موقف أمير المؤمنين علي من الخوارج والشيعة
الحلقة السبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
أولاً: نشأة الخوارج والتعريف بهم:
عرف أهل العلم الخوارج بتعريفات؛ منها ما بيَّنه أبو الحسن الأشعري: أن اسم الخوارج يقع على تلك الطائفة الذين خرجوا على رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبيَّن أن خروجهم على علي هو العلة في تسميتهم بهذا الاسم، حيث قال رحمه الله تعالى: والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على علي بن أبي طالب لما حكم.
وأما ابن حزم فقد بين أن اسم الخارجي يتعدى إلى كل من أشبه أولئك النفر الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وشاركهم في معتقدهم، فقد قال: ومن وافق الخوارج من إنكار التحكيم وتكفير أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أئمة الجور، وأن أصحاب الكبائر مخلدون في النار، وأن الإمامة جائزة في غير قريش؛ فهو خارجي، وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون وخالفهم فيما ذكرنا فليس خارجياً.
وأما الشهرستاني: فقد عرف الخوارج بتعريف عام اعتبر فيه الخروج على الإمام الذي اجتمعت الكلمة على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمان كان، حيث قال في تعريفه للخوارج: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواءً كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان وقال ابن حجر معرفاً لهم: والخوارج: الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرؤوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة. وقال في تعريفٍ آخر: أما الخوارج فهم جمع خارجة، أي: طائفة، وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم على الدين وخروجهم على خيار المسلمين.
وأما أبو الحسن الملطي: فيرى أن أول الخوارج المحكمة، الذين ينادون: لا حكم إلا لله، ويقولون: علي كفر، بجعل الحكم إلى أبي موسى الأشعري ولا حكم إلا لله: فرقة الخوارج، سميت خوارج لخروجهم على علي رضي الله عنه يوم الحكمين، حين كرهوا التحكيم، وقالوا: لا حكم إلا لله.
وأما الدكتور ناصر العقل فيقول: هم الذين يكفرون بالمعاصي، ويخرجون على أئمة الجور.
فالخوارج هم أولئك النفر الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم في موقعة صفين، ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب الخوارج، ومن تلك الألقاب: الحرورية، والشراة، والمارقة، والمحكمة، وهم يرضون بهذه الألقاب كلها؛ إلا بالمارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
ومن أهل العلم من يرجع بداية نشأة الخوارج إلى زمن الرسول ﷺ، ويجعل أول الخوارج ذا الخويصرة الذي اعترض على الرسول ﷺ في قسمة ذهب كان قد بعث به علي رضي الله عنه من اليمن في جلد مقروظ؛ فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله ﷺ من اليمن بذهبة في أديم مقرظ، لم تحصَّل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر، بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن كلاثة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي ﷺ، فقال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء»، قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة، كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، فقال: «ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله»، قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقال: «لا، لعله أن يكون يصلي»، قال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله ﷺ: «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس. ولا أشق بطونهم»، قال: ثم نظر إليه وهو مقفٍ، فقال: «إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، قال: أظنه قال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود».
قال ابن الجوزي عند هذا الحديث: أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة التميمي، وفي لفظ: أنه قال له: اعدل، فقال: «ويلك ومن لم يعدل إذا لم أعدل»؟!، فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وافته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله ﷺ، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وممن أشار بأن أول الخوارج ذو الخويصرة، أبو محمد بن حزم، وكذا الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل).
ومن العلماء من يرى بأن نشأة الخوارج بدأت بالخروج على عثمان رضي الله عنه بإحداثهم الفتنة التي أدت إلى قتله رضي الله عنه ظلماً وعدواناً، وسميت تلك الفتنة التي أحدثوها بالفتنة الأولى، وقال شارح الطحاوية: فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الأولى، وقد أطلق ابن كثير على الغوغاء الذين خرجوا على عثمان وقتلوه اسم الخوارج، حيث قال في صدد ذكره لهم بعد قتلهم عثمان رضي الله عنه: وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال وكان فيه شيء كثير جداً.
الرأي الراجح في بداية نشأة الخوارج:
وبالرغم من الارتباط القوي بين ذي الخويصرة والغوغاء الذين خرجوا على عثمان، وبين الخوارج الذين خرجوا على علي بسبب التحكيم؛ فإن مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لا ينطبق إلا على الخارجين بسبب التحكيم، بحكم كونهم جماعة في شكل طائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة، أحدثت أثراً فكرياً وعقائدياً واضحاً، بعكس ما سبقها من حالات.
ثانياً: ذكر الأحاديث التي تتضمَّن ذم الخوارج:
وردت أحاديث كثيرة عن النبي ﷺ في ذم الخوارج المارقة، وصفوا فيها بأوصاف ذميمة شنيعة جعلتهم في أخبث المنازل.
فمن الأحاديث التي وردت الإشارة فيها إلى ذمهم: ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ وهو يقسم قسماً، إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟!، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل»، فقال عمر: يا رسول الله! ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: «دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه، فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نفسه، وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، وقد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس»، قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله ﷺ، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظر إليه على نعت النبي ﷺ الذي نعته.
وروى الشيخان أيضاً من حديث أبي سلمة وعطاء بن يسار: أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية؛ هل سمعت النبي ﷺ يقول: «يخرج في هذه الأمة ـ ولم يقل منها ـ قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم ـ أو حناجرهم ـ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة؛ هل علقت بها من الدم شيء.
وروى البخاري من حديث يسير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي ﷺ يقول في الخوارج شيئاً؟ قال: سمعته يقول: وأهوى بيده قبل العراق: «يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية».
ففي هذه الأحاديث الثلاثة ذم واضح لفرقة الخوارج، فقد وصفهم ﷺ بأنهم طائفة مارقة، وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد، بل يمرقون منه بحيث يدخلون فيه ثم يخرجون منه سريعاً لم يتمسكوا منه بشيء، كما اشتمل الحديث الأول في هذه الثلاثة الأحاديث أنهم يقاتلون أهل الحق، وأن أهل الحق يقتلونهم، وأن فيهم رجلاً صفة يده كذا وكذا، وكل هذا وقع وحصل كما أخبر به ﷺ.
وفي قوله ﷺ: «لا يجاوز تراقيهم» احتمالات:
1 ـ يحتمل أنه لكون قلوبهم لا تفقه، ويحملونه على غير المراد به.
2 ـ يحتمل أن يكون المراد أن تلاوتهم لا ترتفع إلى الله.
ومن صفاتهم الذميمة التي ذمهم بها الرسول ﷺ: أنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق به، وأنهم أصحاب عقول رديئة وضعيفة، وأنهم عندما يقرؤون القرآن يظنون لشدة ما بلغوا إليه من سوء الفهم أنه لهم؛ وهو عليهم.
فقد روى البخاري رحمه الله من حديث علي رضي الله عنه: أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله ﷺ حديثاً؛ فوالله لأن آخر من السماء أحبّ إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان؛ أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
وفي هذين الحديثين ذم للخوارج بأنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق، فقد دلَّ الحديث الأول على أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب، وأما هذا الحديث الذي هو حديث زيد بن وهب الجهني عن علي رضي الله عنه فقد أطلق الإيمان فيه على الصلاة، وكلا الحديثين دلاّ على أن إيمانهم محصور في نطقهم وأنه لا يتجاوز حناجرهم، ولا تراقيهم، وهذا من أبشع الذم وأقبحه لمن وصف به.
ومن الصفات القبيحة التي ذمهم بها عليه الصلاة والسلام: أنهم يمرقون من الدين ولا يوفقون للعودة إليه، وأنهم شر الخلق والخليقة: فقد روى مسلم رحمه الله من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن بعدي من أمتي ـ أو سيكون بعدي من أمتي ـ قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة».
وروي من حديث أبي سعيد: أن النبي ﷺ ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالف قال: «هم شر الخلق ـ أو من شر الخلق ـ، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق».
ومن صفاتهم التي ذُمّ بها الخوارج على لسان رسول الله ﷺ أنهم من أبغض الخلق إلى الله:
فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ: أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله ﷺ وصف ناساً إني لأعرف صفتهم، وهؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم ـ وأشار إلى حلقه ـ من أبغض خلق الله إليهم؛ منهم أسود إحدى يديه طبي شاة، أو حلمة ثدي، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: انظروا؛ فلم يبدو شيئاً، فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثاً، ثم وجدوه في خربة، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم.
ومن صفاتهم القبيحة التي كانت ذماً لهم على لسان رسول الله ﷺ أنهم حرموا من معرفة الحق والاهتداء إليه، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث يُسَيْر بن عمرو عن سهل بن حنيف عن النبي ﷺ قال: يتيه قوم قبل المشرق محلقة رؤوسهم، قال النووي: قوله ﷺ: يتيه قوم قبل المشرق، أي: يذهبون عن الصواب، وعن طريق الحق، يقال: تاه إذا ذهب ولم يهتد لطريق الحق والله أعلم.
ومن الصفات المذمومة التي تلبسوا بها، وأخبر النبي ﷺ أنها واقعة فيهم: أنهم يتدينون بقتل أهل الإسلام، وترك عبدة الأوثان والصلبان:
فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري قال: بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله ﷺ، قسمها رسول الله ﷺ بين أربعة نفر... فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد، فقال رسول الله ﷺ: «فمن يطع الله إن عصيته؟!، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!» قال: ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله؛ يرون أنه خالد بن الوليد، فقال رسول الله ﷺ: «إن من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد».
وفي هذا معجزة باهرة للرسول ﷺ؛ حيث وقع منهم ما أخبر به ﷺ، فإنهم كانوا يسلون سيوفهم على أهل الإسلام بالقتل، وكانوا يغمدونها عن الكفار من اليهود والنصارى، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
ومن الصفات القبيحة التي كانت ذماً وعاراً مشيناً للخوارج: أن الرسول ﷺ حَرَّض على قتلهم إن هم ظهروا، وأخبر عليه الصلاة والسلام: أنه لو أدركهم لأبادهم بالقتل إبادة عاد وثمود، وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن من قتلهم له أجر عند الله تعالى يوم القيامة.
وقد شرف الله رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب بمقاتلتهم؛ وقتلهم؛ إذ إن ظهورهم كان في زمنه رضي الله عنه وأرضاه، على وفق ما وصفهم به رسول الله ﷺ من العلامات الموجودة فيهم، فقد خرج رضي الله عنه إلى الخوارج بالجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينجُ منهم إلا دون العشرة، كما سيأتي بيانه.
ولم يقاتلهم رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، ولما أظهروه من الشر من أعمالهم وأقوالهم.
وحسبنا هنا من الأحاديث الواردة في ذم الخوارج ما تقدم ذكره، إذ الأحاديث الواردة في ذمهم كثيرة قلما يخلو منها كتاب من كتب السنة المطهرة. وسيأتي الحديث في الصفات القادمة بإذن الله تعالى عن بداية انحيازهم إلى حروراء، ومناظرة ابن عباس لهم، وحرص أمير المؤمنين علي على تبصيرهم وهدايتهم، وعن أسباب معركة النهروان والنتائج التي ترتبت عليها، وعن أحوال الخوارج، ومناقشة تلك الأصول، وهل الفكر الخارجي لا زالت أفكاره موجودة بين الناس؟ وما أسباب ذلك؟ وكيفية معالجتها؟
ثالثاً: انحياز الخوارج إلى حروراء ومناظرة ابن عباس لهم:
انفصل الخوارج في جماعة كبيرة من جيش علي رضي الله عنه أثناء عودته من صفين إلى الكوفة، قدّر عددها في رواية: ببضعة عشر ألفاً، وحدّد في رواية: باثني عشر ألفاً، وفي رواية: بثمانية آلاف، وفي رواية: بأنهم أربعة عشر ألفاً، كما ذكر: أنهم عشرون ألفاً، وهذه الرواية التي تذكر أنهم عشرون ألفاً، قد جاءت بدون إسناد.
وقد انفصل هؤلاء عن الجيش قبل أن يصلوا إلى الكوفة بمراحل، وقد أقلق هذا التفرق أصحاب علي وهالهم، وسار علي بمن بقي من جيشه على طاعته حتى دخل الكوفة، وانشغل أمير المؤمنين بأمر الخوارج خصوصاً بعدما بلغه تنظيم بجماعتهم من تعيين أمير للصلاة وآخر للقتال، وأن البيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يعني انفصالهم فعلياً عن جماعة المسلمين، وكان أمير المؤمنين علي حريصاً على إرجاعهم بجماعة المسلمين، فأرسل ابن عباس إليهم لمناظرتهم، وهذا ابن عباس يروي لنا الحادثة، فيقول: فخرجت إليهم ولبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، وترجّلت، ودخلت عليهم في دار نصف النهار، وكان ابن عباس رجلاً جميلاً جهيراً، فقالوا: مرحباً بك يا بن عباس، ما هذه الحلة؟ قال: ما تعيبون علي؟ لقد رأيت على رسول الله ﷺ أحسن ما يكون من الحلل، ونزلت: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: 32]، قالوا: فما جاء بك؟ قال: قد أتيتكم من عند صحابة النبي من المهاجرين والأنصار، من عند ابن عم النبي ﷺ وصهره وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم ومنهم أحد لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون، فانتحى لي نفر منهم، قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله ﷺ وابن عمه، قالوا: ثلاث، قلت: ما هن؟ قالوا: أما إحداهن: فإنه حكم الرجال في أمر الله، وقال الله: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ﴾، ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة فما الثانية؟، قالوا: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا كفاراً لقد حل سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل سبيهم ولا قتلهم. قلت: هذه اثنتان فما الثالثة؟ قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه ﷺ ما يرد قولكم أترجعون؟ قالوا: نعم، قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم من كتاب الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [المائدة: 95]، وكان من حكم الرجال، أنشدكم بالله أحكم الرجال في صلاح ذات البين، وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟ قالوا: بلى، بل هذا أفضل، وفي المرأة وزوجها: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 35]، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة، خرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسب، ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة، تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحلّ منها ما نستحل من غيرها؛ فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا؛ فقد كفرتم: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6] فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج، أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قلت: وأما محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، إن نبي الله ﷺ يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي: «اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله»، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله ﷺ: «امح يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امح يا علي واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله»، والله لرسول الله ﷺ خير من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة؛ أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم، فقاتلوا على ضلالتهم من قاتلهم من المهاجرين والأنصار.
ويمكننا أن نستخرج من مناظرة ابن عباس للخوارج مجموعة من الدروس والعبر والحكم منها:
1 ـ حسن الاختيار لمن سوف يقوم بالمناظرة مع الخصم، فقد اختار أمير المؤمنين علي ابن عمه عبد الله بن عباس، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن؛ لأن القوم كانوا يعرفون بالقرّاء ويعتمدون في الاستدلال على معتقدهم بالقرآن، لذا كان أولى الناس بمناظرتهم هو أدرى الناس بالقرآن وبتأويله، ويمكن القول بأن ابن عباس رضي الله عنه هو صاحب الاختصاص في هذه المناظرة، لما يتحلى به من إخلاص النية لله، واجتناب الهوى، والتحلي بالحلم والصبر، والتريث والترفق بالخصم، وحسن الاستماع لكلام الخصوم، وتجنب المماراة، ووضوح الحجة وقوة الدليل.
2 ـ الابتداء مع الخصم من نقاط الاتفاق، فقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخصومه من الخوارج متفقين على الأخذ من كتاب الله وسنة نبيه محمد ﷺ، وكذلك كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه؛ حيث قال لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه ﷺ ما يرد قولكم؛ أترضون؟ ومع هذا فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يستوثق منهم قبل بداية المناظرة.
3 ـ معرفة ما عند الخصم من الحجج واستقصاؤها، والاستعداد لها قبل بداية المناظرة، ونتوقع أن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه علم بحججهم قبل مناظرتهم، وقرر لأصحابه كيفية الرد عليها.
4 ـ تفنيد مزاعم الخصم واحدة تلو الأخرى، حتى لا يبقى لهم حجة كما يتضح من كلام ابن عباس رضي الله عنهما في مناظرته لهم كلما فرغ من تفنيد حجة قال: أخرجت من هذه؟.
5 ـ التقديم للمناظرة بما يخدم نتيجتها لصالح الحق، فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال في بداية الأمر وقبل المناظرة: أتيتكم من عند أصحاب النبي ﷺ وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم أحد منهم.
6 ـ إظهار احترام رأي الخصم أثناء المناظرة، ليكون أدعى لسماع كل ما عنده، وأن يحمله على احترام رأيه، وهذا ما ظهر من مناظرة ابن عباس للخوارج.
7 ـ وقد وفَّق الله عز وجل الآلاف من هؤلاء، إذ بلغ عدد من شهد معركة النهروان منهم أقل من أربعة آلاف ـ كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى ـ، وذلك عندما عرفوا الحق، وزالت عنهم الشبهة بفضل الله ثم بفضل ما أوتيه ابن عباس من علم وقوة وحجة وبيان، إذ وضح لهم بطلان ما احتجوا به، بتفسير الآيات التي تأولوها التفسير الصحيح، وبالسنة النبوية المشرفة والتي توضح معاني القرآن الكريم.
8 ـ قول ابن عباس: وليس فيكم منهم أحد، هذا نص صريح من ابن عباس في كون الخوارج لا يوجد فيهم أحد من أصحاب الرسول ﷺ، ولم يعترض عليه أحد من الخوارج، والرواية صحيحة وثابتة، كما أنه لا يوجد أحد من علماء أهل السنة ـ على حد علمي ـ قال بأن الخوارج كان فيهم بعض أصحاب رسول الله ﷺ، وأما الزعم بأن الخوارج كان فيهم بعض الصحابة؛ فذلك عند المذهب الخارجي، وليس لهم دليل علمي موثوق على قولهم.
9 ـ تحديد المرجعية: في قول ابن عباس: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه ﷺ ما يرد قولكم؛ أترجعوه؟ قالوا: نعم.
ففي كلام ابن عباس هذا درس مهمّ ألا وهو تحديد المرجعية للمتناظرين حتى يمكن الوصول إلى نتيجة صحيحة من خلال المناظرة.
رابعاً: خروج أمير المؤمنين لمناظرة بقية الخوارج، وسياسته في التعامل معهم بعد رجوعهم للكوفة، ثم خروجهم من جديد:
بعد مناظرة ابن عباس للخوارج واستجابة ألفين منهم لهم، خرج أمير المؤمنين علي بنفسه إليهم، فكلمهم فرجعوا ودخلوا الكوفة، إلا أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً، بسبب أن الخوارج فهموا من علي رضي الله عنه أنه رجع عن التحكيم وتاب من خطيئته ـ حسب زعمهم ـ، وصاروا يذيعون هذا الزعم بين الناس، فجاء الأشعث بن القيس الكندي إلى أمير المؤمنين، وقال له: إن الناس يتحدثون أنك رجعت لهم عن الكفر، فخطب علي رضي الله عنه يوم الجمعة، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه ذكرهم ومباينتهم الناس، وأمرهم الذي فارقوه فيه، وفي رواية: جاء رجل فقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر فقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا نواحي المسجد يحكِّمون الله، فأشار عليهم بيده: اجلسوا، نعم لا حكم إلا لله، كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله أنتظر فيكم، وأخذ يسكتهم بالإشارة وهو على المنبر، فقام رجل منهم واضعاً إصبعيه في أذنيه ويقول: ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، فرد أمير المؤمنين علي بقوله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60].
وأعلن أمير المؤمنين علي سياسته الراشدة العادلة تجاه هذه الجماعة المتطرفة، فقال لهم: إن لكم عندنا ثلاثاً:
1 ـ لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد.
2 ـ ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا.
3 ـ ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا.
فقد سلم لهم أمير المؤمنين علي بهذه الحقوق ما داموا لم يقاتلوا الخليفة، أو يخرجوا على جماعة المسلمين، مع احتفاظهم بتصوُّراتهم الخاصة في إطار العقيدة الإسلامية، فهو لا يخرجهم بدايةً من الإسلام، وإنما يسلم لهم بحق الاختلاف دون أن يؤدي إلى الفرقة وحمل السلاح.
ولم يزج أمير المؤمنين بالخوارج بالسجون أو يسلط عليهم الجواسيس، ولم يحجر على حرياتهم، ولكنه رضي الله عنه حرص على إيضاح الحجة وإظهار الحق لهم ولغيرهم ممن قد ينخدع بآرائهم ومظهرهم، فقد أمر مؤذنه بأن يدخل عليه القراء ولا يدخل أحد إلا قد حفظ القرآن، فامتلأ الدار من قراء الناس، فدعا بمصحف إمام عظيم، فطفق يصكه بيديه ويقول: أيها المصحف حدث الناس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأله عنه، إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه؛ فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله؛ يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 35]، فأمة محمد أعظم دماً وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية، كتبت علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله ﷺ بالحديبية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله ﷺ: «بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال: «كيف تكتب»؟ قال: اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله ﷺ: «اكتب» فكتب، فقال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ﷺ»، فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً، يقول الله تعالى في كتابه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر ﴾ [الأحزاب: 21].
ولمَّا أيقن الخوارج أن أمير المؤمنين عازم على إنفاذ أبي موسى الأشعري حكماً، طلبوا منه الامتناع عن ذلك، فأبى علي عليهم ذلك، وبيَّن لهم أن هذا يعد غدراً ونقضاً للأيمان والعهود، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهوداً، وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ﴾ [النحل: 91].
فقرر الخوارج الانفصال عن أمير المؤمنين علي وتعيين أمير عليهم، فاجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم خطبةً بليغة زهدهم في الدنيا، ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد، إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الأحكام الجائرة.
ثم قام حرقوص بن زهير، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].
فقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسنان، ومن راية تحقون بها، وترجعون إليها، فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي ـ وكان من رؤوسهم ـ فعرضوا عليه الإمارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها، وقال: أما والله لا أقبلها رغبةً في الدنيا، ولا أدعها فرقاً من الموت.
واجتمعوا أيضاً في بيت زيد بن حصن الطائي السنسبي، فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى: ﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 44 ـ 47]، ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا، أنهم قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يقال له: عبد الله بن شجرة السلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن فشلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته.
قال ابن كثير بعد أن ذكر ما أملاه الشيطان لهم مما تقدم ذكره: وهذا ضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوَّع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم، وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾ [الكهف: 103 ـ 105].
والمقصود: أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطؤوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها، ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم ممن هم على رأيهم ومذهبهم من أهل البصرة وغيرها فيوافوهم إليها، ويكون اجتماعهم عليها، فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشاً لا تطيقونه وسيمنعونها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخي، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحداناً لئلا يفطن بكم، فكتبوا كتاباً عاماً إلا من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها، وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يداً واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحداناً لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات، والأخوال والخالات، وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات والعظام والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم، ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات.
وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم، فردوهم وأنَّبوهم ووبخوهم، فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنهم من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع، ووافى إليهم من كانوا يكتبون إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة.
ولما تفرق الحكمان على غير رضا، كتب أمير المؤمنين علي إلى الخوارج وهم مجتمعون بالنهروان: أن الحكمين تفرقا على غير رضا، فارجعوا إلى ما كنتم عليه وسيروا بنا إلى قتال أهل الشام، فأبوا ذلك، وقالوا: حتى تشهد على نفسك بالكفر وتتوب، فأبى. وفي رواية: كتبوا إليه: أما بعد: فإنك لم تغضب لربك، إنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء إن الله لا يحب الخائنين. فلما قرأ كتابهم أيس منهم، فرأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى أهل الشام حتى يلقاهم فيناجزهم.
إن قضية إعلان الخوارج كفر علي وطلبهم منه التوبة، لا تثبت بهذه الروايات، ولكنها تتفق مع رأي الخوارج في تكفير علي وعثمان وامتحان الناس بذلك.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf