رفع المصاحف و الدعوة إلى التحكيم
الحلقة الرابعة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
إن ما وصل إليه حال الجيشين بعد ليلة الهرير لم يكن يحتمل مزيد قتال، وجاءت خطبة الأشعث بن قيس زعيم كندة أصحابه ليلة الهرير فقال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ؛ فما رأيت مثل هذا قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إن نحن تواقفنا غداً إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحرب، ولكني رجل مسن، وأخاف على النساء والذراري غداً إذا نحن فنينا، اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آل.
وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غداً لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلن أهل فارس على أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى، ثم قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا، وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص ولا للمخادعة والاحتيال، وإنما كانت رغبة كلا الفريقين، ولن يضير معاوية أو عمرو بشيء أن تأتي أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة.
إنما يزعج ذلك السبئيّة الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركاماً من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل الفضل كالمناداة لتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة؛ جريمة ومؤامرة وحيلة، ونسبوا لأمير المؤمنين علي أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح على أنه قال: ما رفعوها ثم لا يرفعونها، ولا يعملون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدة. ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف: إنها مشورة ابن العاهرة ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص رضي الله عنه، حتى لم تعد تجد كتاباً من كتب التاريخ إلا فيه انتقاص لعمرو بن العاص وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهم، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل: حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام، ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدون، وغيرهم كثير، مما ساهم في تشويه الحقائق التاريخية الناصعة.
إن رواية أبي مخنف تفترض أن علياً رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القراء الذين عرفوا بالخوارج فيما بعد، وهذه الرواية تحمل سباً من علي لمعاوية وصحبه؛ يتنزه عنه أهل ذاك الجيل المبارك، فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي؟! ويكفي للرواية سقوطاً أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق، فهي رواية لا تصمد للبحث النزيه، ولا تقف أمام روايات أخرى لا يتهم أصحابها بهوى مثل ما يرويه الإمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل أحد رجال علي بن أبي طالب. فقال: كنا بصفين، فلما استحرَّ القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى علي المصحف؛ فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [آل عمران: 23]. فقال علي: نعم، أنا أولى بذلك، فقام القُراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج، بأسيافهم على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله ﷺ يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي بين رسول الله ﷺ وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر رضي الله عنه للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله ﷺ، فقال علي: أيها الناس! إن هذا فتح، فقبل القضية ورجع، ورجع الناس.
وأظهر سهل بن حنيف رضي الله عنه اشمئزازه ممّن يدعون إلى استمرار الحرب بين الإخوة، وقال: أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم، وبيَّن لهم بأنه لا خيار عن الحوار والصلح؛ لأن ما سواه فتنة لا تعرف عواقبها، فقال: ما وضعنا بسيوفنا على عواتقنا إلى أمر يُفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر؛ ما نسدُّ منها خُصماً إلا تفجر علينا خُصم ما ندري كيف نأتي له.
وفي هذه الروايات الصحيحة رد على دعاة الفتنة، ومبغضي الصحابة الذين يضعون الأخبار المكذوبة، ويضعون الأشعار وينسبونها إلى أعلام الصحابة والتابعين الذين شاركوا في صفين؛ ليظهروهم بمظهر المتحمِّس لتلك الحرب ليزرعوا البغضاء في النفوس ويعملوا ما في وسعهم على استمرار الفتنة.
إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية، وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب صفين، إذ إن الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاهاً جماعياً رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة، وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في اتخاذ القرارات.
إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قَبِلَ وقْفَ القتال في صفين، ورضي التحكيم، وعدَّ ذلك فتحاً، ورجع إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد.
إن وصول الطرفين إلى فكرة التحكيم، ساهمت عدة عوامل للاستجابة للتحكيم؛ منها:
أ - أنه كان آخر محاولة من المحاولات التي بذلت لإيقاف الصدام وحقن الدماء؛ سواء تلك المحاولات الجماعية، أم المحاولات الفردية التي بدأت بعد موقعة الجمل ولم تفلح، أما الرسائل التي تبودلت بين الطرفين لتفيد وجهات نظر كل منهما، فلم تُجد هي الأخرى شيئاً، وكان آخر تلك المحاولات ما قام به معاوية في أيام اشتداد القتال؛ حيث كتب إلى علي رضي الله عنه يطالبه بتوقف القتال، فقال: فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بك ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فإنا إن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي منا ما ينبغي أن نندم على ما مضى ونصلح ما بقي.
ب - تساقط القتلى وإراقة الدماء الغزيرة ومخافة الفناء، فصارت الدعوة إلى إيقاف الحرب مطلباً يرنو إليه الجميع.
ج - الملل الذي أصاب الناس من طول القتال، حتى وكأنهم على موعد لهذا الصوت الذي نادى بالهدنة والصلح، وكانت أغلبية جيش علي في اتجاه الموادعة وكانوا يرددون: قد أكلتنا الحرب، ولا نرى البقاء إلا عن الموادعة. وهذا ينقض ذلك الرأي المتهافت الذي رُوِّج بأن رفع المصاحف كان خدعة من عمرو بن العاص، والحق أن فكرة رفع المصاحف لم تكن جديدة وليست من ابتكار عمرو بن العاص، بل، رفع المصحف في الجمل ورشق حامله كعب بن سور قاضي البصرة بسهم وقتل.
د - الاستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59] ويؤيد هذا ما قاله علي بن أبي طالب حينما عرض عليه الاحتكام إلى كتاب الله قال: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتاب الله.
5 - مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه وأثره على المسلمين:
يعد حديث رسول الله ﷺ لعمّار رضي الله عنه: «تقتلك الفئة الباغية»، من الأحاديث الصحيحة والثابتة عن النبي ﷺ، وقد كان لمقتل عمّار رضي الله عنه أثر في معركة صفين، فقد كان علماً لأصحاب رسول الله ﷺ يتبعونه حيث سار، وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافاً سلاحه، فلما رأى مقتل عمار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع حديث رسول الله ﷺ من عمار: «تقتله الفئة الباغية» واستمر في القتال حتى قتل.
وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبو الأعور السلمي، عند شريعة الماء يسقون.. وكانت هي شريعة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عَمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل، وقد قال فيه رسول الله ﷺ: «تقتله الفئة الباغية». فقال عمرو لمعاوية: لقد قتلنا الرجل، وقد قال فيه رسول الله ﷺ ما قال، فقال معاوية: اسكت فوالله ما تزال تدحض في بولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به. فانتشر تأويل معاوية بين أهل الشام انتشار النار في الهشيم.
وجاء في رواية صحيحة: أن عمرو بن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار، وقد قال فيه رسول الله ﷺ: «تقتله الفئة الباغية». فقام عمرو بن العاص فزعاً يسترجع، حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قتل عمار، قال: فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله ﷺ يقول له: «تقتلك الفئة الباغية» فقال له معاوية: دحضت في بولك، أو نحن قتلناه؟! إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال: بين سيوفنا.
وفي رواية صحيحة أيضاً: جاء رجلان عند معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول كل واحد منهما: أنا قتلته؛ فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «تقتله الفئة الباغية». قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله ﷺ فقال: «أطع أباك ما دام حياً ولا تعصه». فأنا معكم ولست أقاتل.
من الروايات السابقة نلاحظ أن الصحابي الفقيه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حريص على قول الحق، والنصح، فقد رأى أن معاوية وجنده هم الفرقة الباغية لقتلهم عماراً، فقد تكرر منه هذا الاستنكار في مناسبات مختلفة؛ ولا شك أن مقتل عمّار رضي الله عنه قد أثر في أهل الشام بسبب هذا الحديث، إلا أن معاوية رضي الله عنه أوَّل الحديث تأويلاً غير مستساغ، ولا يصح في أن الذين قتلوا عماراً هم الذين جاؤوا به إلى القتال، وقد أثر مقتل عمار كذلك على عمرو بن العاص، بل كان استشهاد عمار دافعاً لعمرو بن العاص للسعي لإنهاء الحرب. وقد قال رضي الله عنه: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة
وقد جاء في البخاري: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي ﷺ، فينفض التراب عنـه ويقـول: «ويح عمّار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار». قال عمّـار: أعوذ بالله من الفتن.
وقال ابن عبد البر: تواترت الآثار عن النبي ﷺ أنه قال: «تقتل عماراً الفئة الباغية»، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته ﷺ، وهو من أصح الأحاديث. وقال الذهبي بعد ما ذكر الحديث: وفي الباب عن عدة من الصحابة، فهو متواتر.
6 - فهم العلماء للحديث «تقتلك الفئة الباغية»:
أ- قال ابن حجر: وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار، وردٌّ على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه، وقال أيضاً: دلَّ الحديث: «تقتل عماراً الفئة الباغية»، على أن علياً كان المصيب في تلك الحروب؛ لأن أصحاب معاوية قتلوه.
ب- يقول النووي: وكان الصحابة يوم صفين يتبعونه حيث توجه؛ لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة، لهذا الحديث.
ج- قال ابن كثير: كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثني من هو خير مني ـ يعني أبا قتادة ـ: أن رسول الله ﷺ قال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية». وقال أيضاً: وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنهما مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قتله أهل الشام، وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول ﷺ من أنه تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن علياً محق، وأن معاوية باغٍ، وما في ذلك من دلائل النبوة.
د- وقال الذهبي: هم طائفة من المؤمنين، بغت على الإمام علي، وذلك بنص قول المصطفى صلوات الله عليه لعمار: «تقتلك الفئة الباغية».
ه- قال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله تعالى:: هذه الآية أصل في قتال ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ ﴾، والعمدة في حرب المتأوِّلين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من هذه الملة، وإياها عنى النبي ﷺ بقوله: «تقتل عماراً الفئة الباغية».
و- وقال ابن تيمية: وهذا يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داعٍ إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داعٍ إلى النار ـ وإن كان متأوِّلاً ـ وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ ـ وإن كان متأولاً ـ، أو باغٍ ـ بلا تأويل ـ وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأوِّلين.
وقال أيضاً: مع أن علياً أولى بالحق ممن فارقه، ومع أن عماراً قتلته الفئة الباغية ـ كما جاءت به النصوص ـ؛ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف.
ز- وقال عبد العزيز بن باز: وقال ﷺ في حديث عمار: «تقتل عماراً الفئة الباغية». فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين، فمعاوية وأصحابه بغاة، لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان.
ح- وقال سعيد حوى: بعد أن قتل عمار الذي وردت النصوص مبينة: أنه تقتله الفئة الباغية، تبين للمترددين أن علياً كان على حق، وأن القتال معه كان واجباً، ولذا عبّر ابن عمر عن تخلُّفه بأنه يأسى بسبب هذا التخلف، وما ذلك إلا أنه ترك واجباً وهو نصرة الإمام الحق على الخارجين عليه بغير حق، كما أفتى بذلك الفقهاء.
7 - الرد على قول معاوية رضي الله عنه: إنما قتله من جاء به:
إن جلَّ الصحابة والتابعين قد فهموا من قول رسول الله ﷺ لعمار: «تقتلك الفئة الباغية»، أن المقصود؛ جيش معاوية رضي الله عنه، مع أنهم معذورون في اجتهادهم، فهم يقصدون الحق ويريدونه، ولكنهم لم يصيبوه، وفئة علي أولى بالحق منهم كما قال ﷺ، ومع أن الأئمة لم يعجبهم تأويل معاوية ـ كما سأنقل ـ إلا إنهم عذروه في اجتهاده، فها هو ابن حجر يقول في قوله ﷺ: «يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»: فإن قيل: كان قتله بصفين وهو مع علي، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟ فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي، وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك، لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم.
وقال القرطبي: وقال الإمام أبو المعالي في كتاب (الإرشاد)، فصل: علي رضي الله عنه، كان إماماً حقاً في توليته، ومقاتلوه بغاة، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطؤوه، وقال أيضاً: وقد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بأن قال: فرسول الله ﷺ إذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا من علي رضي الله عنه إلزام، لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها؛ قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب بن دحية.
وقال ابن كثير: فقول معاوية: إنما قتله من قدمه إلى سيوفنا، تأويل بعيد جداً، إذ لو كان كذلك لكان أمير الجيش هو القاتل للذين يقتلون في سبيل الله، حيث قدمهم إلى سيوف الأعداء.
وقال ابن تيمية: وهذا القول لا أعلم له قائلاً من أصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة، ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقهم.
وقال ابن القيم معلقاً على هذا التأويل: نعم التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله ﷺ لعمار: «تقتلك الفئة الباغية»، فقالوا: نحن لم نقتله إنما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا، فهذا هو التأويل الباطل المخالف لحقيقة اللفظ وظاهره، فإن الذي قتله هو الذي باشر قتله، لا من استنصر به.
8 - من هو قاتل عمّار بن ياسر؟
قال أبو الغادية الجهني وهو يحدث عن قتله لعمار: فلما كان يوم صفين، أقبل يستنُّ أول الكتيبة رَجِلاً، حتى إذا كان بين الصفين فأبصر رجلٌ عورة، فطعنه في ركبته بالرمح فعثر، فانكشف المغفر عنه، فضربته فإذا هو رأس عمار. ثم قُتل عمار. قال الراوي: واستسقى أبو غادية، فأتي بماء في زجاج، فأبى أن يشرب فيها، فأتي بماء في قدح فشرب، فقال رجل:.. يتورع عن الشرب في الزجاج ولم يتورع عن قتل عمار.
ويخبر عمرو بن العاص رضي الله عنه الخبر فيقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قاتل عمار وسالبه في النار».
قال ابن كثير: ومعلوم أن عماراً كان في جيش علي يوم صفين، وقتله أصحاب معاوية من أهل الشام، وكان الذي تولى قتله يقال له: أبو الغادية، رجل من أفناد الناس، وقيل: إنه صحابي.
وقال ابن حجر: والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا متأولين للمجتهد المخطئ أجر، وإذا ثبت هذه في حق آحاد الناس؛ فثبوته للصحابة بالطريق الأولى.
وقال الذهبي: وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوّز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمار، وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل.
وقد وافق الألباني في تعليقه على قول ابن حجر: هذا حق، ولكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل؛ لأنه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث الترجمة؛ أي: «قاتل عمار وسالبه في النار»، إذ لا يمكن القول بأن أبا غادية القاتل لعمار مأجور؛ لأنه قتله مجتهداً، ورسول الله ﷺ يقول: «قاتل عمار في النار»، فالصواب أن يقال: إن القاعدة صحيحة، إلا ما دل الدليل القاطع على خلافها، فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح بها.
وقد ترجم لأبي الغادية الجهني ابن عبد البر فقال: اختلف في اسمه، فقيل: يسار بن سَبُع، وقيل: يسار بن أزهر، وقيل: اسمه مسلم. سكن الشام ونزل في واسط، يعدُّ في الشاميين؛ أدرك النبي ﷺ وهو غلام، رُوي عنه أنّه قال: أدركت النبي ﷺ وأنا أيفع، أرد على أهلي الغنم، وله سماع من النبي ﷺ؛ قوله ﷺ: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرُب بعضكم رقاب بعض»، وكان محباً لعثمان، وهو قاتل عمار بن ياسر، وكان يصف قتله إذا سئل عنه، لا يباليه، وفي قصته عجبٌ عند أهل العلم.
9 - المعاملة الكريمة أثناء الحرب والمواجهة:
إن وقعة صفين كانت من أعجب الوقائع بين المسلمين.. كانت هذه الوقعات من الغرابة إلى حدِّ أن القارئ لا يصدق ما يقرأ، ويقف مشدوهاً أمام طبيعة النفوس عند الطرفين، فكل منهُم كان يقف وسط المعركة شاهراً بسيفه وهو يؤمن بقضيته إيماناً كاملاً، فليست معركة مدفوعة من قبل القيادة، يدفعون الجنود إلى معركة غير مقتنعين بها، بل كانت معركة فريدة في بواعثها وفي طريقة أدائها وفيما خلفتها من آثار، فبواعثها في نفوس المشاركين يعبر عنها بعض المواقف التي وصلت إلينا في المصادر التاريخية، فهم إخوة يذهبون معاً إلى مكان الماء، فيستقون جميعاً، ويزدحمون وهم يغرفون الماء، وما يؤذي إنسان إنساناً. وهم إخوة يعيشون معاً عندما يتوقف القتال، فهذا أحد المشاركين يقول: كنا إذا تواعدنا من القتال دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في معسكر هؤلاء.. وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم، وهم أبناء قبيلة واحدة، ولكل منهما اجتهاده، فيقاتل أبناء القبيلة الواحدة كل في طرف، قتالاً مريراً، وكل منهما يرى نفسه على الحق، وعنده الاستعداد لأن يُقْتَل من أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخِنا (وهناً وضعفاً)، ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، وهما أبناء دين واحد يجمعهما، وهو أحب إليهما من أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها, ويوم قتل عمار بن ياسر صلى عليه الطرفان.
ويذكر شاهد عيان اشترك في صفين: تنازلنا بصفين، فاقتتلنا أياماً فكثر القتلى بيننا حتى عقرت الخيل، فبعث علي إلى عمرو بن العاص: أن القتلى قد كثروا، فأمسك حتى يدفن الجميع قتلاهم، فأجابه، فاختلط بعض القوم ببعض حتى كانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، وكان الرجل من أصحاب علي يشد فيقتل في عسكر معاوية، فيستخرج منه. وقد مر أصحاب علي بقتيل لهم أمام عمرو، فلما رآه بكى، وقال: لقد كان مجتهداً أخشن في أمر الله.
وكانوا يسارعون إلى التناهي عن المنكر حتى في مثل هذه المواقع، فكانت هناك مجموعة عرفوا بالقراء، وكانوا من تلامذة عبد الله بن مسعود من أهل الشام معاً، فلم ينضموا إلى أمير المؤمنين علي، ولا إلى معاوية بن أبي سفيان، وقالوا لأمير المؤمنين:
إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له، أو بدا منه بغي كنا عليه، فقال علي: مرحباً وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة؛ من لم يرضَ بهذا فهو جائر خائن.
والحقيقة أن هذه المواقف منبعثة من قناعات واجتهادات استوثقوا منها في قرارة أنفسهم وقاتلوا عليها.
10 - معاملة الأسرى:
إن المعاملة الحسنة للأسير وإكرامه في صفين من الأمور البدهية بعد ما استعرضنا المعاملة الكريمة أثناء القتال، وقد بين الإسلام معاملة الأسرى؛ فقد حث رسول الله ﷺ على إكرام الأسير، وإطعامه أفضل الأطعمة الموجودة، هذا مع غير المسلمين؛ فكيف إذا كان الأسير مسلماً، لا شك إن إكرامه والإحسان إليه أولى، ولكن الأسير في هذه المعركة يعتبر فئة وقوة لفرقته، ولذلك كان علي رضي الله عنه يأمر بحبسه، فإن بايع أخلى سبيله، وإن أبى أخذ سلاحه ودابته، أو يهبهما لمن أسره ويحلفه إلا يقاتل، وفي رواية: يعطيه أربعة دراهم. وغرض الخليفة الراشد من ذلك واضح، وهو إضعاف جانب البغاة، وقد أتي بأسير يوم صفين، فقال الأسير: لا تقتلني صبراً، فقال علي رضي الله عنه: لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين، فخلى سبيله ثم قال: أفيك خير تبايع.
ويبدو من هذه الروايات أن معاملته للأسرى كما يلي:
* إكرام الأسير والإحسان إليه.
* يعرض عليه البيعة والدخول في الطاعة، فإن بايع أخلى سبيله.
* إن أبى البيعة أخذ سلاحه، ويحلِّفه أن لا يعود للقتال ويطلقه.
* إن أبى إلا القتال تحفظ عليه في الأسر ولا يقتله صبراً. وقد أتى رضي الله عنه مرة بخمسة عشر أسيراً، ويبدو أنهم جرحى، فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه.
ويقول محب الدين الخطيب معلقاً على هذه الحرب: ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معاً على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء العرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيراً من قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدوَّن لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة.
قال ابن العديم: قلت: وهذا كله حكم أهل البغي، ولهذا قال أبو حنيفة: لولا ما سار علي فيهم، ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين.
11 - عدد القتلى:
تضاربت أقوال العلماء في عدد القتلى؛ فذكر ابن أبي خيثمة أن القتلى في صفين بلغ عددهم سبعين ألفاً، من أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، ومن أهل الشام خمسة وأربعين ألف مقاتل، كما ذكر ابن القيم أن عدد القتلى في صفين بلغ سبعين ألفاً أو أكثر، ولا شك أن هذه الأرقام غير دقيقة، بل أرقام خيالية، فالقتال الحقيقي والصدام الجماعي استمر ثلاثة أيام مع وقف القتال بالليل، إلا مساء الجمعة، فيكون مجموع القتال حوالي ثلاثين ساعة، ومهما كان القتال عنيفاً، فلن يفوق شدة القادسية التي كان عدد الشهداء فيها ثمانية آلاف وخمسمئة، وبالتالي يصعب عقلاً أن نقبل تلك الروايات التي ذكرت الأرقام الكبيرة.
12 - تفقد أمير المؤمنين علي القتلى وترحمه عليهم:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد نهاية الجولات الحربية يقوم بتفقد القتلى، فيقول شاهد عيان: رأيت علياً على بغلة النبي ﷺ الشهباء، يطوف بين القتلى، وأثناء تفقده القتلى ومعه الأشتر، مر برجل مقتول ـ وهو أحد القضاة والعباد المشهورين بالشام ـ فقال الأشتر ـ وفي رواية أخرى عدي بن حاتم ـ: يا أمير المؤمنين! أحابس معهم؟ عهدي والله به مؤمن، فقال علي: فهو اليوم مؤمن. ولعل هذا الرجل المقتول هو القاضي الذي أتى عمر بن الخطاب وقال: يا أمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفظعتني، قال: ما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان، والنجوم معهما نصفين، قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس، فقال عمر: قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آية اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آية النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ [الإسراء: 12]، فانطلق فوالله لا تعمل لي عملاً أبداً. قال الراوي: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفين.
وقد وقف علي على قتلاه وقتلى معاوية فقال: غفر الله لكم، غفر الله لكم، للفريقين جميعاً.
وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بين علي ومعاوية، خرج علي فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة، ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، ويصير الأمر إلي وإلى معاوية، وكان يقول عنهم: هم المؤمنون، وقوله رضي الله عنه في أهل صفين لا يكاد يختلف عن قوله في أهل الجمل.
13 - موقف لمعاوية مع ملك الروم:
استغل ملك الروم الخلاف الذي وقع بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وطمع في ضم بعض الأراضي التي تحت هيمنة معاوية إليه، قال ابن كثير:.. وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان أخشاه وأذله، وقهر جندهم ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية لحرب علي، تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة، وهذا يدل على عظمة نفس معاوية وحميته للدين.
14 - قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين:
قال نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقَّاهم أهل الشام فاجتلدوا وحمل عمرو بن العاص... فاعترضه علي وهو يقول:
قَدْ عَلِمَتْ ذاتُ القُرُونِ المِيْلِ والخَصْرِ والأَنَامِلِ الطُّفُولِ
إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه واتقاه عمرو برجله، فبدت عورته، فصرف علي وجهه عنه وارتُثَّ. فقال القوم: أفلتَّ الرجل يا أمير المؤمنين. قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا. قال: فإنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي. وذكر القصة ـ أيضاً ـ ابن الكلبي كما ذكر ذلك السهيلي في الروض الأنف: وقول علي: إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرَّحِمَ إلى أن قال:.. ويروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي رضي الله عنه ـ يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر السهمي: رواه ابن الكلبي وغيره:
أفي كُلِّ يومٍ فَارِسٌ غَيْرُ مُنْتَهٍ وَعَوْرَتُهُ وَسْطَ العَجَاجَةِ بَادِيَة
يَكُفُّ لَهَا عَنْهُ عَلَيٌّ سِنَانَهُ وَيَضْحَكُ مِنْهُ في الخَلاَءِ مُعَاوِيَة
والرد على هذا الافتراء والإفك المبين كالآتي، فراوي الرواية الأولى؛ نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جلد لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان: نصر بن مزاحم الكوفي رافضي جَلد، تركوه، قال عنه العقيلي: شيعي، في حديثه اضطراب وخطأ كثير، وقال أبو خيثمة: كان كذاباً، وقال عنه ابن حجر: قال العجلي: كان رافضياً غالياً... ليس بثقة ولا مأمون. وأما الكلبي؛ هشام بن محمد بن السائب الكلبي؛ اتفقوا على غلوه في التشيُّع؛ قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟ ما ظننت أن أحداً يحدث عنه. وقال الدارقطني: متروك.
وعن طريق هذين الرافضيين سارت هذه القصة في الآفاق وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة، وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة، وتعد هذه القصة أنموذجاً لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله ﷺ، وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغض من جناب الصحابة الأبرار ـ رضي الله عنهم ـ، في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي، بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصّاص، وأصبح كثير منها من المسلمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف.
15 - مرور أمير المؤمنين علي بالمقابر بعد رجوعه من صفين:
لما انصرف علي أمير المؤمنين رضي الله عنه من صفين مرّ بمقابر، فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبعٌ، وبكم عمّا قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، الحمد لله الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، الحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبى لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب، وقنع بالكفاء.
16 - إصرار قتلة عثمان رضي الله عنه على أن تستمر المعركة:
إن قتلة عثمان كانوا حريصين على أن تستمر المعركة بين الطرفين، حتى يتفانى الناس، وتضعف قوة الطرفين، فيكونوا بمنأى عن القصاص والعقاب، ولذلك فإنهم فزعوا وهم يرون أهل الشام يرفعون المصاحف، وعلي رضي الله عنه يجيبهم إلى طلبهم فيأمر بوقف القتال وحقن الدماء، فسعوا إلى ثني أمير المؤمنين عن عزمه، لكن القتال توقف، فسقط في أيديهم، فلم يجدوا بداً من الخروج على علي رضي الله عنه، فاخترعوا مقولة: (الحكم لله)، وتحصنوا بعيداً عن الطرفين، والغريب أن المؤرخين لم يركزوا على ما فعله هؤلاء في هذه المرحلة، كما فعلوا في معركة الجمل، رغم أنهم كانوا موجودين في جيش علي، وعن سر إخفاق تلك المفاوضات التي دامت أشهر عديدة، وعن الدور الذي يمكن أن يكون قتلة عثمان قد قاموا به في معركة صفين لإفشال كل محاولة صلح بين الطرفين، لأن اصطلاح علي مع معاوية هو أيضاً اصطلاح على دمائهم، فلا يعقل أن يجتهدوا في الفتنة في وقعة الجمل، ويتركوا ذلك في صفين.
17 - نهي أمير المؤمنين علي عن شتم معاوية ولعن أهل الشام:
روي أن علياً ـ رضي الله عنه ـ لمّا بلغه أن اثنين من أصحابه يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام، أرسل إليهما أن كفّا عمّا يبلغني عنكما، فأتيا فقالا: يا أمير المؤمنين! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟: قال: بلى وربّ الكعبة المسدّنة، قالا: فلماذا تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعّانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ من لجج به.
وأما ما قيل من أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن عليّاً وابن عباس والحسن والحسين، فهو غير صحيح، لأنّ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا أكثر حرصاً من غيرهم على التقيد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه؛ فقد روي عن رسول الله ﷺ قوله: «من لعن مؤمناً فهو كقتله»، وقوله ﷺ: «ليس المؤمن بطعان ولا بلعّان»، وقوله ﷺ: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة».
كما أن الرواية التي جاء فيها لعن أمير المؤمنين في قنوته لمعاوية وأصحابه، ولعن معاوية لأمير المؤمنين وابن عباس والحسن والحسين؛ لا تثبت من ناحية السند؛ حيث فيها أبو مخنف لوط بن يحيى الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته، كما أن في أصح كتب الشيعة عندهم جاء النهي عن سب الصحابة، فقد أنكر على من يسب معاوية ومن معه فقال: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، فهذا السب والتكفير لم يكن من هدي علي باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf