الاستشراق وتحريف التاريخ الإسلامي
الحلقة التاسعة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
إن من أعظم الفرق أثراً في تحريف التاريخ الإسلامي الشيعة الرافضة بمختلف طوائفها وفرقها، فهم من أقدم الفرق ظهوراً ولهم تنظيم سياسي وتصور عقائدي، ومنهج فكري ـ منحرف ـ، وهم أكثر الطوائف كذباً على خصومهم، كما أنهم من أشد الناس خصومة للصحابة ـ كما سيأتي معنا ـ، فسب الصحابة وتكفيرهم من أساسيات معتقدهم وأركانه؛ خاصة الشيخين أبي بكر وعمر، ويسمونهما الجبت والطاغوت.
وقد كان للشيعة أكبر عدد من الرواة والإخباريين الذين تولوا نشر أكاذيبهم ومفترياتهم وتدوينها في كتب ورسائل عن أحداث التاريخ الإسلامي، خاصة الأحداث الداخلية، كما كان للشعوبية والعصبية أثر في وضع الأخبار التاريخية والحكايات والقصص الرامية إلى تشويه التاريخ الإسلامي، وإلى إعلاء طائفة على طائفة أو أهل بلد على آخر، أو جنس على جنس، وإبعاد الميزان الشرعي في التفاضل؛ وهو ميزان التقوى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
كما أن الفرق المنحرفة قد استغلت وضع القصاص وانتشارهم وجهل معظمهم وقلة علمهم بالسنة، وانحراف طائفة منهم تبتغي العيش والكسب، فنشروا بينهم أكاذيبهم وحكاياتهم وقصصهم الموضوعة، فتلقفها هؤلاء القُصّاص دون وعي وإدراك ونشروها بين العامة، لقد انتشر عن طريقهم مئات الأحاديث المكذوبة على الصحابة والتابعين وعلماء الإسلام، مما يسيء لهم ويشوه تاريخهم وسيرتهم.
وقد كان من فضل الله وتوفيقه أن قيَّض الله مجموعة من العلماء النقاد الذين قاموا بجهد في نقد الرواة والمرويات، فبينوا الزائف من الصحيح، ودافعوا عن عقيدة الأمة وتاريخها، وجهد علماء السنة في بيان الأحاديث المكذوبة بالنص عليها وبيان الرواة الضعاف والمتهمين وأصحاب الأهواء، وفي رسم المنهج في نقد الروايات وقبولها، جهد كبير وموفق.
من أبرز من تصدى لإيضاح المغالط التاريخية ورد زيوف الروايات المكذوبة؛ القاضي ابن العربي في كتاب (العواصم من القواصم)، والإمام ابن تيمية في كثير من كتبه ورسائله، خاصة كتابه القيم (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية)، وكذا الحافظ الناقد الذهبي في كثير من مؤلفاته التاريخية مثل كتاب (سير أعلام النبلاء)، و(تاريخ الإسلام)، و(ميزان الاعتدال في نقد الرجال)، وكذلك الحافظ ابن كثير المفسر المؤرخ في كتابه (البداية والنهاية)، وأيضاً الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري شرح صحيح البخاري)، و(لسان الميزان)، و(تهذيب التهذيب)، و(الإصابة في معرفة الصحابة).
أما الوسائل التي استخدمت لغرض تحريف الوقائع التاريخية، وتشويه سير رجال الصدر الأول من الصحابة والتابعين؛ فهي كثيرة، ونذكر منها:
* الاختلاق والكذب.
* الإتيان بخبر أو حادثة صحيحة، فيزيدون فيها وينقصون منها حتى تتشوه وتخرج عن أصلها.
* وضع الخبر في غير سياقه حتى ينحرف عن معناه ومقصده، والتأويل والتفسير الباطل للأحداث.
* إبراز المثالب والأخطاء، وإخفاء الحقائق والصور المستقيمة.
* صناعة الأشعار وانتحالها لتأييد حوادث تاريخية مدعاة؛ لأن الشعر العربي ينظر له كوثيقة تاريخية ومستند يساعد في توثيق الخبر وتأييده.
* وضع الكتب والرسائل المكذوبة ونحلها لعلماء وشخصيات مشهورة، كما وضعت الرافضة كتاب (الإمامة والسياسة) الذي نحلته إلى أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري لشهرته عند أهل السنة وثقتهم به ـ كما مرّ معنا ـ.
وقد تلقف هذه الأكاذيب والتحريفات في القرن الماضي علماء الغرب وكتابه من المستشرقين والمُنَصّرِين ـ إبان غزوهم واستعمارهم للبلدان الإسلامية ـ، فوجدوا فيها ضالتهم، وأخذوا يعملون على إبرازها والتركيز عليها مع ما زادوه من عندهم ـ بدافع من عصبيتهم وكرههم للمسلمين ـ؛ من الكذب مثل اختراع حوادث لا أصل لها، أو التفسير المغرض للحوادث التاريخية بقصد التشويه، أو التفسير الخاطئ تبعاً للتصور والاعتقاد الذي يدينون به.
ثم شايع هؤلاء طائفة غير قليلة العدد من تلاميذ المستشرقين في البلاد العربية والإسلامية، وأخذوا طرائقهم ومناهجهم في البحث، وأفكارهم وتصوراتهم في الفهم والتحليل وتفسير التاريخ، وحملوا الراية بعد رحيلهم عن بلاد المسلمين، وكان ضررهم أشد وأنكى من ضرر أساتذتهم المستشرقين، ومن ضرر أسلافهم السابقين من فرق البدع والضلال، وذلك أنهم ادّعوا ـ كأساتذتهم ـ اتباع الروح العلمية المتجردة والمنهج العلمي في البحث، والحقيقة أن غالبهم لم يتجرد إلا من عقيدته، أما التجرد بمعنى الإخلاص للحق وسلوك المنهج العلمي السليم في إثبات الواقعات التاريخية، كالمقارنة بين الروايات، ومعرفة قيمة المصادر التي يرجعون إليها، ومدى أمانة الناقلين، وضبطهم لما نقلوا، وقياس الأخبار واعتبارهم بأحوال العمران البشري وطبائعه؛ فلا أثر له عند القوم، فلم يتقنوا من المنهج العلمي إلا الأمور الشكلية؛ مثل الحواشي وترتيب المراجع وما شابهها، وربما كان هذا هو مفهوم المنهج العلمي عندهم!.
يقول محب الدين الخطيب: إن الذين تثقفوا بثقافة أجنبية عنَّا قد غلب عليهم الوهم بأنهم غرباء عن هذا الماضي، وأن موقفهم من رجاله كموقف وكلاء نيابة من المتهمين، بل لقد أوغل بعضهم في الحرص على الظهور أمام الأغيار بمظهر المتجرد عن كل آصرة بماضي العروبة والإسلام، جرياً وراء المستشرقين في ارتيابهم حيث تحسن الطمأنينة، وميلهم مع الهوى عندما يدعوهم الحق إلى التثبت، وفي إنشائهم الحكم وارتياحهم إليه قبل أن تكون في أيديهم أشباه الدلائل عليه.
ومن أهم الوسائل التي اتبعها المستشرقون وتلاميذهم في تشويه وتحريف حقائق التاريخ الإسلامي:
أ ـ التدخل بالتفسير الخاطئ للأحداث التاريخية على وفق مقتضيات أحوال عصرهم الذي يعيشون هم فيه، وحسبما يجول بخواطرهم، دون أن يحققوا أولاً الواقعة التاريخية حتى تثبت، ودون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة، وأحوال الناس وتوجهاتهم في ذلك الوقت، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها، فإنه قبل تفسير الحادثة لا بد من ثبوت وقوعها، وليس وجودها في كتاب من الكتب كافياً لثبوتها، لأن مرحلة الثبوت مرحلة سابقة على البحث في تفسير الواقعة التاريخية، كما ينبغي أن يكون التفسير متمشياً مع منطوق الخبر التاريخي، وموضوع البحث، ومع الطابع العام للمجتمع أو العصر والبيئة التي حدثت فيها الواقعة، كما يشترط أن لا يكون هذا التفسير متعارضاً مع واقعة أو جملة وقائع أخرى ثابتة، كما أنه لا ينبغي أن ينظر في التفسير إلى عامل واحد ـ كما هو ديدن كثير من المدارس التاريخية المعاصرة ـ، وإنما ينظر فيه إلى جملة العوامل المؤثرة في الحدث وخاصة العوامل العقيدية والفكرية.. ثم إن التفسير التاريخي للحوادث بعد هذا كله لا يعدو كونه اجتهاداً بشرياً يحتمل الصواب والخطأ، ولقد أبرز البعض تاريخ الفرق الضالة، وعمد إلى تضخيم أدوارها، وتصويرها بصورة المصلح المظلوم، وبأن المؤرخين المسلمين قد تحاملوا عليها، فالقرامطة، والإسماعيلية، والرافضة الإمامية، والفاطمية، والزنج، وإخوان الصفا، والخوارج؛ كلهم في نظرهم واعتبارهم دعاة إصلاح وعدالة وحرية ومساواة، وثورتهم كانت ثورات للإصلاح وإنكار الظلم والجور.
فهذا الشغب والإرجاف على التاريخ الإسلامي ومزاحمة سير رجاله ودعاته بسير قادة الفرق الضالة أمر لا يستغرب من قوم لا يدينون بالإسلام؛ فهم من واقع عقيدتهم يكيدون له بكل جهد مستطاع، ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، ولا يتوقع من مطموس الإيمان وملل الكفر إلا مناصرة إخوانهم في الضلال.
ولكن الأمر الذين قد يحدث استغراباً عند البعض: أن يحمل راية التشويه والتحريف بعد سقوط دولة الاستشراق كتّاب يحملون أسماء إسلامية، ومن أبناء المسلمين، ويقومون بنشر مثل هذه السموم على بني جلدتهم؛ ليصرفوا بها الأغرار عن الصراط المستقيم، ولقد عمد هؤلاء إلى التشبث بالروايات المشبوهة والضعيفة والساقطة، يلتقطونها من كتب الأدب وقصص السمر والحكايات الشعبية والكتب المنحولة والضعيفة؛ فهذه الكتب هي مستنداتهم في الغالب، مع ما يجدونه من الروايات المكذوبة في الطبري والمسعودي؛ مع أنهم يعلمون أنها لا تعتبر مراجع علمية يعتمد عليها.
لقد وقع الاعتداء على التاريخ الإسلامي ـ خاصة تاريخ الصدر الأول ـ بالتشويه: عن طريق اختيار مواقف مختارة، والتركيز عليها؛ كالمعارك والحروب، مع تصويرها على غير حقيقتها حتى تزول عنها صفة الجهاد في سبيل الله، أو التركيز على الأحداث والفتن الداخلية بقصد إظهار خلافات الصحابة رضي الله عنهم، وعرضها وكأنها نموذج للصراعات والمكائد السياسية في وقتنا الحاضر. وبالتجهيل: وهو إهمال كل ما هو مدعاة للاقتداء والأسوة الحسنة. وبالتشكيك: وهو توجيه السهام إلى التاريخ ورجاله وإلى المؤرخين المسلمين أنفسهم، والتشكيك في معلوماتهم وصدقهم. وبالتجزئة: وهي محاولة تجزئة التاريخ الإسلامي إلى أوصال وأشتات وكأنها لا رابط بينها كالتوزيع الإقليمي والعرقي ونحوه.
فكل هذه الوسائل والحملات تسعى إلى تدمير تاريخنا الإسلامي، ومحو معالمه النيرة، وإبعاده عن مجال القدوة الحسنة والتربية الصحيحة؛ لذا ينبغي على المؤرخ المسلم معرفة هذه الوسائل والتنبه لها، ومعرفة الذين تابعوا المستشرقين في آرائهم ومناهجهم، وعدم التلقي منهم إلا بحذر شديد.
فإذا كان علماؤنا رحمهم الله قد نقدوا كثيراً من الرواة وضَعَّفوا روايتهم بسبب أخذهم عن أهل الكتاب وروايتهم الإسرائيليات؛ فإنه ينبغي لنا التوقف في قبول أقوال وتفسيرات من يتلقى من المستشرقين، بل إسقاطها، وعدم اعتبارها إلا بدليل وبرهان واضح.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf