الأحد

1446-07-05

|

2025-1-5

موقعة الجمل ... نشوب القتال

الحلقة السادسة والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م

تاسعاً: نشوب القتال:
1 ـ دور السبئية في نشوب الحرب:
كان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره. وحرص أتباع ابن سبأ على إشعال الفتنة وتأجيج نيرانها حتى يفلتوا من القصاص.
فلما نزل الناس منازلهم واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير، فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح وترك الحرب حين رأوا أن الأمر أخذ في الانقشاع، فافترقوا على ذلك، ورجع علي إلى عسكره، ورجع طلحة والزبير إلى عسكرهما، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه، ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان ـ رضي الله عنه ـ، فبات الناس على نية الصلح والعافية وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، لا يذكرون ولا ينوون إلاّ الصلح.
وبات الذين أشاعوا الفتنة بشر ليلة باتوها قط، إذ أشرفوا على الهلاك، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، وقال قائلهم: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، وذلك حين طلب من الناس أن يرتحلوا في الغد ولا يرتحل معه أحد أعان على عثمان بشيء ـ ورأي الناس فينا والله واحد، وإن يصطلحوا مع علي فعلى دمائنا.
وتكلم ابن السوداء ـ عبد الله بن سبأ ـ وهو المشير فيهم؛ فقال: يا قوم إن عزّكم في خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فانشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون.
فاجتمعوا على هذا الرأي بانشاب الحرب في السرّ، فغدوا في الغلس وعليهم ظلمة، وما يشعر بهم جيرانهم، فخرج مضريّهم إلى مضريِّهم، وربيعيّهم إلى ربيعيهم، ويمانيّهم إلى يمانيّهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه الذين باغتوهم، وخرج الزبير وطلحة في وجوه الناس من مصر، فبعثا إلى الميمنة، وهم ربيعة يرأسها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والميسرة، يرأسها عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد وثبتا في القلب، فقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً، فقالا: ما علمنا أن علياً غير منتهٍ حتى يسفك الدّماء، ويستحل الحرمة، وإنه لن يطاوعنا، ثم رجعا بأهل البصرة، وقصف أهل البصرة أولئك حتى ردّوهم إلى عسكرهم.
فسمع علي وأهل الكوفة الصوت، وقد وضع السبئيَّة رجلاً قريباً من علي ليخبره بما يريدون، فلما قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما فجئنا إلا وقوم منهم بيّتونا فرددناهم، وقال عليّ لصاحب ميمنته: ائت الميمنة، وقال لصاحب ميسرته: ائت الميسرة، والسبئية لا تفتر إنشاباً.
وعلى الرغم من تلك البداية للمعركة إلا أن الطرفين ما لبثا يملكان الرويّة حتى تتضح الحقيقة، فعلي ومن معه يتفقون على أن لا يبدؤوا بالقتال حتى يبدؤوا طلباً للحجة واستحقاقاً على الآخرين بها، وهم مع ذلك لا يقتلون مدبراً، ولا يجهزون على جريح، ولكن السبئية لا تفتر إنشاباً، وفي الجانب الآخر ينادي طلحة وهو على دابته وقد غشيه الناس فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه ولا ينصتونه، فما زاد أن قال: أف أف، فراش نار، وذبان طمع! وهل يكون فراش النار وذبان الطمع غير أولئك السبئية؟ بل إن محاولات الصلح لتجري حتى آخر لحظة من لحظات المعركة.
ومن خلال هذا العرض يتبين أثر ابن سبأ وأعوانه السبئية في المعركة، ويتضح بما لا يدع مجالاً للشك حرص الصحابة رضي الله عنهم على الإصلاح وجمع الكلمة، وهذا هو الحق الذي تثبته النصوص وتطمئن إليه النفوس.
وقبل الحديث عن جولات المعركة نشير إلى أن أثر السبئيَّة في معركة الجمل مما يكاد يجمع عليه العلماء سواء أسموهم بالمفسدين، أو بأوباش الطائفتين، أو أسماهم البعض بقتلة عثمان، أو نبزوهم بالسفهاء، أو بالغوغاء، أو أطلقوا عليهم صراحة السبئية.
وإليك بعض النصوص التي تؤكد ذلك:
أ ـ جاء في (أخبار البصرة) لعمر بن شبة: أن الذي نسب إليهم قتل عثمان خشوا أن يصطلح الفريقان على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم حتى كان ما كان.
ب ـ قال الإمام الطحاوي: فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين.
ت ـ وقال الباقلاني:.. وتم الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكُّن منهم، والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فرقتين، ويبدؤوا بالحرب سحرة في المعسكرين ويختلطوا، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير، ويصيح الفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي، فتمَّ لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق منهم دافعاً لمكروه عن نفسه، ومانعاً من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى إذ وقع، والامتناع منهم على هذا السبيل، فهذا هو الصحيح المشهور، وإليه نميل، وبه نقول.
ث ـ ونقل القاضي عبد الجبار: أقوال العلماء، باتفاق رأي علي وطلحة والزبير وعائشة ـ رضوان الله عليهم ـ على الصلح، وترك الحرب، واستقبال النظر في الأمر، وأنّ من كان في المعسكر من أعداء عثمان كرهوا ذلك، وخافوا أن تتفرغ الجماعة لهم، فدبّروا في إلقاء ما هو معروف، وتمّ ذلك.
ج ـ ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: وقدم عليّ على البصرة، وتدانوا ليتراءوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء، وبادروا بإراقة الدماء، واشتجرت الحرب، وكثرت الغوغاء على البوغاء، كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا يقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان، وإنّ واحداً في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف.
ح ـ ويقول ابن حزم:.. وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم، فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر عليّ، فدفع أهله عن أنفسهم، كل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأتها القتال، واختلط الأمر اختلاطاً، لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه، والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شنّ الحرب وإضرامها، فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها، مدافعة عن نفسها، ورجع الزبير وترك الحرب بحالها، وأتى طلحة سهم غارب، وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط، فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله ـ ﷺ، فانصرف ومات من وقته ـ رضي الله عنه ـ، وقتل الزبير بوادي السباع ـ بعد انسحابه من المعركة ـ على أقل من يوم من البصرة، فهكذا كان الأمر.
ويقول الذهبي: كانت وقعة الجمل، أثارها سفهاء الفريقين. ويقول: إن الفريقين اصطلحا وليس لعلي ولا لطلحة قصد القتال، بل ليتكلموا في اجتماع الكلمة، فترامى أوباش الطائفتين، بالنبل ونشبت نار الحرب، وثارت النفوس.
وفي دول الإسلام: والتحم القتال من الغوغاء وخرج الأمر عن علي وطلحة والزبير.
يقول الدكتور سليمان بن حمد العودة: ولنا بعد ذلك أن نقول: وما المانع أن تكون رواية الطبري المصرّحة بدور السبئية في الجمل، تفسّر هذا التعميم، وتحدد تلك المسميات التي وردت في نقولات هؤلاء العلماء؟ وحتى لو لم تكن هذه الطوائف الغوغائية ذات صلة مباشرة بالسبئية، ولم تكن لها أهداف كأهدافهم، فأي مانع يمنع القول أن هذه شكلت أرضية استغلها ابن سبأ وأعوانه السبئية، كما هي العادة في بعض الحركات الغوغائية التي تستغل من قبل المفسدين.
ولا ننسى أن للفتنة وأجوائها دور في الإسهام بتلك الأحداث، فمما لا شك فيه أن الناس في الفتن قد تحجب عنهم أشياء يراها غيرهم رأي العين، وقد يتأولون فيها صانعين أشياء يرى من سواهم حقيقتها ناصعة لا تحتاج إلى عناء، وكفى بسواد الفتنة حاجباً عن التروي والإبصار.
ولا نبعد كثيراً فهذا الأحنف بن قيس ـ وهو أحد الذين عايشوا أحداث الجمل يخرج وهو يريد نصرة علي بن أبي طالب، حتى لقيه أبو بكرة، فقال: أين تريد يا أحنف؟ قلت: أريد نصر ابن عم رسول الله ﷺ، فقال: يا أحنف ارجع فإني سمعته ﷺ يقول: «إذا تَوَاجَه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار» فقلت، أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان قد أراد قتل صاحبه».
إن القتال مع عليّ كان حقاً وصواباً، ومن قتل معه فهو شهيد وله أجران، ولكن أبا بكرة رضي الله عنه حمل حديثاً ورد في غير الحالة قاتل فيها علي على حالة قتال الباغين وهو فهم منه رضي الله عنه، ولكنه فهم في غير محله.
ومن هذه الرواية ندرك أن عقبات متعددة واجهت علياً رضي الله عنه في معركته مع الآخرين؛ منها أمثال هذه الفتاوى التي هي أثر عن ورع أكثر منها أثر عن فتوى تصيب محلها.
هذا وقد امتنع الأحنف من الدخول مع علي رضي الله عنهما، فلم يشهد الجمل مع أحد من الفريقين، ونقترب أكثر فإذا الزبير رضي الله عنه ـ وهو طرف أساسي في المعركة يكشف لنا عن حقيقة الأمر: إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدّث عنها، فقال له مولاه: أتسميها فتنة و تقاتل فيها؟! قال: ويحك! إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر، فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر.
ويشير إلى ذلك طلحة فيقول: بينما نحن يد واحدة على من سوانا، إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضاً.
وفي الطرف الآخر يؤكد أصحاب علي رضي الله عنه على الفتنة، فيقول عمار ـ رضي الله عنه في الكوفة عند خروج عائشة: إنها زوجة نبيكم في الدنيا، والآخرة، ولكنها مما ابتليتم.
2 - الجولة الأولى في معركة الجمل:
زاد السبئيّون في الجيشين من جهودهم في إنشاب القتال، ومهاجمة الفريق الآخر، وإغراء كل فريق بخصمه، وتهييجه على قتاله، ونشبت المعركة عنيفة قاسية حامية شرسة، وهي معركة الجمل، وسميت بذلك لأنَّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت في المعركة في الجولة الثانية وسط جيش البصرة، تركب الجمل الذي قدّمه لها يعلى بن أمية في مكة، حيث اشتراه من اليمن، وخرجت على هذا الجمل من مكة إلى البصرة، ثم ركبته أثناء المعركة.
وكانت المعركة يوم الجمعة في السادس عشر من جمادى الثانية، سنة ست وثلاثين، في منطقة الزابوقة قرب البصرة، حزن علي لما جرى، وناد مناديه: كُفّوا عن القتال أيها الناس، ولم يسمع نداءهُ أحد، فالكلُّ كان مشغولاً بقتال خصمه.
كانت معركة الجمل على جولتين: الجولة الأولى: كان قائداً جيش البصرة فيها طلحة والزبير، واستمرت من الفجر حتى قبيل الظهيرة، ونادى علي في جيشه، كما نادى طلحة والزبير في جيشهما لا تقتلوا مدبراً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تلحقوا خارجاً من المعركة تاركاً لها، وقد كان الزبير رضي الله عنه وصى ابنه عبد الله بقضاء دينه فقال: إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل مظلوماً، وإن أكبر همي ديني، وأثناء ذلك جاء رجل إلى الزبير، وعرض عليه أن يقتل علياً، وذلك بأن يندس مع جيشه ثم يفتك به، فأنكر عليه بشدة، وقال: لا؛ لا يفتك مؤمن، أو إن الإيمان قيد الفتك، فالزبير رضي الله عنه ليس له غرض في قتل علي أو أي شخص آخر بريء من دم عثمان، وقد دعا أمير المؤمنين علي الزبير، فكلمه بألطف العبارة، وأجمل الحديث، وقيل: ذكره بحديث سمعه من رسول الله ﷺ يقول له ـ أي: الزبير ـ: «لتقاتلنه وأنت له ظالم» وهذا الحديث ليس له إسناد صحيح.
وبعض الروايات، ترجع السبب في انصراف الزبير رضي الله عنه قبيل المعركة لما علم بوجود عمار بن ياسر في الصف الآخر، وهو وإن لم يروِ عن رسول الله ﷺ: تقتل عمار الفئة الباغية، فلعله سمعه من بعض إخوانه من الصحابة لشهرته.
وبعضها ترجع السبب في انصرافه إلى شكه في صحة موقفه من هذه الفتنة، كما يسميها. وفي رواية ترجع السبب في انصرافه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، ذكّره بالقرابة القوية من علي إذ قال له: أين صفية بنت عبد المطلب حيث تقاتل بسيفك علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، فخرج الزبير من المعركة، فلقيه ابن جرموز فقتله كما سيأتي تفصيله بإذن الله.
فالزبير رضي الله عنه كان على وعي لهدفه ـ وهو الإصلاح ـ ولكنه لما رأى حلول السلاح مكان الإصلاح رجع، ولم يقاتل، وقول: ابن عباس: تقاتل بسيفك علي بن أبي طالب؟ فيه حذف مفهومه: أم جئت للإصلاح وجمع الشمل؟. وعلى إثر هذا الحديث انصرف الزبير وترك الساحة.
وربما كانت عوامل متعددة ومتداخلة ساهمت في خروج الزبير من ساحة المعركة، وأما طلحة بن عبيد الله القائد الثاني لجيش البصرة، فقد أصيب في بداية المعركة، إذ جاءه سهم غرْبُ لا يُعرفُ من رماه، فأصابه إصابة مباشرة، ونزف دمه بغزارة، فقالوا له: يا أبا محمد، إنك لجريح، فاذهب وادخل البيوت لتعالج فيها، فقال طلحة لغلامه: احملني وابحث لي عن مكان مناسب، فأُدخل البصرة، ووُضع في دار فيها ليعالج، ولكنَّ جرحه ما زال ينزف حتى توفي في البيت، ثم دفن في البصرة، رضي الله عنه.
وأما الرواية التي تشير إلى تحريض الزبير وطلحة على القتال، ثم أن الزبير لما رأى الهزيمة على أهل البصرة ترك المعركة ومضى؛ فهذه الرواية لا تصح، وهذا الخبر يعارضه ما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم، كما أنه يخالف الروايات الصحيحة التي تنص على أن أصحاب الجمل ما خرجوا إلا للإصلاح، فكيف ينسجم هذا الفعل من الزبير رضي الله عنه مع الهدف الذي خرج من مكة إلى البصرة من أجله ألا وهو الإصلاح بين الناس؟! وبالفعل فإن موقف الزبير رضي الله عنه كان السعي في الإصلاح حتى آخر لحظة، وهذا ما أخرجه الحاكم من طريق أبي حرب بن أبي الأسود الديلي، وفيه: أن الزبير رضي الله عنه سعى في الصلح بين الناس ولكن قامت المعركة واختلف أمر الناس، ومضى الزبير وترك القتال.
وكذلك طلحة، فقد جاء من أجل الإصلاح وليس من أجل إراقة الدماء، وأما عن مقتل طلحة رضي الله عنه؛ فقد كان عند بدء القتال كما صرح بذلك الأحنف بن قيس.
ويخرج الزبير من ميدان المعركة، ويموت طلحة رضي الله عنهما، وبسقوط القتلى والجرحى من الجانبين تكون قد انتهت الجولة الأولى من معركة الجمل، وكانت الغلبة فيها لجيش علي، وكان علي رضي الله عنه يراقب سير المعركة ويرى القتلى والجرحى في الجانبين، فيتألم ويحزن، وأقبل عليٌّ على ابنه الحسن، وضمّه إلى صدره، وصار يبكي ويقول له: يا بُني: ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عاماً. فقال الحسن: يا أبت لقد كنت نهيتك عن هذا، فقال علي: ما كنت أظن أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، وما طعمُ الحياة بعد هذا؟ وأيُّ خير يرُجى بعد هذا؟.
3 - الجولة الثانية:
وصل الخبر إلى أم المؤمنين بما حدث من القتال، فخرجت على جملها تحيط بها القبائل الأزدية، ومعها كعب الذي دفعت إليه مصحفاً يدعو الناس إلى وقف الحرب، تقدمت أم المؤمنين وكلها أمل أن يسمع الناس كلامها لمكانتها في قلوب الناس، فتحجز بينهم وتطفئ هذه الفتنة التي بدأت تشتعل.
وحمل كعب بن سور المصحف، وتقدم أمام جيش البصرة، ونادى جيش علي قائلاً: يا قوم: أنا كعب بن سور، قاضي البصرة، أدعوكم إلى كتاب الله، والعمل بما فيه، والصلح على أساسه، وخشي السبئيون في مقدمة جيش علي أن تنجح محاولة كعب، فرشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد، فلقي وجه الله، ومات والمصحف في يده.
وأصابت سهام السبئيّين ونبالهم جمل عائشة وهودجها، فصارت تُنادي، وتقول: يا بني: الله، الله، اذكروا الله، ويوم الحساب، وكفّوا عن القتال، والسبئيّون لا يستجيبون لها، وهم مستمرون في ضرب جيش البصرة.
وكان علي من الخلف يأمر بالكف عن القتال، وعدم الهجوم على البصريين، لكن السبئيين في مقدمة جيشه لا يستجيبون له، ويأبون إلا إقداماً وهجوماً وقتالاً، ولما رأت عائشة عدم استجابتهم لدعوتها، ومقتل كعب بن سور أمامها، قالت: أيها الناس: العنوا قتلة عثمان وأشياعهم، وصارت عائشة تدعو على قتلة عثمان، وتلعنهم وضجّ أهل البصرة بالدعاء على قتلة عثمان، وأشياعهم، ولعنهم، وسمع عليٌّ الدعاء عالياً في جيش البصرة، فقال: ما هذا؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان، والناس يدعون معها. قال علي: ادعوا معي على قتلة عثمان، وأشياعهم والعنوهم، وضجّ جيش علي يلعن قتلة عثمان والدعاء عليهم، وقال علي: اللهم العن قتلة عثمان في السهل والجبل.
اشتدت الحرب واشتعلت، وتشابك القوم وتشاجروا بالرماح، وبعد تقصف الرماح، استلوا السيوف فتضاربوا بها حتى تقصفت، ودنا الناس بعضهم من بعض، ووجّه السبئيّون جهودهم لعقر الجمل وقتل عائشة أم المؤمنين، فسارع جيش البصرة لحماية عائشة وجملها، وقاتلوا أمام الجمل، وكان لا يأخذ أحد بخطام الجمل إلا قتل، حيث كانت المعركة أمام الجمل في غاية الشدة والقوة والعنف والسخونة، حتى أصبح الهودج كأنه قنفد مما رمي فيه من النبل، وقتل حول الجمل كثير من المسلمين من الأزد وبني ضبة وأبناء وفتيان قريش بعد أن أظهروا شجاعة منقطعة النظير، وقد أصيبت عائشة بحيرة شديدة وحرج؛ فهي لا تريد القتال، ولكنه وقع رغماً عنها وأصبحت في وسط المعمعة، وصارت تنادي بالكف، فلا مجيب.
وكان كل من أخذ بخطام الجمل قتل، فجاء محمد بن طلحة(السجاد) وأخذ بخطامه وقال لأمه أم المؤمنين: يا أماه ما تأمرين، فقالت: كن كخيري ابني آدم ـ أي كف يدك، فأغمد سيفه بعد أن سله فقتل رحمه الله، كما قتل عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، الذي حاول أن يقتل الأشتر حتى لو قتل معه، وذلك أنه صارعه فسقطا على الأرض جميعاً، فقال ابن عتاب لمن حوله: اقتلوني ومالكاً لحنقه عليه لما كان له من دور بارز في تحريض الناس على عثمان رضي الله عنه، ولكن الأشتر لم يكن معروفاً بمالك، ولم يك قد حان أجله، ولو قال: الأشتر؛ لابتدرته سيوف كثيرة.
وأما عبد الله بن الزبير، فقد قاتل قتالاً منقطع النظير، ورمى بنفسه بين السيوف، فقد استخرج من بين القتلى وبه بضع وأربعون ضربة وطعنة، كان أشدها واخرها ضربة الأشتر، إذ من حنقه على ابن الزبير لم يرضَ أن يضربه وهو جالس على فرسه، بل وقف في الركابين فضربه على رأسه ظاناً أنه قتله، واستحر القتل أيضاً في بني عدي وبني ضبة والأزد، وقد أبدى بنو ضبة حماسة وشجاعة وفداء لأم المؤمنين وقد عبر أحد رؤسائهم وهو عمر بن يثربي الضبي برجزه:
نحنُ بَنِي ضَبَّةَ أَصْحَابُ الجَمَلْ نُنَازِلُ المَوْتَ إذا المَوْتُ نَزَلْ
المَوْتُ عِنْدَنَا أَحْلَى مِنَ العَسَلْ نَنْعِي ابْنَ عَفَّانَ بِأَطْرَافِ الأَسَلْ
أدرك أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، بما أوتي من حنكة وقوة، ومهارة عسكرية فذة؛ أن في بقاء الجمل استمراراً للحرب، وهلاكاً للناس، وأن أصحاب الجمل لن ينهزموا أو يكفوا عن الحرب ما بقيت أم المؤمنين في الميدان، كما أن في بقائها خطر على حياتها؛ فالهودج الذي هي فيه أصبح كالقنفذ من السهام، فأمر علي نفراً من جنده منهم محمد بن أبي بكر (أخو أم المؤمنين) وعبد الله بن بديل أن يعرقبا الجمل ويخرجا عائشة من هودجها إلى الساحة. أي: يضربا قوائم الجمل بالسيف ـ فعقروا الجمل، واحتمل أخوها محمد وعبد الله بن بديل الهودج حتى وضعاه أمام علي، فأمر به علي، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل، وصدق حَدْسُ علي رضي الله عنه العسكري، فما إن زال السبب أو الدافع الذي دفع البصريين إلى الإقبال على الموت بشغف، وأخرجت أم المؤمنين من الميدان، حتى ولوا الأدبار منهزمين. ولو لم يتخذ هذا الإجراء لاستمرت الحرب إلى أن يفنى جيش البصرة أصحاب الجمل، أو ينهزم جيش علي.
وعندما بدأت الهزيمة، نادى علي أو مناديه في جيشه أن لا يتبعوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح، ولا يغنموا إلا ما حمل إلى الميدان أو المعسكر من عتاد أو سلاح فقط، وليس لهم ما وراء ذلك من شيء، ونهاهم أن يدخلوا الدور، ليس هذا فحسب، بل قال لمن حاربه من أهل البصرة: من وجد له شيء من متاع عند أحد من أصحابه، فله أن يسترده، فجاء رجل إلى جماعة من جيش علي وهم يطبخون لحماً في قدر له، فأخذ منهم القدر وكفأ ما فيها حنقاً عليهم.
4 - عدد القتلى:
أسفرت هذه الحرب الضروس عن عدد من القتلى اختلفت في تقديره الروايات، وذكر المسعودي: أن هذا الاختلاف في تقدير عدد القتلى مرجعه إلى أهواء الرواة.
فيذكر قتادة أن قتلى يوم الجمل عشرون ألفاً، ويظهر أن فيها مبالغة كبيرة، لأن عدد الجيشين حول هذا العدد أو أقل. أما أبو مخنف الرافضي الشيعي، فقد بالغ كثيراً بحكم ميوله، وقد أساء من حيث يظن أنه أحسن؛ إذ ذكر أن العشرين ألفاً هم من أهل البصرة فقط. وأما سيف فيذكر أنهم عشرة آلاف نصفهم من أصحاب علي رضي الله عنه ونصفهم من أصحاب عائشة رضي الله عنها، وفي رواية أخرى قال: وقيل خمسة عشر ألفاً، خمسة آلاف من أهل الكوفة، وعشرة آلاف من أهل البصرة، نصفهم قتل في المعركة الأولى ونصفهم في الجولة الثانية، والروايتان ضعيفتان للانقطاع وغيره، وفيها مبالغة أيضاً. ويذكر عمر ابن شبة بسنده: أن القتلى يزيدون على ستة آلاف، إلا أن الرواية ضعيفة سنداً. أما اليعقوبي، فقد جاوز هؤلاء جميعاً، إذ وضع عدد القتلى نيفاً وثلاثين ألفاً، وهذه الأرقام مبالغ فيها جداً، وكان من أسباب المبالغة:
أ ـ رغبة أعداء الصحابة من السبئية وأتباعهم، في توسيع دائرة الخلاف بين أبناء الأمة التي يجمعها حبُّ الصحابة والاقتداء بهم بعد رسول الله ﷺ.
ب ـ مساهمة بعض الشعراء والجهلة من أبناء القبائل، في تضخيم ما جرى وتكبيره، ليتناسب مع ما يصنعونه من أشعار ينسبونها إلى بعض زعمائهم وفرسانهم، فضلاً عن وجود قصاص السمر، ورواة الأخبار الذين يجلبون اهتمام الناس بهم، من خلال الأحداث المثيرة التي يتحدَّثون عنها.
ت ـ إيجاد الثقة في نفوس أتباع الغوغاء والسبئية؛ لإثبات نجاح خططهم وتدابيرهم.
أما عن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل فقد كان ضئيلاً جداً للأسباب التالية:
* قصر مدة القتال، حيث أخرج ابن أبي شيبة، بإسناد صحيح: أن القتال نشب بعد الظهر فما غربت الشمس وحول الجمل أحد ممن كان يذب عنه.
* الطبيعة الدفاعية للقتال؛ حيث كان كل فريق يدافع عن نفسه ليس إلا.
* تحرج كل فريق من القتال لما يعلمون من عظم حرمة دم المسلم.
* قياساً بعدد شهداء المسلمين في معركة اليرموك ثلاثة آلاف شهيد، ومعركة القادسية ثمانية آلاف وخمسمئة شهيد، وهي التي استمرت عدة أيام، فإن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل يعد ضئيلاً جداً، هذا مع الأخذ بالاعتبار شراسة تلك المعارك وحِدّتها لكونها من المعارك الفاصلة في تاريخ الأمم.
* أورد خليفة بن خياط بياناً بأسماء من حفظ من قتلى يوم الجمل؛ فكانوا قريباً من المئة، فلو فرضنا أن عددهم كان مئتين وليس مئة، فإن هذا يعني أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المئتين. وهذا هو الرقم الذي ترجح لدى الدكتور خالد بن محمد الغيث في رسالته (استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري ـ دراسة نقدية).
5 - هل يصح قتل مروان بن الحكم لطلحة بن عبيد الله؟:
أشارت كثير من الروايات إلى أن قاتل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه مروان ابن الحكم، ولكن بعد دراسة تلك الروايات اتَّضح براءة مروان بن الحكم من تلك التهمة، وذلك للأسباب التالية:
أ ـ قال ابن كثير: ويقال: إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم، وقد قيل: إن الذي رماه بهذا السهم غيره، وهذا عندي أقرب وإن كان الأول مشهوراً، والله أعلم.
ب ـ قال ابن العربي عمّن قال: إن مروان قتل طلحة بن عبيد الله: ومن يعلم هذا إلا علاّم الغيوب، ولم ينقله ثبت.
ج ـ قال محبُّ الدين الخطيب: وهذا الخبر عن طلحة ومروان لقيط لا يُعرف أبوه ولا صاحبه.
د ـ بطلان السبب الذي قيل: إن مروان قتل طلحة رضي الله عنه من أجله؛ وهو اتهام مروان لطلحة بأنه أعان على قتل عثمان رضي الله عنه، وهذا السبب المزعوم غير صحيح؛ حيث إنه لم يثبت من طريق صحيح: أن أحداً من الصحابة قد أعان على قتل عُثمان رضي الله عنه.
هـ كون مروان وطلحة رضي الله عنه من صف واحد يوم الجمل، وهو صف المنادين بالإصلاح بين الناس.
و ـ أن معاوية رضي الله عنه قد ولَّى مروان على المدينة ومكة، فلو صح ما بدر من مروان لما ولاه معاوية رضي الله عنه على رقاب المسلمين وفي أقدس البقاع عند الله.
ز ـ وجود روايـة لمروان بن الحكم في صحيح البخاري، مع ما عـرف عن البخاري رحمه الله من الدقة وشدة التحري في أمر من تقبل روايته، فلو صح قيام مروان بقتل طلحة رضي الله عنه لكان هذا سبباً كافياً لرد روايته والقدح في عدالته.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022