حكم ومواعظ الحسن بن علي رضي الله عنهما: تجسيد حقيقي للقيم الإسلامية السامية
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: السادسة والثلاثون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
ـ مشاركته الفرح والحزن:
فإذا كان عند جاره مناسبة سارة فينبغي له أن يذهب إليه، وأن يشاركه ويقاسمه فرحه، ما لم يكن فيه معصية وإذا أحلت به
نازلة فينبغي له أن يحضره، وأن يشاركه ويقاسمه حزنه، ويواسيه بالكلمة الصالحة، ويشد من أزره. وكل هذا من حق المسلم أصلا على أخيه المسلم، والجار أولى بهذه الحقوق من غيره.
ـ أن يعرض عليه البيت قبل غيره إذا أراد التحول عنه:
فإذا أراد أن ينتقل من داره فليعرضها على جاره قبل غيره، فقد يرغب في شرائها، وكذلك أي أرض أو عقار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فأراد بيعها فليعرضها على جاره . وهذا أطيب لخاطره ولقلبه، وإذا فرط الناس في هذا الأمر فإنهم يفتحون بابا للمشاحنات والمنازعات والعداوات، فالله المستعان.
ـ ألا يمنع جاره من غرس خشبه في جداره: إذا احتاج الجار إلى ذلك، فينبغي أن يسمح له بغرس هذه الخشبة، ولا يمنعه من الانتفاع بها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يمنع جار جاره أن يغرس خشبه في جداره . ثم قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم. أي لأصرحن ولأحدثن بها بينكم مهما ساءكم ذلك وأوجعكم ويفهم من الحديث كل مساعدة يحتاجها الجار ولا يترتب عليها ضرر لجاره، فالإسلام يحث على تقديمها.
ـ تعظيم حرمة الجار وعدم خيانته: لا بإفشاء سره، ولا بهتك عرضه، ولا بالفجور بأهله، فإنه من أقبح الكبائر قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قيل ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك ، بل ينبغي أن يحفظه في نفسه وماله وعرضه، حتى يأمنه جاره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: والله لا يؤمن ـ ثلاثاً ـ الذي لا يأمن جاره بوائقه . أي غدره وخيانته . ولذلك كان الحسن بن علي رضي الله عنه يوصي الناس في مواعظه وخطبه بحسن الجوار والإحسان إلى الجار فقد قال: واحسن جوار من جاورك تكن مسلماً .
ح ـ قوله: وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك بمثله تكن عادلاً: فالحسن رضي الله عنه يحث المسلمين على إنصاف الناس ومصاحبتهم بالعدل وعدم ظلمهم، فالإنصاف خصلة شريفة، وخلة كريمة، يدل على نفس مطمئنة، وأفق واسع، ونظر في العواقب بعيد، ويعرف بأنه، استيفاء الحقوق لأربابها ، واستخراجها بالأيدي العادلة، والسياسة الفاضلة ، وقال ابن القيم في إنصاف الناس: أن تؤدي حقوقهم، وألا تطالبهم بما ليس لك، وألا تحملهم فوق وسعهم، أن تعاملهم بما تحب أن يعاملوك به، وأن تعوضهم ممّا تحب أن يعوضوك منه، وأن تحكم لهم أو عليهم بما تحكم به لنفسك أو عليها . الإنصاف والعدل تؤمان نتيجتهما عُلُوُّ الهمَّة، وبراءة الذِّمَّة باكتساب الفضائل، واجتناب الرَّذائل ، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالأنصاف، ونهى أن يحملنا بغضنا للكُفَّار على عدم الأنصاف، فقال عزّ وجلَّ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَاتعْمَلُون)) (المائدة: 8). قال ابن تيميه ـ رحمه الله ـ: فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألاَّ يعدلوا، فكيف إذا كان البغض لفاسق، أو مبتدع، أو متأوِّل من أهل الإيمان؟ فهو أولى أن يجب عليه ألاَّ يحمله ذلك على ألاَّ يعدل على مؤمن، وإن كان ظالماً له . وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، فإن العدل واجب على كلِّ أحد في كل أحد في كل حال، وقال لبعض السلف: ما عملت من عص الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه .
وقال سبحانه وتعالى: ((وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)) (المائدة: 2). قال أبو عبيدة والفراء: أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى البال، والعدل إلى الظلم فما أجمل أن يتحلى المرء بالإنصاف، فهو من صفات الربانيين الذين لا يرجون إلا الحق .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
وتعر من ثوبين من يلبسهما
يلق الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه
ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة
زينت بها الأعطاف والكتفان
وقال المتنبي:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال ولو كان ذوي رحم
ومن إنصاف العباد إنصافهم في الأموال والمعاملات، والحجج والمقالات وقد عاب الله سبحانه وتعالى الذين يبخسون الناس أشياءهم، وأوعدهم بالخسارة والهلاك، فقال سبحانه وتعالى: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)) (المطففين: 1 ـ 3). قال ابن سعدي ـ رحمه الله ـ: دلت الآية الكريمة على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له، يجب عليه أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في عموم هذه الحجج والمقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن واحد منهما يحرص على ما له من الحجج، فيجب عليه ـ أيضاً ـ أن يبين ما لخصمه من الحجج التي لا يعلمها، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه ، وتواضعه من كبره، وعقله من سفهه . فما أجمل قول الحسن بن علي رضي الله عنه: وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك بمثله تكن عادلاً
خ ـ قول الحسن رضي الله عنه: إنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيراً ويبنون مشيداً ويأملون بعيداً أصبح جمعهم بوراً وعملهم غروراً ومساكنهم قبوراً يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فجد بما في يدك لما بين يديك فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع وتلا هذه الآية ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (البقرة، الآية: 197). فالحسن رضي الله عنه يصف صنفاً من الناس منغمساً في الدنيا وزينتها، مشغولاً بالجمع والبناء ومصاباً بمرض طول الأمل فهذا حال أغلب الناس إلا من رحم ربي، فإذا الموت يأتي بغتة، فلم ينتفعوا بما جمعوا، فأصبحت أعمالهم ضائعة، ومساكنهم خالية، فالحسن بن علي رضي الله عنه يحذر الناس من الإغترار بهذه الدنيا ويحثهم على الزهد فيها وإنما ينشأ الزهد لليقين بالتفاوت بين الدنيا والآخرة، قال تعالى ((قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)) (النساء، آية: 77). والقرآن يربي المؤمن على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الكفار هم الذين يغترون بزينة الدنيا وزخرفها، فقال تعالى: ((زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) (البقرة، الآية: 212).
وقد بين القرآن الكريم في كثير من المواضع أن الدنيا حقيرة لا يجب أن تشغل المرء عن طلب الآخرة منها قوله تعالى: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)) (التكاثر، الآية: 1ـ 8)، أي أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها . وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) يقول ابن آدم مالي مالي، وهو لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت، فأمضيت ؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث، ما أكل فأفنى، أو لبس، فأبلى، أو تصدق فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله ، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يهرم ابن آدم وتبقى معه اثنتان: الحرص والأمل ، وقال الأحنف بن قيس لما رأى في يد رجل درهماً: لمن هذا الدرهم؟ فقال الرجل: لي، فقال: إنما هو لك إذا أنفقته في أجر، أو ابتغاء شكر، ثم أنشد الأحنف متمثلاً قول الشاعر:
أنت للمال إذا أمسكته
فإذا أنفقته فالمال لك
وفي قوله تعالى: ((ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم)) أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ما إذا قابلتم به نعمة من شكره وعبادته . وقال تعالى: ((وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزْواجاً منْهُم زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)) (طه: 131، 132). قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم وما فيه من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: ((أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)) يعني: الأغنياء، فقد آتاك الله خيراً مما آتاهم. ولهذا قال: ((وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئاً قال: إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: بركات الأرض وقال قتادة والسدي: (زهرة الحياة) يعني: زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة: ((لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)) لنبتليهم. وقوله: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) أي: استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)) (التحريم، الآية: 6). وقوله: ((لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) يعني: إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب.
كما قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)) (الطلاق: 2، 3) ولهذا قال: ((لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)). وقال الثوري: لا نسألك رزقاً: أي لا نكلفك الطلب. وقال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة . وعن زيد ابن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة . وقوله: ((وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)) أي: وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن أتقى .. انتهى . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فأثر في جنبه فلما استيقظ جعلت امسح عنه، فقلت: يا رسول الله، ألا آذنتنا فبسطنا شيئاً يقيك منه، فتنام عليه، فقال: مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فقال تحت شجرة، ثم تركها .
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم سائرين على نهج النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا أزهد الناس وأرغبهم في الآخرة، فنظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا زاد الراكب ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم، فعلموا أنهم سينظرون إليها بقلوبهم وأعينهم ولمَّا علموا أنهم سيرتحلون منها بأبدانهم تعبوا قليلاً، وتنعموا كثيراً، كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم، فأحبوا ما أحبَّ لهم، وكرهوا ما كره لهم، قال ابن مسعود رضي الله عنه للتابعين: لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا خيراً منكم، كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة، فكان في التابعين من هو أكثر قياماً وصياماً وعبادة من الصحابة رضي الله عنهم، ولكن الصحابة رضي الله عنهم سبقوا بأحوالهم الإيمانية من الزهد واليقين، وصدق التوكل على الله عز وجل ولا شك في أن الصحابة رضي الله عنهم تعلموا الزهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاث أهلة في شهرين، ولا يُوقد في بيته من أبياته نار . وأما قول الحسن بن علي رضي الله عنهما: فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع وتلا هذه الآية: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (البقرة، الآية: 197). ففيها دعوة للتقوى، والالتزام بها، والتقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله والمطلوب من العبد أن يتعلق قلبه بالله وحده محبة له وإخلاصاً له في عبادته ورغبة فيما عنده من نعيم أعده للمتقين، فخوفاً من سخطه وعقابه وعذابه.
وللتقوى ثمار يحتاج إليها كل مسلم منها، المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب العبد، قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)) (الطلاق، الآية: 4).
ومنها، تيسير العلم النافع، قال تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)) (البقرة، الآية: 282). ومنها، إطلاق نور البصيرة، قال تعالى ((إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) الأنفال، الآية: 29)، ومنها، محبة الله عز وجل ومحبة ملائكته والقبول في الأرض، قال تعالى: ((بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) (آل عمران، الآية: 76)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل عليه السلام ثم ينادي في أهل السماء، إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض . ومنها، نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده: وهي المعية المقصودة بقول الله عز وجل: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) (البقرة، الآية: 194) فهذه المعية هي معية التأييد والنصرة والتسديد وهي معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه ومعيته للمتقين والصابرين وهي تقتفي التأييد والحفظ والإعانة كما قال تعالى لموسى عليه السلام وهارون ((لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) (طه، الآية: 46) وأما المعية العامة مثال قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) (الحديد، الآية: 4) وقوله: ((وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)) (النساء: 108). والمعية العامة تستوجب من العبد الحذر والخوف ومراقبة الله عز وجل.
ومنها، البركات من السماء والأرض قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)) (الأعراف، الآية: 96). ومنها البشرى في الحياة الدنيا، وهي الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم، قال تعالى: ((أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ َلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) (يونس، الآية: 62 ـ 64) والبشرى في الحياة ما بشر الله: المؤمنين المتقين. في غير مكان من كتابه وعن النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة من الله . وعنه صلى الله عليه وسلم: لم يبق من النبوة إلا المبشرات.قالوا: وما المبشرات قال: الرؤيا الصالحة . وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن . وقد رأينا من الموفقين ثناء الناس على أعمالهم في الدنيا. ومنها الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم قال تعالى: ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) (آل عمران، الآية: 120). يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن . ومنها، حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى عز وجل، قال تعالى: ((وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)) (النساء، الآية: 9).
وفي الآية إشارة إلى إرشاد المسلمين الذين يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شئونهم حتى تحفظ أبناؤهم ويدخلون تحت حفظ الله وعنايته، ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله، وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع، وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف كما الآية: ((وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)) (الكهف، الآية: 82). فإن الغلامين حفظا ببركة أبيهما في أنفسهما ومالهما ، ومنها، سبب قبول الأعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) (المائدة، الآية: 27). ومنها، سبب النجاة من عذاب الدنيا، قال تعالى: ((وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) (فصلت، الآية: 18 ـ 19). ومنها، تكفير السيئات وهو سبب النجاة من النار، وعظم الأجر، وهو سبب الفوز بدرجة الجنة، قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)) (الطلاق، الآية: 5).
ومنها ميراث الجنة، فهم أحق الناس بها وأهلها، بل ما أعد الله الجنة إلا لإصحاب هذه الرتبة العلية والجوهرة البهية. قال تعالى: ((تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا)) (مريم، الآية: 63).
فهم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل، وهم لا يذهبون إلى الجنة سيراً على أقدامهم بل يحشرون إليها ركباناً مع أن الله عز وجل يقرب إليهم الجنة تحية لهم ودفعاً لمشقتهم كما قال تعالى: ((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)) (ق، الآية: 31) وقال تعالى ((يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)) (مريم، الآية: 85). فالحسن رضي الله عنه يحث المسلمين على التقوى حرصاً منه على أن ينال المسلمين هذه الثمار في الدنيا والآخرة ولذلك قال: فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع وتلا هذه الآية: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (البقرة، الآية: 197).
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf