نص وثيقة التحكيم بين علي ومعاوية وبنودها
الحلقة السابعة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما، فيما تراضيا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ.
(2) قضية علي على أهل العراق شاهدهم وغائبهم، وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
(3) إنّا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته، نُحيي ما أحْيى ونُميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.
(4) وإن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظراً وحاكماً، ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظراً وحاكماً.
(5) على أن علياً ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذِمّته وذمة رسوله، أن يتخذا القرآن إماماً، ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً، وما لم يجدا في الكتاب ردّاه إلى سنة رسول الله ﷺ الجامعة، لا يتعمّدان لها خلافاً، ولا يبغيان فيها بشبهة.
(6) وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه، وليس لهما أن ينقُضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
(7) وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما، لم يعدوا الحق، رضي به راضٍ أو سخط ساخط، وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله.
(8) فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً من أهل المعدلة والصلاح، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق.
(9) وإن مات أحد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية، فلشيعته أن يُوَلّوا مكانه رجلاً يرضون عدله.
(10) وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
(11) وقد وجبت القضية على ما سمّيناه في هذا الكتاب، من موقع الشرط على الأميرين والحَكمين والفريقين، والله أقرب شهيد، وكفى به شهيداً، فإن خالفا وتعدّيا، فالأمّة بريئة من حُكمهما، ولا عهد لهما ولا ذِمة.
(12) والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل، والسلاح موضوعة، والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
(13) وللحَكمين أن ينزلا منزلاً متوسطاً عدلاً بين أهل العراق والشام.
(14) ولا يحضرهما فيه إلا من أحبَّا عن تراضٍ منهما.
(15) والأجل إلى انقضاء شهر رمضان, فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة عجّلاها, وإن رأيا تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.
(16) فإن هما لم يحكُما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل, فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب.
(17) وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر, وهم جميعاً يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحاداً أو ظلماً أو خلافاً.
وشهد على ما في هذا الكتاب: الحسن والحسين, ابنا علي, وعبد الله بن عباس, وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب, والأشعث بن قيس الكندي, والأشتر بن الحارث, وسعيد بن قيس الهمداني, والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب, وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري, وعبد الله بن خباب بن الأرت, وسهل بن حنيف, وأبو بشر بن عمر الأنصاري, وعوف بن الحارث بن عبد المطلب, ويزيد بن عبد الله الأسلمي, وعقبة بن عامر الجهني, ورافع بن خديج الأنصاري, وعمرو بن الحمق الخزاعي, والنعمان بن عجلان الأنصاري, وحجر بن عدي الكندي, ويزيد بن حجية النكري, ومالك بن كعب الهمداني, وربيعة بن شرحبيل, والحارث بن مالك, وحجر بن يزيد, وعلبة بن حجية.
ومن أهل الشام: حبيب بن مسلمة الفهري, وأبو الأعور السلمي, ويسر بن أرطاة القرشي, ومعاوية بن خديج الكندي, والمخارق بن الحارث الزبيدي, ومسلم بن عمرو السكسكي, وعبد الله بن خالد بن الوليد, وحمزة بن مالك, وسبيع بن يزيد بن أبجر العبسي, ومسروق بن جبلة العكي, وبسر بن يزيد الحميري, وعبد الله بن عامر القرشي, وعتبة بن أبي سفيان, ومحمد بن أبي سفيان, ومحمد بن عمرو بن العاص, وعمار بن الأحوص الكلبي, ومسعدة بن عمرو العتبي, والصباح بن جلهمة الحميري, وعبد الرحمن بن ذي الكلاع, وتمامة بن حوشب, وعلقمة بن حكم.
كتب يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين.
رابعاً: قصة التحكيم المشهورة، وبطلانها من وجوه:
لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم، وتداولها المؤرخون والكُتَّاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم بين مطيل في سياقها، ومختصر وشارح ومستنبط للدروس، وبانٍ للأحكام على مضامينها، وقلما تجد أحداً وقف عندها فاحصاً محققاً، وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل، وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص، إذ إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه:
1 ـ أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجاله ثقات عن الزهري مرسلاً قال: قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراقين، فعند ذلك حكَّموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فتفرق أهل صفين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن، ويخفضا ما خفض القرآن، وأن يختارا لأمة محمد ﷺ، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح.
فلما انصرف عليّ خالفت الحرورية وخرجت ـ وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فاذنوه بالحرب، وردوا عليه: أن حكم بني آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه، وقاتلوا.
فلما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشام، وأبى علي وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحداً من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يتفرقان؟ قالوا: لا نرى أحداً يعلم ذلك، قال: فوالله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأرجعهما.
فدخل على عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة؟ فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمة؛ قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار؛ فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو، فقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأياً، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك.
فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد.
فلما اجتمع الحكمان وتكلَّما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها، فكتبها أبو موسى، قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن نسمِّي رجلاً يلي أمر هذه الأمة؟ فسمِّه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك عليّ أن أتابعك، وإلا فلي عليك أن تتابعني؛ قال أبو موسى: أسمي لك معاوية بن أبي سفيان فلم يبرحا مجلسهما حتى استبَّا.
ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجدت مثل عمرو كمثل الذين قال الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: 175]. فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله عز وجل: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ [الجمعة: 5]. وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار.
والزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة، ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة، كما قرّر العلماء، وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري، وهي مرسلة، وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد: كان يصنع الحديث. وفي سنده أيضاً الواقدي، وهو متروك، وهذا نصها:
رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه، وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافوا رأس الحول أذرح، وحكموا حكمين ينظرون في أمور الناس فيرضوا بحكمهما، فحكّم علي أبا موسى الأشعري، وحكم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس، فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه، فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كان معه، وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا لله، ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه، ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، واجتمع الناس إليهما، وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدَّم أبا موسى فتكلم وخلع علياً ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع علياً وأقر معاوية، فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما، وبايع أهل الشام معاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين.
وأما طرق أبي مخنف فهي معلولة به، فالأول: وهو أبو مخنف لوط بن يحيى؛ ضعيف ليس بثقة، وأخباري تالف غالى في الرفض، وأما الثاني قال فيه ابن سعد: كان ضعيفاً، وقال البخاري: وأبو حاتم كان يحيى القطان يضعفه. وقال عثمان الدارمي: ضعيف، وقال النسائي: ضعيف.
هذه طرق قصة التحكيم المشهورة، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة، أفبمثل هذا تقوم حجة؛ أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة؛ ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفاً؛ فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها؟!.
2 ـ أهمية هذه القضية من جانب الاعتقاد والتشريع، ومع ذلك لم تنقل لنا بسند صحيح، ومن المحال أن يطبق العلماء على إهمالها مع أهميتها وشدة الحاجة إليها.
3 ـ وردت رواية تنقض تلك الروايات تماماً، وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصراً بسند رجاله ثقات، وأخرجه ابن عساكر معلولاً، عن الحصين بن المنذر: أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: إنه بلغني عن عمرو بعض ما أكره، فأته فاسأله عن الأمر الذي اجتمع عمرو وأبو موسى فيه؛ كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا، ولا والله ما كان ما قالوا، ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راضٍ، قال: فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغني عنكما فطال ما استغنى أمر الله عنكما.
وقد روى أبو موسى عن تورُّع عمرو ومحاسبته لنفسه، وتذكُّره سيرة أبي بكر وعمر، وخوفه من الأحداث بعدهما، قال أبو موسى: قال لي عمرو بن العاص: والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحلُّ لهما، لقد غُبنا وأخْطأ أو نقص رأيهما، و والله ما كانا مغبونيْن ولا مُخطئيْن ولا ناقصي الرأي، ووالله ما جاءنا الوهم والضعف إلا من قِبلنا.
4 ـ إن معاوية كان يقر بفضل علي عليه، وأنه أحق بالخلافة منه؛ فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي، فقد أخرج يحيى بن سليمان الجعفي بسند جيد، عن أبي مسلم الخولاني: أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً؛ وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأتوا علياً فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه فلم يدفعهم إليه. فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما؛ فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختيار خليفة أو عزله.
ويقول ابن حزم في هذا الصدد: بأن علياً قاتل معاوية لامتناعه عن تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام، وهو الإمام الواجب طاعته، ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أدَّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص لسنه وقوته على الطلب بذلك، وأصاب في هذا، وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط.
وفهم الخلاف على هذه الصورة ـ وهي صورته الحقيقية ـ بين إلى أيّ مدى تخطئ الروايات السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين، إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قراراً في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك: أنهما لم يفضَّا موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو أمر مستبعد جدّاً.
5 ـ أن الشروط التي يجب توفرها في الخليفة هي العدالة والعلم، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، وأن يكون قرشياً، وقد توفرت هذه الشروط في علي رضي الله عنه، فهل بيعته منعقدة أم لا؟ فإن كانت منعقدة ـ ولا شك في ذلك وقد بايعه المهاجرين والأنصار أهل الحل والعقد، وخصومه يقرون له بذلك ـ فقول معاوية السابق يدل عليه؛ بأن الإمام إذا لم يَخْل عن صفات الأئمة، فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأئمة؛ فإن عقد الإمام لازم، لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه، ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار لما استتب للإمام طاعة، ولما استمرت له قدرة واستطاعة، ولما صح لمنصب الإمام معنى.
وإذاً فليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات: كل من لم يرضَ بإمامه خلعه، فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد، وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامة، وهل علي رضي الله عنه فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال: إن الحكمين اتفقا على ذلك؟! فما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه، شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد، والبر، والتقوى، والخير.
6 ـ أن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة لهم، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة؟! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءاً، والصحابة الكرام أحذق وأعقل من أن يقدموا على هذا، ولهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلاً ونقلاً.
7 ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حصر الخلافة في أهل الشورى: وهم الستة، وقد رضي المهاجرون والأنصار بذلك، فكان ذلك إذناً في أن الخلافة لا تعدو هؤلاء إلى غيرهم ما بقي منهم واحد، ولم يبق منهم في زمان التحكيم إلا سعد بن أبي وقاص وقد اعتزل الأمر ورغب عن الولاية، والإمارة، وعلي بن أبي طالب القائم بأمر الخلافة وهو أفضل الستة بعد عثمان؛ فكيف يتخطى بالأمر إلى غيره.
8 ـ أوضحت الروايات أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم: والسؤال: ما المسوغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية؟ إن كان من أجل التحكيم؛ فالحكمان لم يتفقا ولم يكن ثمة مبرر آخر حتى ينسب عنهم ذلك، مع أن ابن عساكر نقل بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي، أعلم الناس بأمر الشام أنه قال: كان علي بالعراق يُدعى أمير المؤمنين، وكان معاوية بالشام يدعى الأمير، فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين.
فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة علي، وإلى هذا ذهب الطبري، فقد قال في آخر حوادث سنة أربعين: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء، وعلق على هذا ابن كثير بقوله: يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين؛ لأنه لم يبق له عندهم منازع، وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس كفئاً لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه، فإن فضل علي وسابقته وعلمه، ودينه وشجاعته، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم. وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، والنصوص في هذا المعنى كثيرة، ومن المحال أن يطبق الصحابة على مخالفة ذلك.
9 ـ أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء فقالت: اِلْحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه؛ فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حفظت وعصمت.
هذا الحديث قد يفهم منه مبايعة معاوية بالخلافة، وليس فيه تصريح بذلك، وقد قال بعض العلماء: إن هذا الحديث كان في الاجتماع الذي صالح فيه الحسن بن علي رضي الله عنه معاوية (رضي الله عنه).
وقال ابن الجوزي: إن هذه الخطبة كانت في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده. ويرى ابن حجر في التحكيم، ودلالة النص على القولين الأولين أقوى.
فقوله: فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم؛ دليل على اجتماع الكلمة على معاوية، وأيام التحكيم أيام فرقة واختلاف لا أيام جمع وائتلاف.
10 ـ حقيقـة قرار التحكيم: ليس من شـك في أن أمر الخلاف الـذي رأى الحكمان رده إلى الأمة، أو إلى أهل الشورى؛ ليس إلا أمر الخلاف بين عليّ ومعاوية حول قتلة عثمان، ولم يكن معاويـة مدعياً للخلافـة ولا منكراً حـق عليّ فيها عما تقرر سابقاً، وإنما كان ممتنعاً عن بيعتـه وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبـاً عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيداً من طاعة الناس له بعد أن بقي والياً فيها زهاء عشرين سنة.
وقد قال ابن دحية الكلبي في كتابه (أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين): قال أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري ـ الباقلاني ـ في مناقب الأئمة: فما اتفق الحكمان قط على خلعه ـ علي بن أبي طالب... وعلى أنهما لو اتفقا على خلعه لم ينخلع حتى يكون الكتاب والسنة المجتمع عليهما يوجبان خلعه، أو أحد منهما على ما شرطا في الموافقة بينهما، أو إلى أن يبيّنا ما يوجب خلعه من الكتاب والسنة، ونصّ كتاب عليّ ـ عليه السلام ـ اشترط على الحكمين أن يحكما بما في كتاب الله عز وجل من فاتحته إلى خاتمته، لا يجاوزان ذلك ولا يحيدان عنه، ولا يميلان إلى هوى ولا إدهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، وإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله فلا حكم لهما... والكتاب والسنة يثبتان إمامته، ويعظمانه ويثنيان عليه، ويشهدان بصدقه وعدالته، وإمامته وسابقته في الدين، وعظيم جهاده في جهاد المشركين، وقرابته من سيد المرسلين، وما خص به من القدم في العلم والمعرفة بالحكم، ووفور الحلم، وأنه حقيق بالإمامة، وأهل لحمل أعباء الخلافة.
11 ـ مكان انعقاد المؤتمر: كان الموعد المحدد لاجتماع الحكمين ـ كما جاء في الوثيقة ـ في رمضان في عام 37 هـ، إذا لم تحدث عوائق، في موضع وسط بين العراق والشام، وهذا الموضع المختار هو دومة الجندل، في روايات موثقة، وأذرح في روايات أخرى دونها في الإتقان، ولعل لقرب المكانين من بعضهما أثر في اختلاف الروايات، إذ يقول خليفة بن خياط:... ويقال: بأذرح، وهي من دومة الجندل قريب، وقد تم الاجتماع في الموعد المحدد بدون عوائق.
إن المكان الذي اجتمع فيه الحكمان هو دومة الجندل، وهذا بخلاف ما جزم به ياقوت الحموي من أن التحكيم حدث في أذرح، واستدل على ذلك ببعض روايات لم يبينها، وبالأشعار، وبخاصة بشعر ذي الرمة، في مدح بلال بن أبي بردة؛ وهو قوله:
أبوك تَلافي الدين والناس بعدما تشاؤوا وبيتُ الدِّينِ مُنْقَلِعُ الكَسْرِ
فَشَدَّ إِصَارَ الدِّينِ أَيَّامَ أَذْرُحٍ وَرَدَّ حُرُوباً قَدْ لَقَحْنَ إِلَى عُقْرِ
12 ـ هل حضر سعد بن أبي وقاص اجتماع الحكمين؟: اجتمع الحكمان في موعدهما المحدد، ومع كل واحد منهما بضع مئات يمثلون وفدين، وفد عن أهل العراق، والآخر يمثل أهل الشام، وطلب الحكمان من عدد من أعيان قريش وفضلائهم الحضور لمشاورتهم والاستئناس برأيهم، ولم يحضر الاجتماع عدد من كبار الصحابة كانوا قد اعتزلوا القتال منذ بدايته؛ وأفضل هؤلاء: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فإنه لم يحضر التحكيم، ولا أراد ذلك، ولا همَّ به؛ فعن عامر بن سعد: أن أخاه عُمَر انطلق إلى سعد في غنم له خارجاً من المدينة، فلمَّا أتاه قال: يا أبة، أرضيت أن تكون أعرابياً في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت! فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي».
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf