الخميس

1446-07-02

|

2025-1-2

أهم صفات الخوارج

الحلقة الثانية والسبعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م

إن الباحث في تاريخ فرقة الخوارج يلاحظ عدة صفات اتصف بها أتباع هذه الفرقة؛ منها:
1 ـ الغلو في الدين:
مما لا شك فيه أن الخوارج أهل طاعة وعبادة، فقد كانوا حريصين كل الحرص على التمسك بالدين وتطبيق أحكامه، والابتعاد عن جميع ما نهى عنه الإسلام، وكذلك التحرُّز التام عن الوقوع في أي معصية أو خطيئة تخالف الإسلام، حتى أصبح ذلك سمة بارزة في هذه الطائفة لا يدانيهم في ذلك أحد، ولا أدلُّ على ذلك من قول رسول الله ﷺ: «يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صيامكم إلا صيامهم بشيء».
وقال ابن عباس رضي الله عنهما يصفهم حينما دخل عليهم لمناظرتهم: دخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهاداً، جباههم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثفن الإبل، وعليهم قمص مرحضة، مشمِّرين، مسهمة وجوههم من السهر.
وعن جندب الأزدي قال: لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فانتهينا إلى معسكرهم، فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن.
فقد كانوا أهل صيام وصلاة وتلاوة للقرآن، لكنهم تجاوزوا حد الاعتدال إلى درجة الغلو والتشدد، حيث قادهم هذا التشدد إلى مخالفة قواعد الإسلام بما تمليه عليهم عقولهم، كالقول بتكفير صاحب الكبيرة، وسيأتي مناقشة عقائدهم وأفكارهم بإذن الله تعالى.
ومنهم من بالغ في ذلك حتى على كل من ارتكب ذنباً من الذنوب ولو كان صغيراً؛ فإنه كافر مشرك مخلد في النار، وكان من نتيجة هذا التشدد الذي خرج بهم عن حدود الدين وأهدافه السامية، أن كفروا كل من لم ير رأيهم من المسلمين، ورموهم بالكفر أو النفاق، حتى إنهم استباحوا دماء مخالفيهم، ومنهم من استباح قتل النساء والأطفال من مخالفيهم كالأزارقة مثلاً.
ولا شك أن الخوارج بما اتصفوا به من الجهل والتشدد والجفاء قد شوهوا محاسن الدين الإسلامي تشويهاً غريباً، فإن هذا الإغراق في التأويل والاجتهاد أخرجهم عن روح الإسلام وجماله واعتداله، وهم في تعمُّقهم قد سلكوا طريقاً ما قال به محمد ﷺ ولا دعا إليه القرآن الكريم، وأما التقوى التي كانوا يظهرون بها فهي من قبيل التقوى العمياء، والصلاح الذي كانوا يتزينون به في الظاهر كان ظاهر التأويل بادي الزخرفة، وقد طمعوا في الجنة وأرادوا السعي لها عن طريق التعمق والتشدد والغلو في الدين غلواً أخرجهم عن الحد الصحيح.
ولذلك حذر النبي ﷺ من التعمق والتشدد في الدين؛ لأنه مخالفة للاعتدال وسماحة الإسلام، وأخبر أن المتنطع مستحق للهلاك والخسران، فقد صح عنه ﷺ: أنه قال: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً.
فبهذا يتبين لنا شذوذ الخوارج، وكذلك من سار على منهجهم المبني على التعسف والتشدد المخالف لسماحة الإسلام ويسره، فإن الإسلام دين اليسر والسماحة، فقد قال ﷺ: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا».
2 ـ الجهل بالدين:
إن من كبرى افات الخوارج صفة الجهل بالكتاب والسنة، وسوء فهمهم وقلة تدبرهم وتعقلهم، وعدم إنزال النصوص منازلها الصحيحة، وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين، وكان ابن عمر إذا سئل عن الحرورية؟ قال: يكفرون المسلمين، ويستحلون دماءهم وأموالهم، وينكحون النساء في عِدَدِهِنّ، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج، فلا أعلم أحداً أحق بالقتال منهم.
ومن جهلهم بشرع الله رأوا أن التحكيم معصية تستوجب الكفر، فيلزم من وقع فيه أن يعترف على نفسه بالكفر، ثم يستقبل التوبة، وهذا ما طالبوا به علياً رضي الله عنه؛ إذ طلبوا منه أن يقر على نفسه بالكفر ثم يستقبل التوبة، فتخطئة الخوارج له ولمن معه من المهاجرين والأنصار، واعتقادهم أنهم أعلم منهم وأولى منهم بالرأي، وهو والله عين الجهل والضلال.
ومن جهالتهم الشنيعة: أنهم وجدوا عبد الله بن خباب رضي الله عنه ومعه أم ولد حبلى، فناقشوه في أمور، ثم سألوه رأيه في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فأثنى عليهما خيراً، فنقموا عليه، وتوعدوه بأن يقتلوه شر قتلة، فقتلوه وبقروا بطن المرأة، ومر بهم خنزير لأهل الذمة فقتله أحدهم، فتحرجوا من ذلك وبحثوا عن صاحب الخنزير وأرضوه في خنزيره! فيا للعجب! أتكون الخنازير أشد حرمة من المسلمين عند أحد يدعي الإسلام، لكنها عبادة الجهال، التي أملاها عليهم الهوى والشيطان.
قال ابن حجر: إن الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم؛ استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة فقالوا: نفي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق منه، وكفى أن رأسهم رد على رسول الله ﷺ أمره ونسبه إلى الجور، نسأل الله السلامة.
وقال عنهم ابن تيمية رحمه الله: فهم جهال، فارقوا السنة والجماعة عن جهل. وبهذا يتبين أن الجهل كان من الصفات البارزة في تلك الطائفة التي هي إحدى الطوائف المنتسبة إلى الإسلام، فالجهل مرض عضال يهلك صاحبه من حيث لا يشعر، بل قد يريد الخير فيقع في ضده.
3 ـ شق عصا الطاعة:
قال ابن تيمية: فهؤلاء ضلالهم اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم، ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفراً، ثم يرتبون على الكفر أحكاماً ابتدعوها، هذا وقد شقوا عصا الطاعة، وسعوا في تفريق كلمة المسلمين، ويوضح ذلك موقفهم مع أمير المؤمنين علي، حيث تخلوا عنه وخالفوه في أحرج المواقف وعصوا أمره، وظلت تلك الصفة من صفاتهم على مدار التاريخ أن كل من خالفهم في أمر؛ عادوه ونبذوه، حتى إنهم تفرقوا هم أنفسهم إلى عدة فرق يكفر بعضهما بعضاً، ولذلك كثر فيهم الغارات والشقاق والثورات.
4 ـ التكفير بالذنوب واستحلال دماء المسلمين وأموالهم:
قال ابن تيمية: والفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع، أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان، وكذلك يقول جمهور الرافضة..
فهذا أصل البدع التي ثبتت بنص سنة الرسول ﷺ، وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة، وجعل السيئة كفراً.
وقد تميز الخوارج باراء خاصة فارقوا بها جماعة المسلمين، ورأوها من الدين الذي لا يقبل الله غيره، ومن خالفهم فيها فقد خرج من الدين في زعمهم، فأوجبوا البراءة منه، بل إن منهم من غلا في ذلك، فأوجبوا قتال من خالفهم واستحلوا دماءهم، فمن ذلك أنهم قتلوا عبد الله بن خباب بغير سبب غير أنه لم يوافقهم على رأيهم.
وقال ابن كثير: فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم.
وقال ابن تيمية: وكانت البدعة الأولى مثل بدعة الخوارج، إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب، إذ كان المؤمن هو البر التقي، قالوا: فمن لم يكن براً تقياً فهو كافر وهو مخلد في النار، ثم قالوا: وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله، فكانت بدعتهم لها مقدمتان:
الأولى: أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر.
والثانية: أن عثمان وعلياً ومن والاهما كانوا كذلك.
ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المؤمنين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام فكفر أهلها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقد ثبت عن النبي ﷺ أحاديث صحيحة في ذمهم والأمر بقتالهم.

5 ـ تجويزهم على النبي ـ ﷺ ـ ما لا يجوز في حقه كالجور:
قال ابن تيمية: والخوارج جوزوا على الرسول ﷺ نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف ـ بزعمهم ـ ظاهر القرآن، وغالب أهل البدع والخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا، فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه... وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة، إما برد النقل، وإما بتأويل المنقول، فيطعنون تارةً في الإسناد، وتارةً في المتن، وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول ﷺ، بل ولا بحقيقة القرآن.
6 ـ الطعن والتضليل:
من أبرز صفات الخوارج الطعن في أئمة الهدى وتضليلهم والحكم عليهم بالخروج عن العدل والصواب، وقد تجلَّت هذه الصفة في موقف ذي الخويصرة مع رسول الهدى ﷺ، حيث قال ذو الخويصرة: يا رسول الله اعدل، فقد عَدَّ ذو الخويصرة نفسه أورع من رسول الله ﷺ، وحكم على رسول الله ـ ﷺ ـ بالجور والخروج على العدل في القسمة! وإن هذه الصفة قد لازمتهم عبر التاريخ، وقد كان لها أسوأ الأثر لما ترتب عليها من أحكام وأعمال.
7 ـ سوء الظن:
هذه صفة أخرى للخوارج تجلت في حكم ذي الخويصرة الجهول على رسول الهدى ﷺ بعدم الإخلاص، حيث قال: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فذو الخويصرة الجهول لما رأى رسول الله ﷺ قد أعطى السادة الأغنياء، ولم يعطِ الفقراء، لم يحمل هذا التصرف على المحمل الحسن، وهذا شيء عجيب خصوصاً وأن دواعيه كثيرة، فلو لم يكن إلا أن صاحب هذا التصرف هو رسول الهدى ﷺ، لكفى به داعياً إلى حسن الظن، ولكن ذا الخويصرة أبى ذلك، وأساء الظن لمرضه النفسي، وحاول أن يستر هذه العلة بستار العدل، وبذلك ضحك منه إبليس، واحتال عليه، فأوقعه في مصايده.
فينبغي للمرء أن يراقب نفسه، وأن يدقق في دوافع سلوكه ومقاصده، وأن يحذر هواه، وأن يكون منتبهاً لحيل إبليس لأنه كثيراً ما يزين العمل السيِّئ بغلاف حَسَن براق، ويبرر السلوك القبيح باسم مبادئ الحق. ومما يعين المرء على وقاية نفسه، والنجاة لها من حيل الشيطان ومصايده: العلم، فذو الخويصرة لو كان عنده أثارة من علم، أو ذرة من فهم لما سقط في هذا المزلق.
8 ـ الشدة على المسلمين:
عرف الخوارج بالغلظة والجفوة، وقد كانوا شديدي القسوة والعنف على المسلمين، وقد بلغت شدتهم حداً فظيعاً، فاستحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم؛ فروَّعوهم وقتلوهم، أما أعداء الإسلام من أهل الأوثان وغيرهم فقد تركوهم ووادعوهم فلم يؤذوهم.
ولقد سجل التاريخ صحائف سوداء للخوارج في هذا السبيل، وما قصة عبد الله بن خباب ومقتله عنا ببعيد، فمعاملة الخوارج للمسلمين مصحوبة بالقسوة والشدة والعنف، وأما للكافرين، فلين وموادعة ولطف، فقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدة على الكفار، وإلى الرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج، قال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ﴾ [المائدة: 54]؛ فالخوارج عكسوا الآيات، فأرهبوا المسلمين وروَّعوهم، هذه بعض الصفات التي اشتهر بها الخوارج.
ثامناً: بعض الآراء الاعتقادية للخوارج:
ومع مرور الزمن استقرت آراء عقائدية خاصة بفرقة الخوارج، وخالفوا فيها كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، ومن هذه الآثار المنحرفة:
1 ـ تكفير صاحب الكبيرة:
إن الخوارج يكفِّرون مرتكب الكبيرة، ويحكمون بخلوده في النار، وقد استدلوا على معتقدهم ذلك بأدلة:
أ ـ استدلوا بقوله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 81]؛ فقد استدلوا بهذه الآية على تخليد أصحاب المعاصي في النار، وقالوا: إنه لا أمل للعاصي الذي يموت على معصيته في رحمة الله، فزعموا أن الخطيئة تحيط بالإنسان فلا يبقى له معها حسنة مقبولة، حتى الإيمان فإنها تذهبه.
ولكن الأمر عكس ما ذهبوا إليه، وهذه الآية نفسها ترد مذهبهم؛ فقد دلت على أن من أحاطت به خطيئته فإنه يخلد في النار، وليس هناك خطيئة تحيط بالإنسان وتحبط أعماله ويخلد بسببها في النار إلا الكفر والشرك بالله، ويؤيد هذا أن تلك الآية نزلت في اليهود، وهم قد أشركوا بالله وحادوا عن سبيله، ومما يبطل زعمهم أيضاً: أن الله قد أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لا بد أن تكون سيئة محيطة به، وقيل: هي الشرك، روي هذا عن ابن عباس. وروي عنه: أن معنى هذه الآية: من كفر حتى يحيط به كفره، فلا تقبل له حسنة، وهذا أولى لما ثبت في السنة تواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار.
ثم إن قوله تعالى: وسيئة نكرة؛ فهي عامة لجميع أنواع السيئات، ﴿ مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً ﴾ الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: والمراد بها هنا الشرك، بدليل قوله تعالى: أي: أحاطت ﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾، فلم تدع له منفذاً، وهذا لا يكون إلا الشرك؛ فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية، وهي حجة عليهم كما ترى، فإنها ظاهرة في الشرك، وهكذا كل مبطل يحتج بآية أو حديث صحيح على قوله الباطل، فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه. وغير ذلك من الأدلة التي رد عليها علماء أهل السنة والجماعة كل في محله.
ويمكن أن نُجْمِل الرد على الخوارج في تكفيرهم لصاحب الكبيرة، وذلك من عدة وجوه:
أ ـ أن مرتكب الكبيرة لو كان كافراً لكان حكمه حكم غيره ممن كفر بعد إيمانه، وهو أن يكون مرتداً يجب قتله، لقوله ﷺ: «من بدل دينه فاقتلوه»، ولقوله ﷺ: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة».
فهذان الحديثان وغيرهما من أدلة حكم المرتد تفيد أن كل من كفر بعد إيمانه فحكمه القتل، لكن نصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، كما قال تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2]، وقال الله تعالى في حكم السارق: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38]، وورد في شارب الخمر ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً كان على عهد النبي ﷺ كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله ﷺ، وكان النبي ﷺ قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي ﷺ: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله»، فقد أمر النبي ﷺ بجلد شارب الخمر ولم يقتله، بل نهى عن لعنه بعينه، وشهد لهذا الرجل بحب الله ورسوله، مع أنه قد تكرر منه شرب الخمر عدة مرات، ولم يحكم على هذا ولا على السارق والزاني بالكفر ولا قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين، كان يستغفر لهم ويقول: «لا تكونوا أعوان الشيطان على أخيكم».
وقد أجمعت الأمة من الصحابة والتابعين على ذلك إلا من شذَّ عنهم، فلا عبرة بقوله، ثم أيضاً أنه لو كان صاحب الكبيرة كافراً لوجب التفريق بينه وبين زوجته المؤمنة، والمرأة كذلك، وكذلك أيضاً فإنه لا يرث مسلماً ولا يرثه مسلم، ولكن النبي ﷺ لم يفرق بين من فعل معصية وبين زوجته، ولم يحرمه من ميراث من له الإرث منه، وكذلك صحابته والتابعون لهم بإحسان، فثبت يقيناً أنه غير كافر.
ب ـ أن الله سبحانه وتعالى سمَّى أهل الكبائر مؤمنين مع ارتكابهم لها في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 9 ـ10].
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم.
ومثل هذه الآية أيضاً قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178]؛ قال ابن حزم رحمه الله: فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان من كان فيهم من قاتل أو مقتول، ونص تعالى على أن القاتل عمداً وولي المقتول أخوان، وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ فصح أن القاتل عمداً مؤمن بنص القرآن، وحكم له بأخوة الإيمان، ولا يكون للكافر مع المؤمنين تلك الأخوة.
فهذه بعض أدلة أهل السنة في ردهم على قول الخوارج في مرتكب الكبيرة، وقد استقر هذا المعتقد عند علماء أهل السنة وسطروه في كتبهم، وإليك بعض أقوالهم:
2 ـ رأيهم في الإمامة:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، قيل له: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: يؤمن بها السبيل وتقام بها الحدود، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء.
ولهذا كان حكم الإمامة واجباً على الأمة الإسلامية، إذ لو بقوا بلا إمام لأثموا جميعاً لقوله تعالى: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59]، قال ابن كثير في الآية: الظاهر والله أعلم أن الآية عامة في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء؛ وهذا هو الراجح، ووجه الاستدلال من هذه الآية: أنه سبحانه أوجب على المسلمين طاعة أولي الأمر منهم وهم الأئمة، والأمر بالطاعة دليل على وجوب نصب ولي الأمر؛ لأن الله تعالى لا يأمر بطاعة من لا وجود له، ولا يفرض طاعة من وجوده مندوب، فالأمر بطاعته يقتضي الأمر بإيجاده فدل على أن إيجاد إمام للمسلمين واجب عليهم، وقد قال رسول الله ﷺ: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، أي: بيعة الإمام، وهذا واضح الدلالة على وجوب نصب الإمام؛ لأنه إذا كانت البيعة واجبة في عنق المسلم، والبيعة لا تكون لإمام، فنصب الإمام واجب، وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم، وكذلك من بعدهم على وجوب الإمامة، ومما يحتم بوجوب الإمامة، ما وردت به الشريعة من الأحكام الواجبة التي لا يتولاها إلا الإمام ولا تصح بدونه، وذلك مثل: الجهاد والحج وإقامة الحدود ونحو ذلك، مما لا يتم إلا بالقوة والإمارة.
وقد بينت الشريعة أن من حقوق الإمام: السمع والطاعة في غير معصية الله تعالى، فقد قال رسول الله ﷺ: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني».
وقد أوجب الشارع طاعة الإمام ما لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية الله فلا يجوز طاعته فيها، ولا إعانته عليها، ويجب أن يعان على طاعة الله، وأن يستعان به عليها ما أمكن ذلك، فيكون موقف المسلم النصيحة لولاة أمور المسلمين، لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح، عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: «الدين النصيحة» ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم».
قال ابن حجر: والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن، ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببث علومهم ونشر مناقبهم وتحسين الظن بهم.
وقد خالف الخوارج ذلك المبدأ الرشيد، فرأوا الخروج على أئمة المسلمين عند أتفه الأسباب، وقد فعلوا ذلك مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه، فسفكوا الدماء، وقطعوا السبل، وضيَّعوا الحقوق، وسعوا في إضعاف المسلمين حتى تكالبت عليهم الأعداء، فهذا من أضرار الخروج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد خالفت الخوارج ما كان عليه جمهور المسلمين من اشتراط النسب القرشي في الإمام، وقالوا: إنه لا خصوصية لقريش فيها ولا مزية لهم عن سواهم، بل كل من صار أهلاً لها جاز توليته من دون أي نظر إلى نسبه، وقد احتجوا لمذهبهم بما يلي:
أ ـ قالوا: لأن اشتراط القرشية يخالف المعقول، إذ لا يمنع العقل أن يوجد في غيرهم من هو أفضل منهم.
ب ـ لم يجعل الله النبوة في قوم خاصين؛ فكيف يجعل الإمامة كذلك؟!
ج ـ أن القرآن لا يدل على ذلك لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
د ـ استدلوا بقوله ﷺ: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».
هـ واستدلوا بقوله ﷺ: «وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدَّع الأنف، فاسمعوا وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله».
و ـ لم يثبت الأنصار القرشية في الإمامة، ولو أثبتوها لما طالبوا في الإمامة ولرد عليهم المهاجرون بها.
ز ـ أن رسول الله ﷺ قد ولى على الأمم من غير قريش والولايات والإمارات عن الإمارة العظمى، فما جاز فيها جاز في فروعها، وما امتنع فيها امتنع في فروعها.

وجوه الرد على الخوارج:

أ ـ أما احتجاجهم بالعقل، فهو مردود لأنه لا حجة فيه مع ثبوت النص والإجماع.
ب ـ وأما احتجاجهم بأن الله لم يجعل النبوة خاصة بقوم فلا حجة في ذلك؛ لأن الله يصطفي للنبوة والرسالة أصلح الناس لها، والخلق لا يستطيعون القطع على أن فلاناً أصلح من غيره، ولا يقارن اختيار المخلوق مع اختيار الخالق، وأما الميزة لقريش فهي على جهة العموم لما كانت تحتله من المكانة الدينية والاجتماعية في قلوب الناس.
ج ـ وأما استدلالهم بقوله تعالى: وقوله ﷺ: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، فالجواب على هذا من وجهين:
د ـ أن يراد بالآية والحديث المفاضلة بين الناس عامة، فلا شك أن من فضل على صاحبه بزيادة في التقوى؛ فهو أكرم منه وأفضل عند الله، وهذا بغض النظر عن الإمامة، وهذا هو المراد بالآية والحديث؛ لأن دلالة كل منهما عامة.
هـ- أما من جهة الإمامة فلا شك أيضاً أن من زاد على غيره بالعدل والتقوى والصلاح مع توفر باقي شروط الإمامة فيه، فهو أولى؛ لكن لا ننسى أن النسب القرشي شرط، ولا تعارض بين تلك الشروط.
و ـ وأما احتجاجهم بما ورد في وجوب السمع والطاعة وإن كان الأمير عبداً حبشياً، فهذا الأمر لا إشكال فيه، وقد ورد فيه عدة روايات؛ منها قوله ﷺ: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة»، وهذا لا يمنع اشتراط الإمامة في قريش، وهو عند أهل السنة مخرج على ثلاثة أمور:
1 ـ أن يكون العبد مستعملاً من جهة الإمام القرشي، وليس هو الإمام الأعظم.
2 ـ قد قيل: إن العبد الحبشي إنما ذكره على وجه ضرب المثل وإن لم يصح وقوعه، كما قال ﷺ فيمن بنى مسجداً ولو كمفحص قطاة، ومفحص القطاة لا يمكن أن يكون مسجداً.
3 ـ أنه أطلق على طريق المبالغة في وجوب السمع والطاعة، أو باعتبار ما كان قبل العتق.
ز ـ وأما دعواهم أن الأنصار لم يثبتوا أحقية قريش في الخلافة، فهذا غير صحيح، بل الصحيح أنهم أذعنوا لذلك، وحصل الإجماع على أحقية قريش في الخلافة.
قال الإمام الأشعري رحمه الله: اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة بمدينة رسول الله ﷺ وأرادوا عقد الإمامة لسعد بن عبادة، وبلغ ذلك أبا بكر وعمر ـ رضوان الله عليهما ـ، فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين، فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم بقول النبي ﷺ: «الأئمة من قريش»، فأذعنوا لذلك منقادين، ورجعوا إلى الحق طائعين، بعد أن قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وبعد أن جرد الحباب بن المنذر سيفه وقال: أنا خبيلها المحكك، وعذيقها المرجب؟. ثم بايعوا أبا بكر رضوان الله عليه، واجتمعوا على إمامته، واتفقوا على خلافته، وانقادوا لطاعته.
وأما احتجاجهم بفعل النبي ﷺ، حيث ولى على بعض الأمصار أو الجيوش من غير قريش، فلا حاجة لهم في هذا لأنه ليس في الإمامة العظمى، ولا نسلم لهم أن ما جاز في الفرع جاز في الأصل.
قال ابن حجر رحمه الله: وأما ما احتج به من لم يعين الخلافة في قريش من تأمير عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم في الحروب؛ فليس من الإمامة العظمى في شيء، بل فيه أنه يجوز استنابة غير القرشي في حياته، والله أعلم.
أدلة أهل السنة القائلين باشتراط النسب القرشي:
أ ـ قوله ﷺ: «إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين».
ب ـ قوله ﷺ: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»، وفي رواية لمسلم: «ما بقي من الناس اثنان».
ج ـ وقوله ﷺ: «الناس تبع لقريش».
د ـ انعقاد الإجماع، فقد حكاه غير واحد من العلماء منهم: النووي؛ حيث قال في شرحه لحديث: «الناس تبع لقريش... إلخ» هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة.
ومنهم القاضي عياض؛ فقد نقل عنه النووي قوله: اشتراط كونه ـ أي: الإمام ـ قرشياً هو مذهب العلماء كافة، قال: وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة، فلم ينكره أحد، قال القاضي: وقد عدها العلماء في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل، يخالف ما ذكرنا، وكذلك من بعدها في جميع الأعصار. قال: ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش، ولا سخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من النبط وغيرهم يقدّم على القرشي لهوان خلعه إن عرض منه أمر، وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين، والله أعلم.
وممن حكى هذا الإجماع أيضاً الماوردي والإيجي، وابن خلدون، والغزالي.
ومن المحدثين محمد رشيد رضا، حيث قال: أما الإجماع على اشتراط القرشية قد ثبت بالنقل والفعل، رواه ثقات المحدثين، واستدل به المتكلمون وفقهاء مذاهب السنة كلهم، وجرى عليه العمل بتسليم الأنصار وإذعانهم لبني قريش، ثم إذعان السواد الأعظم من الأمة عدة قرون.
ولكن الحافظ ابن حجر اعترض على هذا الإجماع بقوله: ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: إن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل.. الحديث، ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش، إن الأثر المنسوب إلى عمر ضعيف لانقطاعه كما بين بعض أهل العلم.
ومال الإمام الجويني إلى عدم اشتراط النسب القرشي، وقد اختلف قول أبي بكر الباقلاني، فاشترط القرشية في كتابه الإنصاف، ولم يشترطها في كتابه التمهيد.
وإلى نفي اشتراط القرشية ذهب أكثر المحدثين؛ منهم: محمد أبو زهرة في كتابه (المذاهب الإسلامية)، وذهب إلى أن الأحاديث الواردة مجرد أخبار لا تفيد حكماً. ومنهم العقاد، ومنهم د. علي حسني الخربوطلي في كتابه (الإسلام والخلافة) ، وتجرأ على رمي الأحاديث المذكورة بالوضع، ومنهم د. صلاح الدين دبوس في كتابه (الخليفة توليته وعزله)، وذهب إلى أن هذه الأحاديث مجرد أخبار، ومنهم الأستاذ محمد المبارك رحمه الله، فقد اعتبرها من باب السياسة الشرعية المتغيرة بتغير العوامل، والراجح هو ما ذهب إليه جمهور المسلمين من اشتراط النسب القرشي للإمامة، لورود الأدلة الصريحة في أحقيتهم، ولإجماع الصحابة ومن بعدهم على ذلك، وأدلة المخالفين ليس فيها حجة على عدم الاشتراط.
لكن أحقية قريش في الخلافة لا بد فيها من شرطين:
الأول: إقامتهم للدين لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين».
الثاني: أن لا يكون هناك إمام قائم، فإن كان ثمة إمام فلا أحقية لهم فيها، فيكون اشتراط النسب القرشي في ابتداء الولاية وعند الاختيار لا في استمرارها، إذ إن الإمام القائم لا تجوز منازعته ولا الخروج عليه لا من قريش ولا من غيرها، ما دام قائماً بأمر الله، ولم ينحرف عن شرعه، ولم نر منه كفراً بواحاً، أما إذا خرج منه كفر بواح فالأمر منوط بالقدرة، وخاضع لفقه المصالح والمفاسد.
تاسعاً: طعنهم في بعض الصحابة، وتكفيرهم لعثمان وعلي رضي الله عنهما:
امتاز الخوارج عن الشيعة الرافضة بإثباتهم إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، فهم يعتقدون أن إمامة أبي بكر وعمر إمامة شرعية، لا شك في صحتها ولا ريب عندهم في شرعيتها، وأن إمامتهما كانت برضا المؤمنين ورغبتهم، وأنهما سارا على الطريق المستقيم الذي أمر الله به لم يغيرا ولم يبدلا حتى توفاهما الله تعالى على ما يرضيه من العمل الصالح والنصح للرعية، وهذا الاعتقاد منهم حق وصدق، فلقد كانا رضي الله عنهما كذلك، ولا يشك في هذا إلا من فتن بمعتقد الرافضة.
وهذا المعتقد للخوارج تجاه الشيخين حالفهم فيه السداد والصواب، وكانوا موفقين فيه، لكنهم هلكوا فيمن بعدهما؛ حيث قادهم الشيطان وأخرجهم عن الحق والصواب في اعتقادهم في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فلقد حملهم على إنكار إمامة عثمان رضي الله عنه في المدة التي نقم عليه أعداؤه فيها، كما أنكروا إمامة علي أيضاً بعد التحكيم، بل أدى بهم سوء معتقدهم إلى تكفيرهما وتكفير طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وأصحاب الجمل وصفين.
وقد وجه الخوارج إلى هؤلاء الأخيار من الصحابة طعناً عاماً يشملهم جميعاً، ووجهوا إلى بعضهم طعناً على وجه الخصوص.
فطعنهم فيهم على وجه عام: أنهم يعتقدون فيهم أنهم كفروا، وقد دون أهل العلم هذا المعتقد السيِّئ عنهم في كتبهم، فقد قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله: والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر، وينكرون إمامة عثمان في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يحكم، وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم، ويكفرون معاوية، وعمرو بن العاص، وأبا موسى الأشعري.
وقال ابن تيمية رحمه الله: وكان شيطان الخوارج مقموعاً لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا وكفَّروا علياً ومعاوية ومن والاهما، فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب.
وقال الشهرستاني بعد تعداده لكبائر فرق الخوارج: ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة، وقال في المحكمة الأولى: وطعنوا في عثمان رضي الله عنه للأحداث التي عدوها عليه، وطعنوا في أصحاب الجمل وأصحاب صفين.
وقال في الأزارقة بعد أن ذكر أنهم يعتقدون كفر علي رضي الله عنه؛ قال: وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة، وزادوا عليه تكفير عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في النار، وهذا المعتقد واضح البطلان بمجرد سماعه، واعتقاده ضلال وغواية وترك للحق جانباً، والخوارج استهواهم الشيطان بمعتقدهم هذا، فكانوا له تبعاً فاعتقادهم كفر من تقدم ذكرهم من أصحاب رسول الله ﷺ باطل لأمور عدة:
الأمر الأول: أن الله تعالى أخبر بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وكذا رسوله ﷺ أخبر بأنهم أفضل أمته، فقد قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
فقد نوَّه سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وذلك لقيامهم الكامل بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما ذلك إلا لما بلغوا إليه من كمال الإيمان وقوة اليقين، ولأنهم حققوا صفات الخيرية المنوه عنها في هذه الآية، فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: قال: هم الذين هاجروا مع ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ الله ﷺ من مكة إلى المدينة.
وقال ﷺ: «خير الناس القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث» وإنما كان قرنه خير الناس لأنهم آمنوا به حين كفر الناس، وصدقوه حين كذبوه، ونصروه حين خذلوه، وجاهدوا وآووا.
وأفراد الصحابة الذين يعتقد الخوارج المارقون كفرهم هم من الذين هاجروا مع رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة، وفي مقدمة من يتناوله هذا الثناء العالي الرفيع هم هؤلاء، فهم من أهل الهجرة، ومن الذين آمنوا بالنبي ﷺ حين كفر به الناس، وهم من الذين جاهدوا معه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فالآية والحديث فيهما شهادة الله ورسوله للصحابة عموماً بأنهم خير أمة محمد ﷺ.
وأبرز الصحابة الذين تكفرهم الخوارج؛ كعلي والزبير وطلحة وغيرهم وردت أحاديث في حقهم بأنهم من أهل الجنة، وقد بشرهم رسول الله ﷺ بذلك.
الأمر الثاني: شهادة الله لهم بالإيمان الحقيقي الخالص في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [آل عمران: 68] فكلمة ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ في هذه الآية أول ما ينطلق هذا اللفظ على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، إذ إنهم أول وأفضل من دخل في هذا الخطاب بلا نزاع، ولكن الخوارج أزاغ الله قلوبهم فلم يهتدوا إلى شهادة العليم الخبير بحقيقة الإيمان للصحابة الذين كفَّروهم أو تبرؤوا منهم.
الأمر الثالث: أن الرب تبارك وتعالى أخبر في محكم كتابه العزيز: أنه رضي عن الصحابة ورضوا عنه، وأنه وعدهم بالخلود في الجنات والفوز العظيم، قال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].
ففي هذه الآية صرح تعالى أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهو دليل قرآني صريح في أن من يعتقد كفرهم فهو ضالٌّ مخالف لله جل وعلا، حيث كفَّر من رضي الله عنه، ولا شك أن تكفير من رضي الله عنه مضادة له جل وعلا، وتمرد وطغيان، وهذه صفة الرافضة والخوارج المارقة، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، وفي هذه الآية أعلن الله رضاه عن جيش الإيمان الذين حضروا الحديبية من صحابة رسول الله ﷺ؛ والذين كان منهم علي وطلحة والزبير، وعثمان رضي الله عنه كان في مكة رسولاً لرسول الله ﷺ فبايع له النبي ﷺ، وجعل يده عن يده، فكانت خيراً له من يده.
الأمر الرابع: أن الكفر بعيد الوقوع من قوم أخبر الله جل وعلا أنه بغَّض إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين، قال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7].
وأما الآية فقد أخبر تعالى فيها أنه جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة، فاستحقُّوا بذلك أن يكونوا هم الراشدين، كما نطقت بذلك الآية الكريمة، فكيف يكفر أولئك الخيرة على زعم الرافضة والخوارج المارقة، وعليهم تتلى ايات الله وفيهم رسوله؟ بل كيف يكفرون وقد كرّه الله إليهم الكفر وجعلهم راشدين؟ فلقد زاغ الخوارج الجهلاء بزعمهم كفر عثمان وعلي وطلحة والزبير وابن عباس وعائشة وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري ومعاوية وأصحاب الجمل وصفين من الصحابة الكرام.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022