معركة صفين: (37هـ) .. تسلسل الأحداث
الحلقة الثالثة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
(1) أم حبيبة بنت أبي سفيان، ترسل النعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام:
لما قُتل عثمان رضي الله عنه: أرسلت أم المؤمنين، أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان؛ أرسلوا إليّ بثياب عثمان التي قُتل فيها، فبعثوا إليها بقميصه مضرّجاً بالدم، وبخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير، فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها.
وجاء في رواية: خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها، وكانت نائلة بنت الفرافصة الكلبية زوج عثمان كلبية شامية، فورد النعمان على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الأصابع في كم القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله، وحثَّ بعضهم بعضاً على الأخذ بثأره.
وجاء شرحبيل بن السمط الكندي وقال لمعاوية: كان عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا. وآلى رجال الشام أن لا يمسوا النساء ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء، أو تفنى أرواحهم، وكان ذلك ما يريده معاوية، فقد كانت الصورة التي نقلها النعمان بن بشير إلى أهل الشام بشعة، مقتل الخليفة، سيوفاً مصلتة من الغوغاء على رقاب الناس، بيت المال منتهكاً مسلوباً، وأصابع نائلة مقطوعة، فهاجت النفوس والعواطف، واهتزت المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها العيون ولا غرابة بعد هذا إطلاقاً أن نرى إصرار معاوية ومن معه من أهل الشام بالإصرار على المطالبة بدم عثمان، وتسليم القتلة للقصاص قبل البيعة، وهل نتصور أن يتم مقتل أمير المؤمنين وسيد المسلمين من حاقدين محتلين متآمرين، ولا يتماوج العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه للقصاص من أصحاب هذه الجريمة البشعة؟.
(2) دوافع معاوية في عدم البيعة:
كان معاوية رضي الله عنه والياً على الشام في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى الخلافة علي أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر، فاعتذر ابن عمر، فأرسل إلى سهل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام (وادي القرى) حتى عاد من حيث جاء، إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهري، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحيهلا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع.
لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتصّ علي ـ رضي الله عنه ـ من قتلة عثمان ثم يدخلون البيعة، وقالوا: لا نبايع من يأوي القتلة، وتخوّفوا على أنفسهم من قتلة عثمان الذين كانوا في جيش علي، فرأوا أن البيعة لعلي لا تجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا بايعنا ظلمونا واعتدوا علينا وضاع دم عثمان، وكان معاوية رضي الله عنه يرى أن عليه مسؤولية الانتصار لعثمان والقود من قاتليه، فهو ولي دمه، والله يقول: ﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33] لذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان، وأنه قتل مظلوماً على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام، إذ سفكوه في الشهر الحرام في البلد الحرام، فثار الناس، واستنكروا وعلت الأصوات، وكان منهم عدد من أصحاب رسول الله ﷺ، فقام أحدهم واسمه مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله ﷺ ما تكلمت، وذكر الفتن فقربها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: «هذا يومئذ على الهدى»، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: «نعم».
وهناك حديث آخر له تأثيره في طلب معاوية القود من قتلة عثمان، ومنشطاً ودافعاً قوياً للتصميم على تحقيق الهدف، وهو: عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله ﷺ.. فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه، فقال: «يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني» ثلاثاً، فقلت لها: يا أم المؤمنين! فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان، فلم يرضَ بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن أكتبي إليّ به، فكتبت إليه به كتاباً.
لقد كان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدم على البيعة، وليست لأطماع معاوية في ولاية الشام، أو طلبه ما ليس له بحق، إذ كان يدرك إدراكاً تاماً أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى، وأن علياً أفضل منه وأولى بالأمر منه، وقد انعقدت البيعة له بإجماع الصحابة بالمدينة، وكان اجتهاد معاوية يخالف الصواب.
(3) معاوية يرد على أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما:
بعث علي رضي الله عنه كتباً كثيرة إلى معاوية فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طُوماراً مع رجل، فدخل به على علي، فقال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القَودَ، كلهم موتور، تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان. ثم خرج رسول معاوية من بين يدي عليٍّ فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد.
(4) تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام واعتراض الحسن على ذلك:
بعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي، عزم الخليفة على قتال أهل الشام، كتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حُنيف بذلك، وخطب الناس فحثّهم على ذلك، وعزم على التجهُّز، وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه، وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي فقال: يا أبت دَعْ هذا؛ فإنّ فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم! فلم يقبل منه ذلك، بل صمَّم على القتال، ورتّب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد ابن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمر بن أبي سلمة على الميسرة، وقيل: جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يبقَ شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصداً الشام، حتى جاءه ما شغله عن ذلك، وقد تمّ تفصيل ذلك من خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة إلى معركة الجمل.
(5) بعد معركة الجمل، أرسل أمير المؤمنين علي جرير بن عبد الله إلى معاوية:
ذُكر أن المدة بين خلافة أمير المؤمنين علي إلى فتنة السبئيَّة الثانية، أو ما يُسمى البصرة أو معركة الجمل، خمسة أشهر وواحد وعشرون يوماً، وبين دخوله الكوفة شهراً، وبين ذلك وخروجه إلى صفين ستة أشهر، وروي شهرين أو ثلاثة. وقد كان دخول أمير المؤمنين الكوفة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: انزل بالقصر الأبيض، فقال: لا إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكره لذلك، فنزل في الرحبة وصلّى بالجامع الأعظم ركعتين، ثم خطب الناس فحثهم على الخير، ونهاهم عن الشر، ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله وكان على همذان من زمان عثمان، وإلى الأشعث بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من أيام عثمان؛ يأمرهما أن يأخذا البيعة له على من هُنالك ثم يُقبِلا إليه، ففعلا ذلك، فلما أراد علي أن يبعث إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنّ بيني وبينه وُدّاً، فاخذ لك البيعة منه، فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال علي: دعه.
فبعثه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب وطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم.
فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: ألم أنْهك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريراً؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية باباً إلا أغلقته. فقال له جرير: لو كنت ثمّ لقتلوك بدم عثمان. فقال الأشتر: والله لو بعثتني لم يعنني جواب معاوية ولأعجلنّه عن الفكرة، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين، لحبستك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمَّة.
فقام جرير مُغْضَباً فأقام بقرقيسياء، وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وقيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه. وهكذا كان الأشتر سبباً في إبعاد الصحابي جرير بن عبد الله الذي كان والياً على قرقيسياء وعلى غيرها، ورأساً في قبيلته بجيلة، ويضطره إلى مفارقة أمير المؤمنين علي، وهذا الصحابي جرير بن عبد الله البجلي قال: ما رآني رسول الله ﷺ إلا تبسم في وجهي، وقال ﷺ: «يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة مَلَكَ».
(6) مسير أمير المؤمنين إلى الشام:
استعد أمير المؤمنين علي لغزو الشام، فبعث يستنفر الناس وجهّز جيشاً ضخماً اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات ضعيفة، إلا رواية واحدة حسنة الإسناد ذكرت أنه سار في خمسين ألفاً.
وكان مكان تجمع جُند أمير المؤمنين بالنخلية، وهو على ميلين من الكوفة آنذاك، فتوافدت عليه القبائل من شتى إقليم العراق، واستعمل أمير المؤمنين علي أبا مسعود الأنصاري، وبعث من النخيلة زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف مقاتل، وبعث شريح بن هانئ في أربعة آلاف، ثم خرج علي رضي الله عنه بجيشه إلى المدائن (بغداد)، فانضم إليه فيها من المقاتلة، وولى عليها سعد بن مسعود الثقفي، ووجه منها طليعة في ثلاثة آلاف إلى الموصل، وسلك رضي الله عنه طريق الجزيرة الرئيسي على شط الفرات الشرقي، حتى بلغ قرب قرقيسياء، فأتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي إلى الرقة، وعبر منها الفرات غرباً ونزل على صفين.
(7) خروج معاوية إلى صفين:
كان معاوية جاداً في مطاردة قتلة عثمان رضي الله عنه، فقد استطاع أن يترصد بجماعة ممن غزا المدينة من المصريين أثناء عودتهم، وقتلهم ومنهم أبو عمرو بن بديل الخزاعي، ثم كانت له أيد في مصر وشيعة في أهل خربتا تطالب بدم عثمان رضي الله عنه، وقد استطاعت هذه الفرقة من إيقاع الهزيمة بمحمد بن أبي حذيفة في عدة مواجهات عام 36 هـ، كما استطاع أيضاً أن يوقع برؤوس مدبري ومخططي غزو المدينة من المصريين، مثل عبد الرحمن بن عديسي، وكنانة بن بشر، ومحمد بن حذيفة، فحبسهم في فلسطين، وذلك في الفترة التي سبقت خروجه إلى صفين، ثم قتلهم في شهر ذي الحجة عام 36 هـ. وعندما علم معاوية بتحرك جيش العراق نحو الشام، جمع مستشاريه من أعيان أهل الشام، وخطب فيهم وقال: إن علياً نهد إليكم في أهل العراق... فقال ذو الكلاع الحميري: عليك أمر أي وعلينا أمفعال.
وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان رضي الله عنه والقتال، وقد قام عمرو بن العاص رضي الله عنه بتجهيز الجيش، وعقد الألوية، وقام في الجيش خطيباً يحرضهم، فقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة مخالفون لعلي قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة ومنهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه وفي دمكم أن تبطلوه.
وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات منقطعة أسانيدها، وهي عين الروايات التي قدرت جيش علي رضي الله عنه، فقدر بمئة ألف وعشرين ألفاً، وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر من ذلك بكثير؛ إلا أن الأقرب للصواب أنهم ستون ألف مقاتل، فهي وإن كانت منقطعة الإسناد إلا أن راويها صفوان بن عمرو السكسي، حمصي من أهل الشام، ولد عام (72 هـ)، وهو ثبت ثقة، وقد أدرك خلقاً ممن شهد صفين، كما يتبين من دراسة ترجمته، والإسناد إليه صحيح.
وكان قادة جيش معاوية على النحو التالي: عمرو بن العاص، على خيول أهل الشام كلها، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم، وذو الكلاع الحميري. على ميمنة الجيش، وحبيب بن مسلمة على ميسرة الجيش، وأبو الأعور السلمي على المقدمة؛ هؤلاء هم القادة الكبار، وتحت كل قائد من هؤلاء قادة وزعوا حسب القبائل، وكان هذا الترتيب عند مسيرهم إلى صفين، ولكن أثناء الحرب تغير بعض القادة وظهر قادة آخرون مما اقتضته الظروف، ولعل هذا يكون السبب في اختلاف أسماء القادة في بعض المصادر.
وبعث معاوية أبا الأعور السلمي مقدمة للجيش، وكان خط سيرهم إلى الشمال الشرقي من دمشق، ولما بلغ صفين أسفل الفرات، عسكر في مكان سهل فسيح، إلى جانب شريعة في الفرات، ليس في ذلك المكان شريعة غيرها، وجعلها في حيزه.
(8) القتال على الماء:
وصل جيش علي رضي الله عنه إلى صفين، حيث عسكر معاوية، ولم يجد موضعاً فسيحاً سهلاً يكفي الجيش، فعسكر في موضع وعر نوعاً ما، إذ أغلب الأرض صخور ذات كدى وأكمات.
فوجئ جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى علي رضي الله عنه يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعث بن قيس فخرج في ألفين، ودارت أول معركة بين الفريقين انتصر فيها الأشعث واستولى على الماء، إلا أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال من أصله؛ مفادها: أن الأشعث بن قيس جاء إلى معاوية فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد ﷺ! هبوا أنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟! إن الله يقول: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: 9] قال معاوية: فما تريد؟ قالوا: خلوا بيننا وبين الماء. فقال لأبي الأعور: خلِّ بين إخواننا وبين الماء.
وقد كان القتال على الماء في أول يوم تواجها فيه في بداية شهر ذي الحجة فاتحة شر على الطرفين المسلمين، إذ استمر القتال بينهما متواصلاً طوال هذا الشهر، وكان القتال على شكل كتائب صغيرة، فكان علي رضي الله عنه يخرج من جيشه كتيبة صغيرة يؤمر عليها أميراً، فتقتتلان مرة واحدة في اليوم في الغداة أو العشي، وفي بعض الأحيان يقتتلان مرتين في اليوم، وكان أغلب من يخرج من أمراء الكتائب في جيش علي: الأشتر، وحجر بن عدي، وشبت بن ربعي، وخالد بن المعتمر، ومعقل بن يسار الرياحي. ومن جيش معاوية أغلب من يخرج: حبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو الأعور السلمي، وشرحبيل بن السمط، وقد تجنبوا القتال بكامل الجيش خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفين، تصان به الأرواح والدماء.
(9) الموادعة بينهما ومحاولات الصلح:
ما إن دخل شهر المحرم، حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة طمعاً في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم، ولكن المعلومات عن مراسلات هذه الفترة ـ شهر المحرم ـ وردت من طرق ضعيفة، مشهورة، إلا أن ضعفها لا ينفي وجودها.
كان البادئ بالمراسلة، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأرسل بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه، كما دعاه من قبل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة، فرد معاوية عليه برده السابق المعروف، بتسليم قتلة عثمان أو القود منهم أولاً، ثم يدخل في البيعة، وقد تبين لنا موقف علي من هذه القضية.
كما أن قرّاء الفريقين، قد عسكروا في ناحية من صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولات للصلح بينهما، فلم تنجح تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه، وقد حاول اثنان من الصحابة وهما أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما الصلح بين الفريقين، فلم تنجح مهمتهما أيضاً لنفس الأسباب السابقة، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما. وكذلك حضر مسروق بن الأجدع ـ أحد كبار التابعين ـ فوعظ، وخوف ولم يقاتل.
وقد انتقد ابن كثير التفصيلات الطويلة التي جاءت في روايات أبي مخنف ونصر بن مزاحم، بخصوص المراسلات بين الطرفين فقال:... ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر، فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص فيـه معاويـة وأبـاه، وأنهم إنما دخلـوا في الإسلام ولم يـزالا في تردد فيه، وغير ذلك، وأنه قال في غضون ذلك: لا أقول إن عثمان قُتل مظلوماً ولا ظالماً؛.. وهذا عندي لا يصح من علي رضي الله عنه. وموقف علي رضي الله عنه من قتـل عثمان واضح وقد بينته في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنـه، وفي هذا الكتاب.
ثانياً: نشوب القتال:
عادت الحرب على ما كانت عليه في شهر ذي الحجة من قتال الكتائب والفرق والمبارزات الفردية، خشية الالتحام الكلي، إلى أن مضى الأسبوع الأول منه، وكان عدد الوقعات الحربية بين الفريقين إلى هذا التاريخ أكثر من سبعين وقعة، وذكر أنها تسعون، إلا أن علياً أعلن في جيشه أن غداً الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ معاوية يخبره بذلك، فثار الناس في تلك الليلة إلى أسلحتهم يصلحونها ويحدونها، وقام عمرو بن العاص بإخراج الأسلحة من المخازن لمن يحتاج من الرجال ممن فلّ سلاحه، وهو يحرض الناس على الاستبسال في القتال، وبات جميع الجيشين في مشاورات وتنظيم للقيادات والألوية.
1 - اليوم الأول:
أصبح الجيشان في يوم الأربعاء قد نظمت صفوفهم ووزعوا حسب التوزيع المتبع في المعارك الكبرى ـ قلب وميمنة، وميسرة، فكان جيش علي رضي الله عنه على النحو التالي: علي بن أبي طالب على القلب، وعبد الله بن عباس على الميسرة، وعمار بن ياسر على الرجالة، محمد ابن الحنفية حامل الراية، وهشام بن عتبة (المرقال) حامل اللواء، والأشعث بن قيس على الميمنة، وأما جيش الشام، فمعاوية في كتيبة الشهباء أصحاب البيض والدروع على تل مرتفع وهو أمير الجيش، وعمرو بن العاص قائد خيل الشام كلها، وذو الكلاع الحميري على الميمنة على أهل اليمن، وحبيب بن مسلمة الفهري على الميسرة على مضر، والمخارق بن الصباح الكلاعي حامل اللواء، وتقابلت الجيوش الإسلامية، ومن كثرتها قد سدت الأفق، ويقول كعب بن جعيل التغلبي أحد شعراء العرب، وذلك عندما رأى الناس في ليلة الأربعاء وقد وثبوا إلى نبالهم وسيوفهم يصلحونها استعداداً لهذا اليوم:
أَصْبَحَتِ الأُمَّةُ في أَمْرٍ عَجَبْ وَالمُلْكُ مَجْمُوعٌ غداً لِمَنْ غَلَبْ
فَقُلْتُ قولاً صادقاً غيرَ كَذِبْ إنَّ غداً تَهْلِكُ أَعْلامُ العَرَبْ
وتذكر بعض الروايات الضعيفة: أن علياً خطب في جيشه، وحرضهم على الصبر والإقدام والإكثار من ذكر الله، وتذكر أيضاً أن عمرو بن العاص، قد استعرض جيشه، وأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها، وهذه الروايات لا يوجد مانع من الأخذ بها، لأن كل قائد يحرض جيشه ويحمسه، ويهتم بكل ما يؤدي به إلى النصر، والتحم الجيشان في قتال عنيف، استمر محتدماً إلى غروب الشمس لا يتوقف إلا لأداء الصلاة، ويصل كل فريق في معسكره، وبينهما جثث القتلى في الميدان تفصل بينهما، وسأل أحد أفراد جيش علي علياً رضي الله عنه حين انصرافه من الصلاة، فقال: ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: من قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة. وقد صبر بعضهم على بعض فلم يغلب أحد أحداً، ولم ير مولياً حتى انتهى ذلك اليوم. وفي المساء خرج علي رضي الله عنه إلى ساحة القتال، فنظر إلى أهل الشام، فدعا ربه قائلاً: اللهم اغفر لي ولهم.
2 - اليوم الثاني:
في يوم الخميس تذكر الروايات: أن علياً رضي الله عنه قد غلس بصلاة الفجر واستعد للهجوم، وغير بعض القيادات، فوضع عبد الله بن بديل الخزاعي على الميمنة بدلاً من الأشعث بن قيس الكندي الذي تحول إلى الميسرة، وزحف الفريقان نحو بعضهما، واشتبكوا في قتال عنيف أشد من سابقه، وبدأ أهل العراق في التقدم وأظهروا تفوقاً على أهل الشام، واستطاع عبد الله بن بديل أن يكسر ميسرة معاوية وعليها حبيب بن مسلمة، ويتقدم باتجاه كتيبة معاوية (الشهباء)، وأظهر شجاعة وحماساً منقطع النظير، وصاحب هذا التقدم الجزئي، تقدم عام لجيش العراق، حتى إن معاوية، قد حدثته نفسه بترك ميدان القتال، إلا أنه صبر وتمثل بقول الشاعر:
أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلاَئِي وَأَخْذِي الحَمْدَ بالثَّمَنِ الرَّبيحِ
وإكْرَاهِي عَلَى المَكْرُوهِ نَفْسِي وَضَرْبِي هَامَةَ البَطَلِ المَشِيحِ
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ مَكانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَريحِي
واستحثَّ كتيبته الشهباء، واستطاعوا قتل عبد الله بن بديل، فأخذ مكانه في قيادة الميمنة الأشتر، وتماسك أهل الشام، وبايع بعضهم على الموت، وكروا مرة أخرى بشدة وعزيمة، وقتل عدد من أبرزهم: ذو الكلاع، وحوشب وعبيد الله بن الخطاب رضي الله عنهما، وانقلب الأمر لجيش الشام، وأظهر تقدماً، وبدأ جيش العراق في التراجع، واستحرَّ القتل في أهل العراق، وكثرت الجراحات، ولما رأى علي جيشه في تراجع، أخذ يناديهم ويحمِّسهم، وقاتل قتالاً شديداً، واتجه إلى القلب حيث ربيعة، فثارت فيهم الحمية وبايعوا أميرهم خالد بن المعتمر على الموت، وكانوا أهل قتال.
وكان عمّار بن ياسر رضي الله عنه قد جاوز الرابعة والتسعين عاماً، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس، ويستنهض الهِمَمَ ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام، فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة.
ولما رأى عمار رضي الله عنه تقهقر أصحابه، وتقدم خصومه، أخذ يستحثهم ويبين لهم أنهم على الحق، ولا يغرنهم ضربات الشاميين الشديدة، فيقول رضي الله عنه: من سرَّه أن تكتنفه الحور العين فليقدم بين الصفين محتسباً، فإني لأرى صفاً يضربكم ضرباً يرتاب منه المبطلون، والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبلغوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل، لعلمنا أن مصلحينا على الحق وأنهم على الباطل.
ثم أخذ في التقدم، وفي يده الحربة ترعد ـ لكبر سنه ـ، ويشتد على حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ويستحثه في التقدم ويرغبه ويطمعه فيما عند الله من النعيم، ويطمع أصحابه أيضاً فيقول: أزفت الجنة وازينت الحور العين، من سره أن تكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسباً. وكان منظر مؤثر؛ فهو صحابي جليل مهاجري بدري جاوز الرابعة والتسعين يمتلك كل هذا الحماس، وهذا العزم، والروح المعنوية العالية واليقين الثابت، فكان عاملاً هاماً من عوامل حماس جيش العراق ورفع روحهم المعنوية، مما زادهم عنفاً وضراوة وتضحية في القتال، حتى استطاعوا أن يحولوا المعركة لصالحهم، وتقدم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو يرتجز بقوله:
أَعْوَرُ يَبْغي أَهْلَهُ مَحِلاَّ قَدْ عَالَجَ الحَياةَ حَتَّى مَلاّ
لا بُدَّ أَنْ يُفِلَّ أو يُفَلاَّ
وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين:
اليَوْمَ أَلْقَى الأَحِبَّه مُحَمّداً وَحِزْبَهْ
وعند غروب شمس ذلك اليوم الخميس، طلب عمار شربة من لبن ثم قال: إن رسول الله ﷺ قال لي: «إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن». ثم تقدم واستحث معه حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري، فلم يرجعا، وقتلا رحمهما الله ورضي الله عنهما.
3 - ليلة الهرير يوم الجمعة:
عادت الحرب في نفس الليلة بشدة واندفاع لم تشهدها الأيام السابقة، وكان اندفاع أهل العراق بحماس وروح عالية حتى أزالوا أهل الشام عن أماكنهم، وقاتل أمير المؤمنين علي قتالاً شديداً وبايع على الموت، وذكر أن علياً رضي الله عنه صلى بجيشه المغرب صلاة الخوف، وقال الشافعي: وحفظ عن علي أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير، يقول شاهد عيان: اقتتلنا ثلاثة أيام وثلاثة ليالي حتى تكسرت الرماح ونفذت السهام، ثم صرنا إلى المسايفة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل، حتى صرنا نعانق بعضنا بعضاً، ولما صارت السيوف كالمناجل تضاربنا بعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة وهمهمة القوم، ثم ترامينا بالحجارة، وتحاثينا بالتراب، وتعاضينا بالأسنان، وتكادمنا بالأفواه، إلى أن أصبحوا في يوم الجمعة وارتفعت الشمس وإن كانت لا ترى من غبار المعركة، وسقطت الألوية والرايات، وأنهك الجيش التعب، وكلَّت الأيدي، وجفت الحلوق.
ويقول ابن كثير في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة: وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا، ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما ليهمر على الآخر، ويهمر عليه، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، فإنا لله وإنا إليه لراجعون، ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك، وصلى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحا النهار، وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf