رفع المصاحف و الدعوة إلى التحكيم
الحلقة الخامسة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين؛ وهو أن يحكّم كل واحد منهما رجلاً من جهته، ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص، ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما جميعاً، وكتب بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل في شهر رمضان سنة 37 هـ، وقد رأى قسم من جيش علي رضي الله عنه أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر؛ فعليه أن يتوب إلى الله تعالى، وخرجوا عليه فسموا الخوارج، فأرسل علي رضي الله عنه إليهم ابن عباس رضي الله عنهما فناظرهم وجادلهم، ثم ناظرهم علي رضي الله عنه بنفسه، فرجع طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبين علي رضي الله عنه حروب أضعفت من جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة ـ وسيأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله تعالى.
تعتبر قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة، وقد تاه فيها كثير من الكُتَّاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوَّهت الصحابة الكرام وخصوصاً: أبو موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة، ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضية التحكيم، ووصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب مكر وخداع، فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين اللذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل الكثير من المسلمين.
وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام على أنها حقائق تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها؛ وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في اهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها، وليعلم أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث إن أصله حق لا شك فيه.
وقد رأيت أن يكون المدخل في هذا المبحث التعريف بسيرة الصحابيين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما.
أولاً: سيرة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:
هو عبد الله بن قيس بن حضّار بن حرب، الإمام الكبير، صاحب رسول الله ﷺ، أبو موسى الأشعري التميمي الفقيه المُقري.
وقد أسلم أبو موسى بمكة قديماً؛ قال ابن سعد: قدم مكة فحالف سعيد بن العاص، وأسلم قديماً وهاجر إلى أرض الحبشة، وتذكر بعض الروايات بأنه رجع إلى قومه للدعوة إلى الله. وقد جمع ابن حجر بين الروايات في إسلامه فقال: وقد استشكل ذكر أبي موسى فيهم، لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصداً النبي ﷺ بالمدينة، فألقتهم السفينة في أرض الحبشة، فحضروا مع جعفر إلى النبي ﷺ بخيبر.. ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولاً إلى مكة فأسلم، فبعثه النبي ﷺ مع من بعث إلى الحبشة، فتوجه إلى بلاد قومه، وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحقق استقرار النبي ﷺ وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة، فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح من الحبشة، فهذا محتمل وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد.
1 ـ أوسمة الشرف التي وضعها رسول الله ﷺ على صدر أبي موسى:
أ ـ لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليَّ:
عن أبي موسى، قال: خرجنا من اليمن في بضع وخمسين من قومي، ونحن ثلاثة إخوة: أنا، وأبو رهْم، وأبو عامر. فأخرجتنا سفينتنا إلى النَّجاشي، وعند جعفر وأصحابه، فأقبلنا حين افتُتِحَت خيبر، فقال رسول الله ﷺ: «لكم الهجرة مرتين:
هاجَرتم إلى النَّجاشي وهاجرتم إليَّ»، وعن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: «يقدم عليكم غداً قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم». فقدم الأشعريون؛ فلما دنوا جعلوا يرتجزون:
غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه فلما قدموا تصافحوا، فكانوا أول من أحدث المصافحة.
ب ـ هم قومك يا أبا موسى:
عن عياض الأشعري، قال: لما نزلت: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54]. قال رسول الله ﷺ: «هم قومك يا أبا موسى»، وأوْمأ إليه.
ج ـ اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً:
عن أبي موسى قال: لما فرغ رسول الله ﷺ من حنين، بعث أبا عامر الأشعري على جيش أوطاس، فلقي دُرْيد بن الصُّمة فقتل دريد، وهزم الله أصحابه؛ فرمى رجل أبا عامر في ركبته بسهم فأثبته. فقلت: يا عمّ، مَنْ رماك؟ فأشار إليه. فقصدت له، فلحقته، فلما رآني، ولَّى ذاهباً، فجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ قال: فكفَّ، فالتقيت أنا وهو، فاختلفنا ضربتين، فقتلته. ثم رجعت إلى أبي عامر، فقلت: قد قتل الله صاحبك. قال: فانزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء. فقال: يا بن أخي، انطلق إلى رسول الله ﷺ فأقرئه مني السلام، وقل له: يستغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً، ثم مات. فلما قدمنا، وأخبرتُ النبي ﷺ، توضَّأ، ثم رفع يديه، ثم قال: «اللهم اغفر لعُبيد بن أبي عامر»، حتى رأيت بياض إبطيه. ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك» فقلت: ولي يا رسول الله؟ فقال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخلهُ يوم القيامة مدخلاً كريماً».
د ـ إن هذا قد ردَّ البُشرى فاقبلا أنتما:
عن أبي موسى، قال: كنت عند رسول الله ﷺ بالجعرانة، فأتى أعرابي فقال: ألا تُنجـزُ لي ما وعدتني؟ قال أبشر: قال: قـد أكثرت من الـبشرى. فأقبـل رسول الله ﷺ عليَّ وعلى بلال. فقال: «إنّ هذا قد ردَّ البُشْرى فاقبلا أنتما». فقالا: قبلنا يا رسول الله. فدعا بقدح، فغسل يديه ووجهه فيه، ومجّ فيه، ثم قال: «اشرَبَا منه وأَفْرِغَا على رؤوسِكُما ونُحُوركما» ففعلا؛ فنادت أم سلمـة من وراء الستر: أن فَضِّلا لأُمِّكُمَا فأفضلا لها منه.
هـ لقد أعطي مزماراً من مزامير آل داود:
عن ابن بريدة عن أبيه قال: خرجت ليلة من المسجد، فإذا النبي ﷺ عند باب المسجد قائم، وإذا رجل يصلي، فقال لي: «يا بريدة، أتراه يُرائي؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «بل هو مؤمن منيب، لقد أعطي مزماراً من مزامير آل داود». فأتيته فإذا هو أبو موسى الأشعري؛ فأخبرته.
و ـ يا عبد الله بن قيس ألا أدُلُّك على كلمة من كنوز الجنة:
عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر، وكان القوم يصعدون ثنية أو عقبة، فإذا أصعد الرجل قال: لا إله إلا الله، والله أكبر ـ أحسبه قال: بأعلى صوته ـ ورسول الله ﷺ على بغلته يعترضها في الجبل، فقال: «أيها الناس، إنكم لا تُنادون أصمَّ ولا غائباً». ثم قال: يا عبد الله بن قيس ـ أو يا أبا موسى ـ ألا أدُلُّكَ على كلمة من كُنوُز الجنة؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «قل: لا حول ولا قوة إلا بالله».
ز ـ يَسّرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تُنفرا:
استعمل رسول الله ﷺ أبا موسى على زبيد وعدن، وأرسله مع معاذ إلى اليمن، فعن أبي موسى: أن النبي ﷺ لما بعثه ومعاذاً إلى اليمن، قال لهما: «يَسِّرَا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تُنفرا»، فقال له أبو موسى: إنا لنا بأرضنا شراباً، يُصنعُ مع العسل يقال له: البَتْع، ومن الشعير يقال له: المِزْرُ، قال: «كلُّ مسكر حرام»، فقال لي معاذ: كيف تقرأ القرآن؟ قلت: أقرأه في صلاتي، وعلى راحلتي، وقائماً وقاعداً، أتفوَّقُه تفوُّقاً، يعني شيئاً بعد شيء، قال: فقال معاذ: لكني أنام ثم أقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، قال: وكأن معاذاً فُضل عليه.
2 ـ مكانة أبي موسى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
كان أبو موسى من ضمن أعمدة الدولة في عهد عمر، وكان قائداً للجيوش في فتح قم وقاثان، وموقعة تستر، كما كان من مؤسسي المدرسة البصرية في عهد الفاروق، وكان يعد من أعلم الصحابة، وقد قدم البصرة، وعلّم بها، وقد تأثر بعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكان بينهما مراسلات، سنأتي عليها عند حديثنا عن مؤسسة الولاة والقضاة، وكان أبو موسى رضي الله عنه قد اشتهر بالعلم والعبادة والورع والحياء، وعزة النفس وعفتها، والزهد في الدنيا والثبات على الإسلام، ويعد أبو موسى رضي الله عنه من كبار علماء الصحابة وفقهائهم ومفتيهم، فقد ذكره الذهبي في (تذكرة الحفاظ) في الطبقة الأولى من الصحابة رضي الله عنه.
كان عالماً عاملاً صالحاً تالياً لكتاب الله، إليه المنتهى في حسن الصوت بالقرآن، روى علمـاً طيباً مباركـاً، أقرأ أهل البصرة وأفقههم، وقـد كان رضي الله عنه كثير الملازمة للنبي ﷺ، كما أنه تلقى من كبار الصحابة كعمر وعلي وأُبَيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود، وتأثر أبو موسى على وجـه الخصوص بعمر بن الخطاب كثيراً، وكان عمر يتعهدهُ بالوصايا والكتب في أثناء ولايته الطويلـة على البصرة، كما أن أبا موسى كان يرجع إلى عمر في كل ما يعرض لـه من القضايا، حتى عده الشعبي واحداً من أربعة قضاة، هم أشهر قضاة الأمة، فقال: قضاة الأمة: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبو موسى.
وكان أبو موسى عندما يأتي المدينة يحرص على مجالس عمر رضي الله عنهما، وربما أمضى جزءاً كبيراً معه، فعن أبي بكر بن أبي موسى أن أبا موسى رضي الله عنه أتى عمر بن الخطاب بعد العشاء فقال له عمر: ما جاء بك؟ قال: جئت أتحدث إليك، قال: هذه الساعة؟! قال: إنه فقه، فجلس عمر فتحدثا طويلاً، ثم إن أبا موسى قال: الصلاة يا أمير المؤمنين، قال: إنا في صلاة.
وكما كان أبو موسى حريصاً على طلب العلم والتعلم كان حريصاً على نشر العلم وتعليم الناس وتفقيههم، وكان يحض الناس على التعلم والتعليم في خطبه، فعن أبي المهلب قال: سمعت أبا موسى على منبره وهو يقول: من علمه الله علماً فليعلمه، ولا يقولن ما ليس له به علم، فيكون من المتكلفين، ويمرق من الدين.
وقد جعل أبو موسى مسجد البصرة مركز نشاطه العلمي وخصص جزءاً كبيراً من وقته لمجالسه العلمية، ولم يكتفِ بذلك بل كان لا يدع فرصة تمر دون أن يستفيد منها في تعليم الناس وتفقيههم، فإذا ما سلّم من الصلاة استقبل رضي الله عنه الناس، وأخذ يعلمهم ويضبط لهم قراءتهم للقرآن الكريم، قال ابن شوذب: كان أبو موسى إذا صلى الصبح استقبل الصفوف رجلاً رجلاً يقرئهم.
واشتهر أبو موسى بين الصحابة بجمال صوته، وحسن قراءته، فكان الناس يجتمعون عليه حين يسمعونه يقرأ، وكان عمر رضي الله عنه إذا جلس عنده أبو موسى طلب منه أن يقرأ له ما يتيسر له من القرآن، وقد وفقه الله لتعليم المسلمين، وبذل رضي الله عنه كل ما يستطيع من جهد في تعليم القرآن ونشره بين الناس في كل البلاد التي نزل فيها، واستعان بصوته الجميل وقراءته الندية فاجتمع الناس عليه، وازدحم حوله طلاب العلم في مسجد البصرة، فقسمهم إلى مجموعات وحِلق، فكان يطوف عليهم يُسمعهم ويستمع منهم ويضبط لهم قراءتهم، فالقرآن الكريم شغله الشاغل رضي الله عنه، صرف له معظم أوقاته في حلّه وفي سفره، فعن أنس بن مالك قال: بعثني الأشعري إلى عمر رضي الله عنه، فقال عمر: كيف تركت الأشعري؟ فقلت له: تركته يعلم الناس القرآن، فقال: أما إنه كيّس، ولا تُسمعها إياه.
حتى عندما كان يخرج إلى الجهاد كان يعلم ويفقه، فعن حطَّاب بن عبد الله الرّقاشي قال: كنا مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في جيش على ساحل دجلة، إذ حضرت الصلاة، فنادى مناديه للظهر، فقام الناس للوضوء، فتوضأ ثم صلى بهم، ثم جلسوا حِلقاً، فلما حضرت العصر نادى منادي العصر، فهبَّ الناس للوضوء أيضاً فأمر مناديه: لا وضوء إلا على من أحدث.
وأثمرت جهوده العلمية رضي الله عنه، وقرت عينه برؤية عدد كبير حوله من حفاظ القرآن الكريم وعلمائه، زاد عددهم في البصرة وحدها على ثلاثمئة، ولما طلب عمر بن الخطاب من عماله أن يرفعوا إليه أسماء حفاظ القرآن لكي يكرمهم ويزيد عطاءهم؛ كتب إليه أبو موسى أنه بلغ من قبلي ممن حمل القرآن ثلاثمئة وبضعة رجال.
واهتم أبو موسى رضي الله عنه بتعليم السنة وروايتها؛ فروى عنه عدد من الصحابة وكبار التابعين. قال الذهبي ـ رحمه الله ـ: حدّث عنه بريدة بن الحصيب، وأبو أمامة الباهلي، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وطارق بن شهاب، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو عثمان النَّهدي، وخلق سواهم.
وكان رضي الله عنه شديد التمسك بسنة النبي ﷺ، دلَّ على ذلك مسيرته في الحياة وما أوصى به أولاده عند موته، ومع حرصه الشديد على السنة لم يكثر رضي الله عنه من رواية الأحاديث الشريفة كما هو حال كبار الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا يتهيَّبون من الرواية عن النبي ﷺ.
وكان من المقرّبين لأبي موسى في البصرة أنس بن مالك ويعتبر من خواصه، فعن ثابت عن أنس قال: كنا مع أبي موسى في مسير، والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا، قال أبو موسى: يا أنس إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فرياً، فتعالَ فلنذكر ربنا ساعة، ثم قال: ما ثبر الناس ـ ما بطأ بهم ـ؟ قلت: الدنيا والشيطان والشهوات، قال: لا، لكن عُجّلت الدنيا وغيّبت الآخرة، أما والله لو عاينوها ما عَدلوا ولا بدّلوا. ولثقة أبي موسى بأنس فقد كان يكلفه أن يكون رسوله إلى أمير المؤمنين عمر، قال أنس: بعثني أبو موسى الأشعري من البصرة إلى عمر، فسألني عن أحوال الناس، وبعد (تستر) أرسله أبو موسى إلى عمر بالأسرى والغنائم، فقدم على عمر بصاحبها الهرمزان.
3 ـ ولاية أبي موسى في عهد عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم:
يعتبر أبو موسى ـ بحق ـ أشهر ولاة البصرة أيام عمر بن الخطاب، فقد فتحت في أيامه المواقع العديدة في فارس، فكان يجاهد بنفسه، ويرسل القادة للجهات المختلفة من البصرة، ففي أيامه تمكَّن البصريون من فتح الأهواز وما حولها، وفتحوا العديد من المواضع المهمة، وكانت فترة ولايته حافلة بالجهاد، وقد تعاون أبو موسى مع الولاة المجاورين له في كثير من الحروب والفتوحات، وقد قام بجهود كبيرة لتنظيم المناطق المفتوحة وتعيين العمال عليها وتأمينها وترتيب مختلف شؤونها.
وقد جرت العديد من المراسلات بين أبي موسى وعمر بن الخطاب في مختلف القضايا؛ منها: توجيهه لأبي موسى في كيفية استقباله للناس في مجلس الإمارة، ومنها: نصيحته لأبي موسى بالورع ومحاولة إسعاد الرعية، وهي قيّمة قال فيها عمر:
أما بعد؛ فإن أسعد الناس من سعدت به رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته، وإياك أن ترتع فيرتع عمالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها تبغي السمن، وإنما حتفها في سمنها.
وهناك العديد من الرسائل بين عمر وأبي موسى تدل على نواحٍ إدارية وتنفيذية مختلفة كان يقوم بها أبو موسى بتوجيه من عمر، وقد جمع معظم هذه المراسلات محمد حميد الله في كتابه القيم عن الوثائق السياسية.
وتعتبر فترة ولاية أبي موسى على البصرة من أفضل الفترات، حتى لقد عبر عنها أحد أحفاد البصريين فيما بعد وهو الحسن البصري ـ رحمه الله ـ فقال: ما قدمها راكب خير لأهلها من أبي موسى، إذ إن أبا موسى ـ رحمه الله ـ كان بالإضافة إلى إمارته خير معلم لأهلها، حيث علَّمهم القرآن وأمور الدين المختلفة.
وفي عهد عمر بن الخطاب كان العديد من المدن في فارس، والتي فتحت في زمنه تخضع للبصرة وتدار من قبل والي البصرة الذي يعين عليها العمال من قبله، ويرتبطون به ارتباطاً مباشراً، وهكذا اعتبر أبو موسى من أعظم ولاة عمر، واعتبرت مراسلات عمر مع أبي موسى من أعظم المصادر التي كشفت سيرة عمر مع ولاته، وبيّنت ملامح أسلوبه في التعامل معهم.
وقد أوصى عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة من بعده: ألاَّ يقِرَّ لي عامل أكثر من سنة، وأقِرُّوا الأشعري أربع سنين.
وقد تولى أبو موسى منصب القضاء في عهد عمر، وكان كتاب عمر إليه في القضاء أنموذجاً ومثالاً يفيد كل قاض، بل وكل إداري، في كل زمان ومكان، وقال عنه ابن القيم: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم، والشهادة، والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه.
كما تولى الولاية في عهد عثمان، واستقضاه ذو النورين على البصرة أيضاً، ولما قتل عثمان كان والياً على الكوفة. ولما تولى علي رضي الله عنه الخلافة، أخذ أبو موسى له البيعة من أهل الكوفة، إذ كان والياً عليها لعثمان بن عفان رضي الله عنه، وحين استنفر الخليفة الكوفيين من ذي قار، رأى أبو موسى بوادر الفتنة والانشقاق بين المسلمين، فنصح لأهل الكوفة أن يلزموا بيوتهم ويعتزلوا هذا الأمر فإنما هي فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي ـ ولكن لاختلاف وجهة نظره مع الخليفة عزل عن ولاية الكوفة.
إن حياة أبي موسى رضي الله عنه منذ إسلامه قضاها في نشر الإسلام وتعليم الناس العلم، وخاصة القرآن الذي اشتهر بقراءته، والجهاد في سبيل الله والحرص عليه، والفصل في الخصومات، ونشر العدل وضبط الولايات عن طريق القضاء والإدارة، ولا شك إن هذه المهمات صعبة وتحتاج إلى مهارات وصفات فريدة؛ من العلم والفهم والفطنة والحذق والورع والزهد، وقد أخذ منها أبو موسى بنصيب وافر، فاعتمد عليه رسول الله ﷺ، ثم الخلفاء الأربعة من بعده رضوان الله عليهم، فهل يتصور أن يثق رسول الله ﷺ ثم خلفاؤه بعده برجل يمكن أن تجوز عليه مثل الخدعة التي ترويها قصة التحكيم.
إن اختيار أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ حكماً عن أهل العراق من قِبَل عليّ ـ رضي الله عنه ـ وأصحابه ينسجم تماماً مع الأحداث، فالمرحلة التالية هي مرحلة الصلح وجمع كلمة المسلمين، وأبو موسى الأشعري كان من دعاة الصلح والسلام، كما كان في الوقت نفسه محبوباً، مؤتمناً من قبائل العراق، وقد ذكرت المصادر المتقدمة: أن علياً هو الذي اختار أبا موسى الأشعري، يقول خليفة في تاريخه: وفيها ـ سنة 37 هـ اجتمع الحكمان: أبو موسى الأشعري من قبل عليّ، وعمرو بن العاص من قبل معاوية. ويقول ابن سعد: فكره الناس الحرب وتداعوا على الصلح، وحكّموا الحكمين، فحكّم علي أبا موسى، وحكّم معاوية عمرو بن العاص.
ولهذا يمكن القول: إن الدور المنسوب للقرّاء في صفين من مسؤولية وقف القتال والتحكيم، وفرض أبي موسى حكماً ليست إلا فرية تاريخية اخترعها الإخباريون الشيعة الذين ما انقطعوا عن تزوير وتشويه تاريخ الإسلام بالروايات الباطلة، وكان يزعجهم أن يظهر عليّ ـ رضي الله عنه ـ بمظهر المتعاطف مع معاوية وأهل الشام، وأن يرغب في الصلح مع أعدائهم التقليديين، من جهة أخرى يحَمّلون المسؤولية أعداءهم الخوارج، ويتخلصون منها، ويجعلون دعوى الخوارج تناقض نفسها، فهم الذين أجبروا علياً على قبول التحكيم، وهم الذين ثاروا عليه بسبب قبول التحكيم.
إن هذه العجالة عن شخصية أبي موسى لها علاقة ببحثنا، نتحدث عن شخصية أمير المؤمنين علي وعصره، وأبو موسى من الشخصيات المؤثرة في عصره، وقد تعرضت للتشويه، وغالباً إذا تحدث أحد عن صفين والتحكيم؛ تعرضت شخصية أبي موسى وعمرو بن العاص للتشويه والكذب والافتراء بسبب الروايات الضعيفة والموضوعة، فكان لازماً علينا أن نتحدث عن شيء من سيرتهما العطرة الزكية، وهذا المقصد من أهداف الكتابة في هذا البحث.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf