرين ، وقد كان للبحرين في أيام عثمان دورٌ كبيرٌ في بعث الأجناد لفتوح شرق فارس ، كما كان لواليها عثمان بن أبي العاص دورٌ كبيرٌ في تلك الفتوح.
وقد كانت الأوضاع داخل البحرين مستقرةً حتَّى وفاة عثمان ، وأمَّا اليمامة فقد كانت في عهد عمر رضي الله عنه تابعةً لولاية البحرين ، وعمان إلى حدٍّ كبير ، بل إنَّ والي البحرين هو الّذي كان يبعث عليها الأمراء أحياناً ، أمَّا في عهد عثمان رضي الله عنه فالّذي يبدو أنَّ اليمامة كان عليها والٍ من قبل عثمان مباشرةً ، وقد ورد ذكره في أحداث الفتنة بعد مقتل عثمان مباشرة ؛ إذ وصلته بعض الكتب في تلك الفترة ممَّن غضبوا لمقتل عثمان.
رابعاً : اليمن ، وحضرموت :
توفي عمر رضي الله عنه وعامله على اليمن ( يعلى بن مُنْيَة ) وكان في طريقه إلى المدينة بناءً على طلب عمر ؛ إذ جاءه كتاب من عثمان يخبره بوفاة عمر ، وبيعة النَّاس لعثمان ، واستعماله من قِبَل عثمان على صنعاء ، فاستمرَّ على صنعاء إلى وفاة عثمان ، رضي الله عنه، وكان على مدينة الجند عبد الله بن ربيعة الّذي استمرَّ والياً عليها طيلة عهد عثمان رضي الله عنه.
ويبدو : أنَّ هناك ولاةً آخرين كانوا على بقيَّة مدن اليمن ، ولكنَّ المصادر الرَّئيسية ركزت على هذين الواليين في الغالب ، كما أنَّ المصادر لم تفصِّل القول في أحداث اليمن خلال عصر عثمان ، كما يقلُّ إيرادها للمراسلات بين عثمان وولاته في اليمن سوى ما ذكره من أوامر عامَّة مرسلةٍ لكافة الولاة، وقد اشتهر عن أهل اليمن خلال عصر عثمان طاعتهم ، وانقيادهم لولاتهم ؛ يدلُّ على ذلك ما روي من أنَّ عثمان رضي الله عنه بعث رجلاً ثقفيّاً إلى اليمن ، فلمَّا عاد سأله عثمان عن أهلها ، فقال : رأيت قوماً ما سئلوا أعطوا حقّاً كان ، أو باطلاً، ومن المعروف: أنَّ العديد من القبائل اليمنيَّة هاجرت خلال الفتوح في أيَّام عمر بن الخطاب إلى الأمصار الإسلاميَّة الجديدة سواءٌ في العراق ، أو مصر ، أو الشام ، وبالتَّالي فإنَّ صلات اليمن، وأهلها بهذه الأمصار كانت مستمرة ، كما أنَّ الهجرات ـ ولو بشكل فرديٍّ من اليمن إلى بقيَّة الأمصار ـ لم تتوقَّف طيلة عهد عثمان ، حيث نجد لأناسٍ من يهود اليمن دوراً خطيراً في أحداث الفتنة الّتي قامت أواخر عهد عثمان ، واستشهد فيها عثمان رضي الله عنه ، وعلى رأس هؤلاء الوالغين في الفتنة (عبد الله بن سبأ)، وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه ترك اليمن عددٌ من ولاتها، وقدموا إلى الحجاز للمشاركة فيما يجري من أحداث، ومنهم يعلى بن مُنْيَة، وعبد الله بن ربيعة.
خامساً : ولاية الشَّام :
حينما جاء عثمان إلى الخلافة كان معاوية رضي الله عنه والياً على معظم الشَّام ، فأقرَّه عثمان عليها، كما أقرَّ بعض الولاة الآخرين على ولاياتهم ، كاليمن، والبحرين، ومصر ، وغيرها من الولايات ، وقد تطوَّرت الأحداث ، وضُمَّت إلى معاوية بعض المناطق الأخرى حتَّى أصبح معاوية هو الوالي المطلق لبلاد الشَّام ، بل أصبح أقوى ولاة عثمان ، وأشدَّهم نفوذاً ، وقد كان في بداية خلافة عثمان ولاةٌ آخرون؛ منهم : عمير بن سعدٍ الأنصاريُّ ، وكان على حمص ، وينافس معاوية بن أبي سفيان في المكانة لدى عثمان رضي الله عنه إلا أن عميراً مرض مرضاً أعياه عن القيام بأعباء الولاية ، فطلب من الخليفة عثمان أن يعفيه ، فأعفاه ، وضم ولايته إلى معاوية بن أبي سفيان ، وبذلك زاد نفوذ معاوية ، فامتدَّ إلى حمص الّتي ولي عليها من قبله عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، كما توفي علقمة بن محرز ، وكان على فلسطين، فضمَّ عثمان ولايته إلى ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، فاجتمعت الشَّام لمعاوية بعد سنتين من خلافة عثمان رضي الله عنه ، وأصبح الوالي المطلق فيها طيلة السَّنوات الباقية من خلافة عثمان حتَّى توفي عثمان وهو عليها كما هو معروفٌ.
وقد كانت فترة ولاية معاوية على الشَّام مليئةً بالأحداث ، كانت الشَّام من أهم مناطق الجهاد ، ومع أنَّ الشَّام في داخلها قد استقرَّت أوضاعها ، وسادها الإسلام ، وقلَّت محاولات الرُّوم إثارة القلاقل فيها ، إلا أنَّ الشام كانت متاخمةً لأرض الرُّوم، وبالتَّالي كان المجال مفتوحاً أمام معاوية للجهاد في تلك النَّواحي ، وقد تحدَّثنا عنها فيما مضى .
وقد كان لمعاوية ثقله السِّياسيُّ في الدَّولة الإسلاميَّة أواخر خلافة عثمان ، رضي الله عنه ؛ إذ كان ضمن الولاة الّذين جمعهم عثمان ليستشيرهم ، حين بدأت ملامح الفتنة تلوح في الأفق ، كما ظهرت له آراءٌ خاصَّةٌ في هذا الاجتماع ، وجَّهها إلى عثمان، وسيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى .
سادساً : أرمينية :
بدأت الجيوش الإسلاميَّة بالتوجُّه إلى أرمينية لأوَّل مرَّة في عهد عثمان ، رضي الله عنه ، حيث توجَّه أوَّل جيش إسلاميٍّ إلى تلك المنطقة من بلاد الشَّام ـ وهي من أقرب الولايات إليها ـ يقوده حبيب بن مسلمة الفهريُّ ، وقوامه حوالي ثمانية آلاف مقاتل ، واستطاع هذا الجيش أن يفتح العديد من المواقع في أرمينية ، إلا أنَّه أحسَّ بالخطر نتيجة تجمُّع حشود من الرُّوم لمساعدة الأرمن في حروبهم ضدَّ المسلمين، فطلب المساعدة من الخليفة الّذي أمر بتسيير جيشٍ من الكوفة قوامه ستة آلاف رجلٍ تقريباً ، ويقوده سلمان بن ربيعة الباهليُّ، وقد حدث نزاعٌ بعد ذلك بين حبيب بن مسلمة ، وسلمان بن ربيعة ، وقف الخليفة عثمان عليه ، فقام بالكتابة إلى القوم ، وحلَّ المشكلة الّتي بينهما، ويبدو : أنَّ سلمان بن ربيعة تولَّى قيادة الجيوش الإسلاميَّة حيث كتب إليه عثمان بإمرته على أرمينية، ثمَّ توغَّل سلمان بن ربيعة في أرمينية ثمَّ بلاد ( الخزر ) فاتحاً ، ومنتصراً ، حتَّى وقعت معركةٌ حاميةٌ بين جيشه ، وقوامه عشرة آلاف رجلٍ ، وجيش ملك الخزر ، وقوامه ثلاثمئة ألف رجلٍ ـ كما تقول الرِّوايات ـ فقتل سلمان ، وجميع جنوده .
وقد كتب عثمان رضي الله عنه إلى حبيب بن مسلمة أن يسير مرَّة أخرى إلى بلاد أرمينية فاتَّجه بجيشه ، وقام بفتح المواقع مرَّة بعد أخرى ، وثبَّت أقدام المسلمين فيها ، وعقد بعض المعاهدات مع أهل البلاد، ثمَّ رأى عثمان رضي الله عنه أن يوجِّهه إلى ثغور الجزيرة ؛ لخبرته بها ، وقدرته عليها ، وعيَّن مكانه على أرمينية حذيفة بن اليمان بالإضافة لولايته على أذربيجان ، حيث قام بعدَّة غزوات نحو بلاد الخزر من أرمينية، وبعدما يقرب من سنة عزله عثمان، وولَّى على أرمينية المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، حتَّى توفي عثمان وهو عليها، وعلى أذربيجان في الوقت نفسه، وتعدُّ هذه الولاية إضافةً جديدةً أضافها عثمان إلى الدَّولة الإسلاميَّة، ولم تكن فتحت قبله، وقد لقي المسلمون عناءً شديداً في فتحها، وتنظيمها، وضبط أمورها.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf