الجمعة

1446-07-03

|

2025-1-3

معركة النهروان (38 هـ)

الحلقة الواحدة والسبعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م

1 ـ سبب المعركة:
كانت الشروط التي أخذها أمير المؤمنين علي على الخوارج أن لا يسفكوا دماً ولا يروعوا امناً، ولا يقطعوا سبيلاً، وإذا ارتكبوا هذه المخالفات فقد نبذ إليهم الحرب، ونظراً لأن الخوارج يكفِّرون من خالفهم ويستبيحون دمه وماله، فقد بدؤوا بسفك الدماء المحرمة في الإسلام، وقد تعددت الروايات في ارتكابهم المحظورات.
ومما صحَّ من هذه الروايات ما حدث به شاهد عيان كان من الخوارج، ثم تركهم؛ حيث قال: صحبت أصحاب النهر، ثم كرهت أمرهم، فكتمته خشية أن يقتلوني، فبينما أنا مع طائفة منهم، إذ أتينا على قرية وبيننا وبين القرية نهر، إذ خرج رجل من القرية مذعوراً يجر رداءه، فقالوا له: كأننا روعناك؟ قال: أجل، قالوا: لا روع لك، فقلت: والله يعرفوه ولم أعرفه، فقالوا: أنت ابن خباب صاحب رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، قالوا: عندك حديث تحدثناه عن أبيك عن النبي ﷺ؟ قال: سمعته يقول: إنه سمع النبي ﷺ ذكر فتنة فقال: «القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فإن أدركتك فكن عبد الله المقتول»، فأخذوه وسرية له معهم، فمر بعضهم على ثمرة ساقطة من نخلة، فأخذها فألقاها في فيه، فقال بعضهم: ثمرة معاهد فبم استحللتها؟ فألقاها من فيه، ثم مروا على خنزير فنفحه بعضهم بسيفه فقال بعضهم: خنزير معاهد فبم استحللته؟ فقال عبد الله بن خباب: ألا أدلكم على ما هو أعظم عليكم حرمة من هذا؟ قالوا: نعم، قال: أنا، ولكنهم قدموه إلى النهر فضربوا عنقه. يقول الراوي: فرأيت دمه يسيل على الماء، كأنه شراك ماء اندفر بالماء حتى توارى عنهم، ثم دعوا بالسرية وهي حبلى، فبقروا عما في بطنها. يقول الراوي: لم أصاحب قوماً هم أبغض إليّ صحبة منهم، حتى وجدت خلوة فانفلت.
أثار هذا العمل الرعب بين الناس، وأظهر مدى إرهابهم ببقر بطن هذه المرأة وذبحهم عبد الله كما تذبح الشاة، ولم يكتفوا بهذا بل صاروا يهددون الناس قتلاً، حتى إن بعضهم استنكر عليهم هذا العمل قائلين: ويلكم! ما على هذا فارقنا علياً.
بالرغم من فظاعة ما ارتكبه الخوارج من منكرات بشعة، لم يبادر أمير المؤمنين علي إلى قتالهم، بل أرسل إليهم أن يسلموا القتلة لإقامة الحد عليهم، فأجابوه بعناد واستكبار: كلنا قتلة، فسار إليهم بجيشه الذي قد أعده لقتال أهل الشام في شهر محرم من عام 38هـ، وعسكر على الضفة الغربية لنهر النهروان، والخوارج على الضفة الشرقية بحذاء مدينة النهروان.
2 ـ تحريض أمير المؤمنين علي جيشه على القتال:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يدرك أن هؤلاء القوم هم الخوارج الذين عناهم رسول الله ﷺ بالمروق من الدين، لذلك أخذ يحث أصحابه أثناء مسيرهم إليهم ويحرضهم على قتالهم، وكان لأحاديث رسول الله ﷺ في الخوارج أثرها لدى الصحابة وأتباع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فقد كان رضي الله عنه يحث جيشه على البدء بهؤلاء الخوارج، فقال: أيها الناس إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذي يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم ﷺ لاتكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض» فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله.
وقال رضي الله عنه في يوم النهروان: أمرت بقتال المارقين، وهؤلاء المارقون.
وعسكر الجيش في مقابلة الخوارج يفصل بينهما نهر النهروان، وأمر جيشه أن لا يبدؤوا بالقتال حتى يجتاز الخوارج النهر غرباً، وأرسل علي رضي الله عنه رسله يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا، وأرسل إليهم البراء بن عازب رضي الله عنه يدعوهم ثلاثة أيام فأبوا، ولم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسله، واجتازوا النهر، وعندما بلغ الخوارج هذا الحد وقطعوا الأمل في كل محاولات الصلح وحفظ الدماء، ورفضوا عناداً واستكباراً العودة إلى الحق وأصروا على القتال، قام أمير المؤمنين بترتيب الجيش، وتهيئته للقتال، فجعل على ميمنته حجر بن علي، وعلى الميسرة شبث بن ربعي، ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة وكانوا في سبعمئة قيس بن سعد بن عبادة، وأمر علي أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إنه لا حجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا، فانصرف منهم طوائف كثيرون، وكانوا أربعة آلاف، فلم يبق منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي، فرجعوا على علي وكان على ميمنتهم زيد بن حصن الطائي السنبيسي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى، وعلى خيالتهم حمزة بن سنان، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي، فوقفوا مقاتلين لعلي وأصحابه.
3 ـ نشوب القتال:
وزحف الخوارج إلى علي، وقدم علي بين يديه الخيل، وقدم منهم الرماة وصفَّ الرجالة وراء الخيالة، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدؤوكم، وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة، فحملوا على الخيالة الذين قدمهم علي، ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة، فاستقبلتهم الرماة بالنبل، فرموا وجوههم، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فأناموا الخوارج، فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول، وقتل أمراؤهم: عبد الله بن وهب، وحرقوص بن زهير، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سخيرة السلمي، وقال أبو أيوب: وطعنت رجلاً من الخوارج بالرمح، فأنفذته من ظهره وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار، فقال: ستعلم أينا أولى بها صليّاً.
وقد اعتزل كثير من الخوارج القتال لكلمة سمعوها من عبد الله بن وهب الراسبي، كانت تدل عندهم على ضعف الاستبصار والوهن في اليقين، وهذه الكلمة قالها عندما ضرب علي رضي الله عنه رجلاً من الخوارج بسيفه، فقال الخارجي: حبذا الروحة إلى الجنة، فقال عبد الله بن وهب: ما أدري إلى الجنة أم إلى النار، فقال رجل من بني سعد وهو فروة بن نوفل الأشجعي: إنما حضرت اغتراراً بهذا وأراه قد شك؟ فانعزل بجماعة من أصحابه، ومال ألف إلى أبي أيوب الأنصاري، وجعل الناس يتسللون.
وقد كانت معركة حاسمة وقصيرة أخذت وقتاً من اليوم التاسع من شهر صفر من عام ثمان وثلاثين للهجرة 9/2/38 هـ.
وأسفرت هذه المعركة الخاطفة عن عدد كبير من القتلى في صفوف الخوارج، وكان الحال على عكس ذلك تماماً في جيش أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فقتلى أصحاب علي فيما رواه مسلم في صحيحه، وعن زيد بن وهب: رجلان فقط، وفي رواية بسند حسن قال: وقتل من أصحاب علي اثنا عشر أو ثلاثة عشر، وجاء في رواية صحيحة: أن أبا مجلز قال: ولم يقتل من المسلمين ـ يقصد جيش علي ـ إلا تسعة رهط، فإن شئت فاذهب إلى أبي برزة، فاسأله فإنه قد شهد ذلك.
وأما قتلى الخوارج، فتذكر الروايات أنهم أصيبوا جميعاً، ويذكر المسعودي أن عدداً يسيراً لا يتجاوز العشرة فروا بعد الهزيمة الساحقة.
4 ـ ذو الثدية أو المخدج وأثر مقتله على جيش علي رضي الله عنه:
ظهرت روايات مختلفة في تحديد شخصية ذي الثدية، وهذه الروايات منها ما هو ضعيف الإسناد ومنها ما هو قوي، وقد جاء في الأحاديث النبوية أوصاف ذو الثدية، فمن ذلك: أنه أسود البشرة، وفي رواية: حبشي، وأنه مخدج اليد، أي: ناقص اليد، ويده صغيرة مجتمعة، فهي من المنكب إلى العضد فقط، أي: بدون ذراع، وفي نهاية عضده مثل حلمة الثدي وعليها شعيرات بيض، وعضده ليست ثابتة، كأنها بلا عظم؛ إذ إنها «تدردر» أي: تتحرك تذهب وتجيء، أما مخدج اليد، أو مودون اليد أو مثدون اليد، فكلها بمعنى واحد؛ وهو ناقص اليد.
وأما اسمه فقد أخطأ من قال: إن ذا الثدية هو حرقوص بن زهير السعدي، فحرقوص رجل مشهور كان له دور في الفتوح الإسلامية، ثم خرج على عثمان رضي الله عنه، وقد فرَّ إثر معركة الجمل الصغرى التي قتل فيها الزبيرَ وطلحةَ رضي الله عنهما قتلةُ عثمان بالبصرة، وقد صار حرقوص من زعماء الخوارج المميزين.
إلا أنه قد ورد في رواية: أن اسمه «حرقوس»؛ أما أبوه فلا يعرفه أحد، وجاء في رواية أن اسمه مالك، وذلك أنهم بحثوا عنه فلما وجدوه قال علي: الله أكبر، لا يأتيكم أحد يخبركم من أبوه؟ فجعل الناس يقولون: هذا مالك هذا مالك، فقال علي: ابن من؟ فلم يعرف أحد أبوه.
وقد ورد في رواية صححها الطبري: أن اسمَه نافع ذو الثدية كما قد جاء عند ابن أبي شيبة وأبي داود، إلا أن طريقهما واحد، فبعدما جاء في المصادر الثلاثة رواية واحدة ذات طريق واحد، كان علي رضي الله عنه يتحدث عن الخوارج منذ ابتداء بدعتهم، وكثيراً ما كان يتعرض إلى ذكر ذي الثدية، وأنه علامة هؤلاء، ويسرد أوصافه.
وبعد نهاية المعركة الحاسمة أمر علي رضي الله عنه أصحابه بالبحث عن جثة المخدج، لأن وجودها من الأدلة على أن علياً رضي الله عنه على حق وصواب، وبعد مدة من البحث مرت على علي وأصحابه وجد أمير المؤمنين عليّ جماعة مكومة بعضها على بعض عند شفير النهر فقال: أخرجوهم، فإذا المخدج تحتهم جميعاً مما يلي الأرض، فكبر علي ثم قال: صدق الله، وبلَّغ رسوله، وسجد سجود الشكر، وكبر الناس حين رأوه واستبشروا.
5 ـ معاملة أمير المؤمنين علي للخوارج:
عامل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الخوارج قبل الحرب وبعده معاملة المسلمين؛ فما أن انتهت المعركة حتى أصدر أمره في جنده بأن لا يُتبع مدبر، أو يذفف على جريح، أو يمثل بقتيل، يقول شقيق بن سلمة المعروف بأبي وائل ـ أحد فقهاء التابعين وممن شهد مع علي حروبه ـ: لم يسبِ علي يوم الجمل ولا يوم النهروان، وقد حمل رثة أهل النهر إلى الكوفة وقال: من عرف شيئاً فليأخذه، فجعل الناس يأخذون حتى بقيت قدر فجاء رجل وأخذها، وهذه الرواية لها طرق عدة، ولم يقسم بين جنده إلا ما حمل عليه الخوارج في الحرب من السلاح والكراع فقط.
وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه لم يكفر الخوارج، إذ قبل الحرب حاول إرجاعهم إلى الجماعة وقد رجع كثير منهم، ووعظهم وخوفهم القتال، يقول ابن قدامة: وإنما كان كذلك؛ لأن المقصود كفهم ودفع شرهم لا قتلهم، فإن أمكن لمجرد القول كان أولى من القتال، لما فيه من الضرر بالفريقين، وهذا يدل على أن الخوارج فرقة من المسلمين، كما قال بذلك كثير من العلماء.
وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يسميهم الفاسقين، فعن مصعب بن سعد قال: سألت أبي عن هذه الآية: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103 ـ 104] أهم الحرورية؟ قال: لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا بمحمد ﷺ، وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب، ولكن الحرورية... ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 26 ـ 27]. وكان سعد يسميهم الفاسقين، وفي رواية عن سعد رضي الله عنه أنه قال لما سئل عنهم: هم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وقد سئل علي رضي الله عنه: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، فقيل: منافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم، وفي رواية: قوم بغوا علينا فنصرنا عليهم، وفي رواية: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا، كما أنه رضي الله عنه وجه نصيحة لجيشه وللأمة الإسلامية من بعده فقال: إن خالفوا إماماً عادلاً فقاتلوهم، وإن خالفوا إماماً جائراً فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالاً.
والملاحظ في قتال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للخوارج وقتاله في الجمل وصفين: أن علياً رضي الله عنه ندم وحزن على قتاله في وقعة الجمل وصفين، أما في قتاله مع الخوارج فكان يظهر الفرح والسرور لقتالهم، قال ابن تيمية: فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا، فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله ﷺ، وفرح بذلك، ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة، وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والندم عليه ما ظهر.
سادساً: من الآثار الفقهية من معارك أمير المؤمنين علي:
تمكن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بغزير علمه وسعة فقهه أن يضع قواعدَ وأحكاماً، وهي ضوابط شرعية في قتال أهل البغي، ثم سار أهل السنة من أئمة العلم والفقهاء على سيرته في البغاة، واستنبطوا من هديه الراشدي الأحكام والقواعد الفقهية في هذا الشأن، حتى قال جلة أهل العلم: لولا حرب علي لمن خالفه لما عرفت السنة في قتال أهل القبلة، وروي هذا عن علي نفسه في قوله: أرأيتم لو أني غبت عن الناس، من كان يسير فيهم هذه السيرة؟. وقال الأحنف لعلي: يا علي إن قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غداً أنك تقتل رجالهم وتسبي نساءهم، فقال: ما مثلي يُخاف هذا منه، وهل يحل هذا إلا ممن تولى وكفر؟ وبناء على ذلك.
فإن قتال أهل القبلة يخالف قتال الكفار والمرتدين من أوجه متعددة:
1 ـ أن يقصد بالقتال ردعهم ولا يعتمد به قتلهم؛ لأن المقصود ردهم إلى الطاعة ودفع شرهم لا القتل، بينما يجوز أن يعتمد قتل المشركين والمرتدين.
2 ـ إذا قاتل مع البغاة عبيد ونساء وصبيان فحكمهم جميعاً حكم الرجل البالغ الحر، يُقاتلون مقبلين ويتركون مدبرين؛ لأن قتالهم لدفع أذاهم، بينما يجوز قتل أهل الردة والكفر مقبلين ومدبرين.
3 ـ إذا ترك أهل البغي القتال إما بالرجوع إلى الطاعة، وإما بإلقاء السلاح، وإما بالهزيمة، وإما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر، فإنه لا يجوز الإجهاز على جريحهم وقتل أسيرهم وإن جاز الإجهاز على جرحى المشركين والمرتدين وقتل أسراهم؛ فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال يوم الجمل: لا تتبعوا مدبرين، ولا تجهزوا على جريح، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. وفي رواية عبد الرزاق: أن علياً أمر مناديه فنادى يوم البصرة، لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح، ولا يقتل أسير، ومن أغلق بابه أو ألقى سلاحه فهو آمن، ولم يأخذ من متاعهم شيئاً.
وقال علي يوم الجمل: لا تتبعوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً، وإياكم والنساء وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم، فلقد رأيتنا في الجاهلية وإن الرجل ليتناول المرأة بالجريدة أو الهراوة فيعير بها، هو وعقبه من بعده. وعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: شهدت صفين وكانوا لا يجهزون على جريح، ولا يقتلون مولِّياً، ولا يسلبون قتيلاً.
4 ـ يعتبر أحوال من في الأسر من البغاة، فمن أمنت رجعته إلى القتال أطلق سراحه، ومن لم تؤمن منه الرجعة حبس إلى انجلاء الحرب ثم يطلق، ولم يجب أن يحبس بعدها، وإن جاز أن يبقى الكافر في الأسر.
5 ـ أن لا يستعان لقتالهم بمشرك معاهد ولا ذمي، وإن جاز أن يستعان بهم على قتال أهل الردة والحرب.
6 ـ أن لا يهادنهم إلى مدة ولا يوادعهم على مال، فإن هادنهم إلى مدة لم يلزمه، فإن ضعف عن قتالهم انتظر بهم القوة عليهم، وإن وادعهم على مال بطلت الموادعة ونظر في المال، فإن كان من فيئهم وصدقاتهم لم يرده عليهم، وصرف الصدقات في أهلها والفيء في مستحقيه، وإن كان من خالص أموالهم لم يجز أن يملكه، ووجب رده إليهم، فإن علياً ـ رضي الله عنه ـ لم يستحل مال أهل الجمل.
7 ـ إذا خرجوا على الإمام بتأويل سائغ راسلهم، فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم، وإن ذكروا شبهة بيَّنها ـ كما بيَّن علي رضي الله عنه للخوارج شبههم، وعاد كثير منهم إلى صف الجماعة، فإن رجعوا وإلا وجب قتالهم عليه وعلى المسلمين.
8 ـ إن لم يخرجوا عن المظاهرة بطاعة الإمام، ولم يتحيزوا بدار اعتزلوا فيها، وكانوا أفراداً تنالهم القدرة ويسهل ضبطهم تُركوا ولم يحاربوا، وأجريت عليهم أحكام العدل فيما يجب عليهم، ولهم من الحقوق والحدود.
9 ـ لا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه كالنار والمنجنيق وغير ذلك، ولا تحرق عليهم المساكن، ولا يقطع عليهم النخل والأشجار، وإن جاز ذلك مع الكفار والمشركين، لأن دار الإسلام تمنع ما فيها وإن بقي أهلها، إلا إذا دعت إلى ذلك الضرورة في حالة ما إذا تحصنوا ولم ينهزموا، لذلك جاز للإمام رميهم بالمنجنيق أو النار على قول الشافعي وأبي حنيفة.
10 ـ لا يجوز غنيمة أموالهم وسبي ذريتهم لقول النبي ﷺ: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»، وروي عن علي رضي الله عنه يوم الجمل قوله: من عرف شيئاً من ماله مع أحد فليأخذه. وهذا من جملة ما نقم الخوارج عليه، فقالوا: إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن حلَّت له دماؤهم فقد حلت له أموالهم، وإن حرمت عليه أموالهم فقد حرمت عليه دماؤهم، فقال لهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في مناظرته لهم: أفَتَسْبون أمكم؟ ـ يعني عائشة ـ أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فإن قلتم: ليست أمكم كفرتم، وإن قلتم: إنها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم، ويعقب ابن قدامة قائلاً: ولأن قتال البغاة إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم، فلا يستباح منهم إلا ما حصل لضرورة الدفع كالصائل وقاطع الطريق، وبقي حكم المال والذرية على أصل العصمة.
والظاهر من المأثور عن علي ـ رضي الله عنه ـ جواز الانتفاع بسلاحهم؛ فقد روى ابن أبي شيبة عن أبي البختري قال: لما انهزم أهل الجمل قال علي: لا تطلبوا من كان خارجاً من العسكر، وما كان من دابة أو سلاح فهو لكم، وفي رواية أخرى قال: ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم.
11 ـ من قتل من البغاة غسل وكفن وصلي عليه؛ لأنهم مسلمون، على مذهب الشافعي وأصحاب الرأي.
12 ـ إذا لم يكن البغاة من أهل البدع فهم ليسوا فاسقين، وقتال الإمام وأهل العدل لهم إنما من جهة خطئهم في التأويل، وهم كالمجتهدين من الفقهاء في الأحكام، ومن شهد منهم قبلت شهادته إذا كان عدلاً، وهذا قول الشافعي، وأما الخوارج وأهل البدع إذا بغوا على الإمام فلا تقبل شهادتهم لأنهم فسّاق.
13 ـ يجوز للعادل قتل ذي رحمه الباغي؛ لأنه قتله بحق، فأشبه إقامة الحد عليه مع كراهية قصد ذلك.
14 ـ إذا غلب أهل البغي بلداً فجبوا الخراج والزكاة والجزية وأقاموا الحدود؛ لم يطالبـوا بشيء ممـا جبـوه إذا ظهـر أهل العـدل على ذلـك البلد وظفروا بهـم، فعندما ظهر علي رضي الله عنـه على أهل البصرة بعد موقعة الجمل لم يطالبهم بشيء مما جبوه.
15 ـ حكم وراثة الباغي من العادل: لا يرث باغٍ قتل عدلاً، ولا عادل قتل باغياً لقوله ﷺ: «القاتل لا يرث»، وقال أبو حنيفة: أورث العادل من الباغي، ولا أورث الباغي من العادل، وقال أبو يوسف: أورث كل منهما من صاحبه؛ لأنه متأول في قتله، وبهذا قال النووي.
16 ـ إذا لم يكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم؛ جاز قتلهم ولا شيء على من قتلهم من إثم ولا ضمان ولا كفارة؛ لأنه فعل ما أمر به، وقتل من أجل الله: ﴿ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 9]؛ فإن المسلم إذا أريدت نفسه جاز له الدفع عنها بقتل من أرادها إذا كان لا يندفع بغير القتل، وكذلك ما أتلفه أهل العدل على أهل البغي حال الحرب من المال، فلا ضمان فيه، وليس على أهل البغي بالمقابل ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس ولا مال في أصح الأقوال كما ذكر النووي، ويدل على ذلك ما روى الزهري عن إجماع الصحابة: أن لا يضمن الباغي إذا قتل العادل، قال: هاجت الفتنة الأولى وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون، وفيهم البدريون، فأجمعوا أنه لا يقاد أحد، ولا يؤخذ مال أحد على تأويل القرآن.
وفي رواية عبد الرزاق: فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله ﷺ ممن شهد بدراً كثير، فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حداً في فرج استحلوه بتأويل القرآن، ولا قصاص في دم استحلوه بتأويل القرآن، ولا يرد مال استحلوه بتأويل القرآن؛ إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد على صاحبه.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022