*قيس بن سعد بن عبادة شخصية مؤثرة زمن خلافة الحسن بن علي (رضي الله عنهما) 2*
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الثامنة والثلاثون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
1 - في عهد علي رضي الله عنه:
استشهد عثمان رضى الله عنه وعلى مصر محمد بن أبي حذيفة مغتصبًا للولاية فيها، ولم يقره عثمان عليها، وبعد وفاة عثمان أقره عليّ على مصر فترة من الوقت لم تطل، حيث وجه معاوية جيشًا إلى نواحى مصو فظفر بمحمد بن أبي حذيفة فقبض عليه ثم سجن وقتل ، وقد ذكر أن عليًا لم يعين محمد بن أبي حذيفة على مصر وإنما تركه على حاله حتى إذا قتل عين على قيس بن سعد الأنصاري على ولاية مصر ، فقال له: سر إلى مصر وليتكها واخرج إلى رحلك واجمع إليه ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله. فأحسن إلى المحسن واشتد على المريب وارفق بالعامة والخاصة فإن الرفق يمن ، وقد ظهر ذكاء قيس وحسن تصرفه في العديد من المواقف؛ فإنه حين توجه إلى مصر كان فيها مجموعة ممن غضبوا لمقتل عثمان، ومجموعة ممن اشتركوا في قتله، ولقد لقيته خيل من مصر قبل دخوله إليها فقالوا: من أنت؟ قال: من فألة عثمان، فأنا أطلب من أوى إليه فانتصر به لله، قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد، قالوا: امض فمضى حتى دخل مصر ، وهذا الموقف الذي لقيس هو الذي مكنه من دخول مصر، ثم أعلن بعد ذلك أنه أمير، وربما لو أنه أعلن لهؤلاء الأجناد أنه أمير لمنعوه من دخول مصر أصلاً، كما حدث لمن وجهه عليّ إلى الشام فمنعته أجناد الشام من دخولها حينما علموا أنه قد بعث أميرًا على الشام ، وحينما وصل قيس بن سعد إلى الفسطاط صعد المنبر وخطب في أهل مصر، وقرأ عليهم كتابًا من على ابن أبي طالب رضي الله عنه وطلب البيعة لعلى ، وهنا انقسم أهل مصر إلى فريقين فريق دخل في بيعة على وبايعوا قيسًا، وفريق توقف واعتزل، وكان قيس ابن سعد حكيمًا مع الذين بايعوا والذين امتنعوا، حيث لم يجبرهم على البيعة وكف عنهم وتركهم في حالهم ، ولم يكتف بذلك بل إنه بعث لهؤلاء أعطياتهم في مكان اعتزالهم، ووفد عليه قوم منهم فأكرمهم وأحسن إليهم ، فساعدت تلك المعاملة الطيبة على تجنب الصدام بهم، وبالتالى ساعدته على هدوء الأوضاع بمصر، حتى استطاع قيس أن ينظم الأمور فيها، فوزع الأمراء ونظم أمور الخراج وعين رجالات على الشرطة ، وبذلك استطاع أن يرتب ولاية مصر، وأن يسترضى جميع الأطراف فيها ، وأصبح قيس بن سعد في هذا الموقع يشكل ثقلاً سياسيًا وخطرًا عسكريًا على معاوية بن أبي سفيان في الشام، ونظرًا لقرب مصر من الشام ولترتيب قيس لها وتنظيمها، وما اشتهر عن قيس من حزم ودهاء، وخوف معاوية من حركات عسكرية مناوئة له تخرج من مصر، ولذلك فإنه أخذ يراسل قيس بن سعد في مصر مهددًا له، وفى الوقت نفسه يحاول إغراءه بالانضمام إليه وكانت إجابات قيس على تلك الرسائل إجابات ذكية بحيث لم يستطع معاوية أن يفهم موقف قيس وما ينوى عمله، وقد تعددت بينهما الرسائل ، وقد انتشرت الروايات الشيعية من الرسائل بين معاوية وقيس بن سعد التى ذكرها أبو مخنف في كتب التاريخ وهى باطلة لا تصح، فقد انفرد بها هذا الرافضي التالف الذي ضعفه رجال الجرح والتعديل بها، وفى متن تلك الرواية الساقطة غوائب من أبرزها ما يلى:
أ- خطاب على إلى أهل مصر مع قيس بن سعد وفيه: ثم ولى بعدهما وال فأحدث أحداثًا فوجدت عليه الأمة مقالاً فقالوا ثم نقموا عليه فغيروا، وهذا يعني أن الذين قاموا على عثمان رضي الله عنه، رجال الأمة، وأن الأمة قد غيرت هذا المنكر بقتل عثمان، وعلى رضي الله عنه برئ من هذا القول، وهو يعلم أن الذين قتلوا عثمان هم أوباش الناس وأن قتله ظلم وفجور، وأقواله تدل على ذلك ومنها ما رواه ابن عساكر أن محمد بن الحنفية قال: ما سمعت عليًا ذاكرًا عثمان بسوء قط ، وأخرج الحاكم وابن عساكر أن عليًا رضي الله عنه قال: اللهم إنى أبرأ إليك من دم عثمان. ولقد طاش عقلى يوم قتل عثمان وأنكرت نفسى، وجاؤونى للبيعة فقلت: والله إنى لأستحى من الله أن أبايع قومًا قتلوا رجلاً قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا أستحى ممن تستحى منه الملائكة وإنى لأستحى من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا فلما دفن رجع الناس يسألوننى البيعة، فقلت: اللهم إنى مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت، فلما قالوا: أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبى وانسكب بعبرة، وقد أرسل الحسن والحسين رضي الله عنهما للدفاع عن عثمان رضي الله عنه وأقواله في هذا المعنى كثيرة ، وقد جمعتها في كتابى تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان .
ب- قول قيس بن سعد: أيها الناس إنا قد بايعنا خير ما نعلم بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذا مردود؛ إذ أن الثابت تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، على بقية الصحابة وعلى علىٍّ رضي الله عنه كما صح عن على نفسه أنه صرح بذلك وهذا لا يشك فيه أحد في ذلك الزمان من الصحابة وغيرهم، وعليه فلا يصح نسبة هذا الكلام لقيس بن سعد رضي الله عنه ولا لغيره من الصحابة، ولم يشتهر هذا إلا عند الشيعة الروافض المتأخرين ، قال ابن تيمية: الشيعة المتقدمون كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر ، والأدلة في تفضيل أبي بكر وعمر كثيرة منها ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبى - صلى الله عليه وسلم -، فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ، والأحاديث في ذلك كثيرة ، ومشهورة وحقيقة الأمر كما مر معنا في الروايات. الصحيحة السابقة أن معاوية طلب من أمير المؤمنين تسليمه قتلة عثمان ولم يتهم أمير المؤمنين على به.
ج- رسالة معاوية إلى قيس بن سعد: وإشارته فيها إلى كون على طرفًا في قتل عثمان، وهذا لا يصح صدوره من معاوية، ذلك أن الأمر واضح فيه براءة على رضى الله عنه كما في الفقرة السابقة وهذا لا يجهله معاوية رضي الله عنه فضلاً أن يُقره لقيس بن سعد رضى ألله عنهما، وهذا محمد بن سيرين من كبار التابعين ومن الذين عاصروا ذلك المجتمع يقول: لقد قتل عثمان وما أعلم أحدًا يتهم عليًا في قتله ، ويقول أيضاً: لقد قتل عثمان يوم قتل وإن الدار يومئذ لغاصة، فيهم عبد الله بن عمر، وفيهم الحسن بن علي في عنقه السيف، ولكن عثمان عزم عليهم أن لا يقاتلوا ، وأخرج ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن محمد بن الحنفية أن عليًا قال: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل والبر والبحر ، والنصوص الصحيحة في هذا المعنى كثيرة جدًا ، مما يؤكد اشتهار كراهية علي رضي الله عنه لقتل عثمان .
د- وأما ما أورده من اتهام معاوية للأنصار في دم عثمان فهذا لا يصح من معاوية وهو يعلم أن الذي قام بالدفاع جميعًا هم الأنصار، فقد أخرج ابن سعد بسند صحيح أن زيد بن ثابت رضي الله عنه جاء إلى عثمان رضي الله عنه وهو محصور فقال: هذه الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، قال: فقال عثمان: أما القتال فلا .
هـ- ما ذكره من اختلاق معاوية كتابًا على لسان قيس بن سعد، فهذا من الكذب الذي لا يعقل صدوره من معاوية، ذلك أن العرب كانوا يعدون الكذب من أقبح الصفات التى يتنزه عنها الرجال الكرام، وهذه قصة أبي سفيان وهو يومئذ على الشرك فيما أخرجه البخاري في قصة سؤال هرقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من يأثرون على كذبًا لكذبت عنه ، فهذه منزلة الكذب عند العرب، وعند المسلمين أشد وأخزى. ولا يقول قائل: هذه خدعة، والحرب خدعة؛ فإن الخدعة ليس معناها الكذب، كما هو معلوم من كلام العرب، ومعاوية رضي الله عنه أحذق من أن يفعل هذا .
و رواية هذه الكتب الكثيرة بين قيس ومعاوية وعلى رضي الله عنهم بهذا التسلسل وبهذه الدقة تدخل الشك والريبة على القارئ لجهالة المطلع والناقل لها. يقول الدكتور يحيى اليحيى: إن ولاية قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما على مصر من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر مجمع عليه ، وكل من ترجم لقيس لم يذكر هذه التفاصيل - أي التى ذكرها أبو مخنف في روايته -وحتى مؤرخو مصر المعتبرون لم يذكروا ذلك ، هذا وقد نقل رواية أبي مخنف من الطبرى بعد حذف واختصار كل من: ابن الأثير، وابن كثير، وابن خلدون، وابن تغرى بردى ، وقد أخرج الكندى أيضاً عن عبد الكريم الحارث قال: لما ثقل مكان قيس على معاوية كتب إلى بعض بنى أمية بالمدينة: أن جزى الله قيس بن سعد خيرًا واكتموا ذلك؛ فإنى أخاف أن يعزله على إن بلغه ما بينه. وبين شيعتنا حتى بلغ عليًا فقال من معه من رؤساء أهل العراق وأهل المدينة: بدل قيس وتحول، فقال على: ويحكم إنه لم يفعل، فدعونى، قالوا لتعزله فإنه بدل، فلم يزالوا به حتى كتب إليه: إنى قد احتجت إلى قربك، فاستخلف على عملك وأقدم ، وقد رجح هذه الرواية الدكتور اليحيى في كتابه القيم مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبرى قال:
- أنها من رواية مصرى ثقة وهو أعلم بقطره من غيره.
- أخرجها مؤرخ مصرى.
- خلوها من الغرائب.
- متنها مما يتفق مع سيرة أولئك الرجال.
- بينت تردد على في عزل قيس حتى ألح عليه الناس، فاستبقاه عنده وهكذا القائد لا يفرط بالقيادات الحاذقة وقت المجن .
هذا وقد تدخل بعض الناس للإفساد بين على وقيس بن سعد لكى يعزله وفى نهاية المطاف طلب بعض مستشارى على منه أن يعزل قيسًا وصدقوا تلك الإشاعات التى قيلت فيه، وألحوا في عزله، فكتب إليه على: إنى قد احتجت إلى قربك فاستخلف على عملك وأقدم . كان هذا الكتاب بمثابة عزل لقيس عن ولاية مصر، وقد عين على مكانه الأشتر النخعى ، على أكثر الأقوال، وقد التقى علي بالأشتر قبل سفره إلى مصر، فحدثه حديث أهل مصر وخبره خبر أهلها، وقال: ليس لها غيرك اخرج رحمك الله؛ فإنى إن لم أوصك اكتفيت برأيك واستعن بالله على ما أهمك فأخلط الشدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ واعزم بالشدة حين لا يغنى عنك إلا الشدة ، وقد توجه الأشتر إلى مصر ومعه رهط من أصحابه إلا أنه حينما وصل إلى أطراف بحر القلزم -البحر الأحمر- مات قبل أن يدخل مصر، وقد قيل إنه سقى شربة مسمومة من عسل فمات منها، وقد اتهم أناس من أهل الخراج أنهم سموه بتحريض من معاوية ، والتهمة الموجهة إلى معاوية في قتل الأشتر بالسم لا تثبت من طريق صحيح واستبعد ذلك ابن كثير ، وابن خلدون ، وسار على نهجهم الدكتور يحيى اليحيى ، وملت إلى هذا القول، هذا وقد مات الأشتر قبل أن يباشر عمله في مصر، ومع ذلك فإن المصادر تتحدث عنه كأحد ولاة مصر لعلي بن أبي طالب، وقد ولى بعده على مصر محمد بن أبي بكر ، وقد سبق لمحمد بن أبي بكر أن عاش في مصر قبل أن يغادرها الوالى الأول قيس بن سعد، وقد دارت محاورة بين قيس بن سعد ومحمد بن أبي بكر قدم فيها قيس عدة نصائح لمحمد، خصوصًا فيما يتعلق بالناس الغاضبين لمقتل عثمان، والذين لم يبايعوا عليًا بعده وقد قال قيس: يا أبا القاسم إنك قد جئت من عند أمير المؤمنين وليس عزله وإياى بمانعى أن أنصح لك وله، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، ودع هؤلاء القوم ومن انضم إليهم -يقصد الذين لم يبايعوا عليًا ولا غيره- على ما هم عليه؛ فإن أتوك، فاقبلهم وإن تخلفوا عنك فلا تطلبهم، وأنزل الناس على قدر منازلهم، وإن استطعت أن تعود المرضى وتشهد الجنائز فافعل فإن هذا لا ينقصك . ثم رجع قيس إلى المدينة وبعدها التحق بأمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالكوفة وشهد معه معركة صفين وهو القائل يومها:
هذا اللواء الذي كُنا نحف به ... مع النبى وجبريل لنا مدد
ما ضر من كانت الأنصار عيبته ... أن لا يكون له من غيرهم أحد
قوم إذا حاربوا طالت أكُفُهمُ ... بالمشرفية حتى يفتح البلد
وبقى مع أمير المؤمنين علي حتى قتل. فصار مع الحسن في مقدمته إلى معاوية، فلما بايع الحسن معاوية -وسيأتي تفصيلها بإذن الله- دخل قيس في بيعة معاوية، وعاد إلى المدينة ، وأقبل على العبادة .
2 - قول قيس: إنا لا نعود في شيء أعطيناه :
عن موسى بن أبي عيسى أن رجلاً استقرض من قيس بن سعد بن عبادة ثلاثين ألفًا، فلما ردها عليه أبي أن يقبلها وقال: إنا لا نعود في شيء أعطيناه .
3 - قول قيس: لقد سألت فأحسنت :
جاءت عجوز إلى قيس بن سعد بن عبادة قد كان يعرفها، فقال لها: كيف أنت؟ فقالت: أحمد الله إليك ما في بيتى فأرة تدب، فقال: لقد سألت فأحسنت، لأملان عليك بيتك فأرًا، فأمر لها بدقيق كثير وزيت وما يحتاج إليه معها وانصرفت . وقد ذكرها ابن عبد البر وقال: مشهورة صحيحة .
4 - حال الرجل الذي تمنى قيس أن يعمل مثله :
قال قيس بن سعد: تمنيت أن أكون في حال رجل رأيته، أقبلنا من الشام، فإذا نحق بخباء، فقلنا: لو نزلنا ها هنا فإذا امرأة في الخباء، فلم نلبث أن جاء رجل بذود له، فقال لامرأته: من هؤلاء؟ فقالت: قوم نزلوا بك، فجاء بناقة فضرب عرقوبيها ثم قال: دونكم، وقال: يا هؤلاء انحروها، قال: فنحرناها فأصبنا من أطايبها، فلما كان من الغد جاءنا بأخرى، فضرب عرقوبيها، وقال: يا هؤلاء انحروها، قال: فنحرناها، فقلنا: اللحم عندنا كما هو قال: إنا لا نطعم أضيافنا الغاب، قال: فقلت لا"صحابى: إن هذا الرجل إن أقمنا عنده لم يبق عنده بعير، فارتحلوا بنا، وقلت لقيمى: اجمع ما عندك، قال: ليس إلا أربع مائة درهم، قلت: هاتها، وهات كسوتى، فجمعناها فقلت: بادروه، فدفعناه إلى امرأته، ثم سرنا، فلم نلبث أن رأينا شخصًا، فقلت: ما هذا؟ قالوا: لا ندرى، فدنا، فإذا رجل على فرس يجر رمحه، فإذا صاحبنا، فقلت: وأسوأتاه استقل والله ما أعطيناه، قال: فدنا، فقال: دونكم متاعكم، فخذوه فقلت: والله ما كان إلا ما رأيت، ولقد جمعنا ما كان عندنا، قال: إنّى والله لم أذهب حيث تذهبون، فخذوه، قلنا: فلا نأخذه، قال: والله لأميلنّ عليكم برمحى ما بقى منكم رجل أو تأخذونه، قال: فأخذناه فوليّ وقال: إنا لا نبيع القِرَى ، أي الضافة.
5 - أسخى الناس هل قيس بن سعد، أم عبد الله بن جعفر، أم عرابة الأوسى؟
امترى ثلاثة في الأجواد، فقال رجل: أسخى الناس عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وقال آخر: أسخى الناس في عصرنا هذا قيس بن سعد بن عبادة، وقال الثالث: أسخى الناس عرابة الأوسى، فتلاحوا وأفرطوا وكثر ضجيجهم في ذلك بفناء الكعبة، فقال لهم رجل: قد أكثرتم، فلا عليكم يمضى كل منكم إلى صاحبه، يساله حتى ينظر ما يعطيه، ونحكم على العيان، فقام صاحب عبد الله بن جعفر، فصادفه وقد وضع رجله في غرز راحلته، يريد ضيعة له، فقال له: يا ابن عم رسول - صلى الله عليه وسلم -، قال: قل ما تشاء، قال: ابن سبيل ومنقطع به، قال: فأخرج رجله من الغرز وقال: ضع رجلك واستو على الناقة، وخذ ما في الحقيبة، ولا تحد عن السيف، فإنه من سيوف علي بن أبي طالب وامض لشأنك، قال: فجاء بالناقة والحقيبة فيها مطاوف خزّ، وفيها أربعة آلاف ينار، وأعظمها وأجلها خطرًا السيف.
ومضى صاحب قيس بن سعد بن عبادة فلم يصادفه وعاد، فقالت له الجارية: هو نائم فما حاجتك إليه؟ قال: ابن سبيل ومنقطع به، قالت: فحاجتك أيسر من إيقاظه، هذا كيس فيه سبع مائة دينار، ما في دار قيس مال في هذا اليوم غيره، وامضي إلى معاطن الإبل إلى مولانا بغلامينا، فخذ راحلةٍ مرحّلة، وما يصلحها، وعبدًا، وامض لشأنك، فقيل: إن قيسًا انتبه من رقدته، فخبرته المولاة بما صنعت، فأعتقها، وقال لها: ألا نبهتنى فكنت أزيده من عروض ما في منزلنا، فلعل ما أعطيته لم يقع بحيث ما أراد.
ومضى صاحب عرابة الأوسي إليه فألفاه وقد خرج من منزله يريد الصلاة، وهو متوكّئ. على عبدين، وقد كُفّ بصره فقال: يا عرابة، قال: قل ما تشاء قال: ابن سبيل ومنقطع به قال: فخليّ عن العبدين، ثم صفّق بيده اليمنى على اليسرى ثم قال: أوه والله ما أصبحت ولا أمسى وقد تركت الحقوق لعرابة من مال، ولكن خذهما فهما حرّان، وإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ، وأقبل يلتمس الحائط بيده قال: فأخذهما وجاء بهما قال: فحكم الناس على ابن جعفر قد جاء بمال عظيم، وإن ذلك ليس بمستنكر له إلا أن السيف أجلهّا، وأن قيسًا أحد الأجواد حكّم مملوكة في ماله بغير علمه، واستحسانه ما فعله وعتقه لها، وما تكلم به، وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسى لأنه جهد من مُقّل . ومن قيم ذلك العصر الواضحة المعالم التنافس في الكرم والجود وفعل الخير.
6 - خبر منسوب إلى قيس لا يصح إثباته:
بعث قيصر إلى معاوية بن أبي سفيان، أن ابعث على سراويل أطول رجل من العرب، فقال لقيس بن سعد: ما أظننا إلا قد احتجنا إلى سراويلك، قال: فقام فتنحىّ فجاء بها فألقاها إلى معاوية، فقال معاوية: رحمك الله، ما أردت إلا هذا؟ ألا ذهبت إلى منزلك ثم بعثت بها إلينا؟ فقال قيس:
أردت بها كى يعلم الناس أنّها ... سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادى نمته ثمود
وإنى من الحيّ اليمانى لسيدٌ ... وما الناس إلاّ سيد ومسود
فكدهم بمثلى إن مثلى عليهم ... شديد وخلقى في الرجال مديد
قال: فأمر معاوية أطول رجل في الجيش فوضعها على أنفه فوقعت بالأرض، قال: فدعا معاوية بسراويل، فلما جيء بها. قال له قيس: نح عنك ثيابك هذه،
فقال معاوية:
أما قريش فأقوام مسرولة ... واليثربيون أصحاب التبابين
فقال قيس:
تلك اليهود التى يعنى ببلدتنا ... كما قريش هم أهل السخاخين
وجاء في رواية أخرى: أن قيصر كتب إلى معاوية: إنِّى قد وجهت إليك رجلين: أحدهما أقوى رجل ببلادي، والآخر أطول رجل في أرضى، وقد كانت الملوك تتجارى في مثل هذا وتتحاجى به، فأخرج إليهما ممن في سلطانك من يقاوم كلّ واحد منهما، فإن غلب صاحباك حملت إليك من المال وأسارى المسلمين كذا وكذا، وإن غلب صاحباي هانتنى ثلاث سنين، فلما ورد كتاب قيصر على معاوية أهمّه وشاور فيه أصحابه فقيل له: أما الأيد فادع لمناهضته إما محمد ابن الحنفية وإما عبد الله بن الزبير، فقال: فأحضر محمد بن علي والأيد الرومى حاضر، فأخبره بما دعاه له، فقال محمد للرومى: ما تشاء؟ فقال: يجلس كلّ واحد منا ويدفع يده على صاحبه، فمن قلع صاحبه من موضعه أو رفعه عن مكانه فقد فلح عليه، ومن عجز عن ذلك وقهره صاحبه قضى بالغلبة له، فقال محمد: هذا لك، فاختر أينا يبدأ بالجلوس، فقال له: اجلس أنت، فجلس وأعطاه يديه، فجعل يمارسه ويجتهد في إزالته عن موضعه فلم يتحرك محمد، وظهر عجز الرومى لمن حضر، فقال له محمد: اجلس الآن، فجلس وأخذ بيده فما لبث أن اقتلعه ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض، فسّر معاوية وحاضروه من المسلمين. وقال معاوية لقيس بن سعد والرومى الطوال: تطاولا، فقال قيس: أنا أخلع سراويلى ويلبسها هذا العلج، فإن ما بيننا يبين بذلك، ثم خلع سراويله، وألقاها إلى الرومى فلبسها، فبلغت ثدييه وانسحب بعضها في الأرض، فاستبشر الناس بذلك، وجاءت الأنصار إلى قيس فقالت له: تبذَّلت بين يدى معاوية ولو كنت مضيت إلى منزلك وبعثت بالسراويل إليه، فقال:
أردت لكيما يعلم الناس ... أنهما سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادّى نمته وتمود
وإني من القوم الثمانين سيّدٌ ... وما الناس إلا لسيّد ومسود
وفضلنى في الناس أصلى ووالدى ... وباع به أعلو الرجال مديد
قال أبو عمر بن عبد البر حافظ الأندلس الشهير: خَبُره في السراويل عند معاوية كذب وزور مختلق ليس لها إسناد، لا يشبه أخلاق قيس، ولا سيرته في نفسه ونزَاهته، وهى حكاية مفعلة وشعر مزور .
7 - دهاة العرب حين ثارت الفتنة:
كان قيس بن سعد بن عبادة من ذوي الرأي من الناس، قال ابن شهاب: وكان يعدّون دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة رهط، يقال لهم: ذوو رأى العرب في مكيدتهم: معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وقيس بن سعد والمغيرة بن شعبة، ومن المهاجرين: عبد الله بن بُديل الخُزاعى، وكان قيس وابن بديل مع على رضي الله عنه، وكان المغيرة معتزلاً بالطائف وأرضها حتى حكم الحكمان واجتمعوا بأذرح ، وكان قيس يقول: لولا الإسلام لمكرت مكرًا لا تطيقه العرب .
8 - لوددنا أن نشترى لقيس لحية بأموالنا :
ذكر الزبير بن بكار أن قيس بن عبادة، وعبد الله بن الزبير، وشريحًا القاضى، لم يكن في وجوههم شعرة ولا شيء من لحية، وذكر غير الزبير أن الأنصار كانت تقول: لوددنا أن نشترى لقيس بن سعد لحية بأموالنا. وكان مع ذلك جميلاً رضى الله عنه .
9 - قول قيس: لِم تَرين قلّ عوّادى؟
باع قيس بن سعد مالاً من معاوية بتسعين ألفًا، فأمر مناديًا، في أهل المدينة، من أراد القرض فليأت منزل سعد، فأقرض أربعين أو خمسين وأجاز الباقى، وكتب على من أقرضهَ صَكّا، فمرض مرضًا قلَّ عواده، فقال لزوجته قريبة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر: يا قريبة لم ترين قلّ عوادى؟ قالت: للذى لك عليهم من الدين، فأرسل إلى كلّ رجل بصكّة وجاء في رواية ... فمرض واستبطأ عواده، فقيل له: إنهم يستحيون من أجل دينك، فأمر مناديًا ينادي: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو له، فأتاه الناس حتى هدموا درجة كانوا يصعدون عليها إليه .
10 - قيس بن سعد يطعم الناس في أسفاره:
كان قيس بن سعد يطعم الناس في أسفاره مع النبي - صلى بن عليه وسلم -، وكانت له صحفة يدار بها حيث دار، وكان إذا أنفذ ما معه يدين، قال: وكان ينادى في كل يوم: هلمَّوا إلى اللحم، والثريد .
11 - خبر لا يصح بين قيس ومعاوية رضي الله عنه:
قال معاوية لقيس بن سعد: إنما أنت حبر من أحبار يهود، إن ظهرنا عليك قتلناك، وإن ظهرت علينا نزعناك، فقال: إنما أنت وأبوك صنمان من أصنام الجاهلية، دخلتما في الإسلام كُرها وخرجتما منه طوعًا ، قال الذهبى: هذا منقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف.
12 - وفاة قيس بن سعد رضي الله عنه:
مات في أواخر خلافة معاوية، وذهب إلىّ ذلك خليفة بن خياط ، والذهبى ، وقال ابن حبان: مات سنة 85هـ في خلافة عبد الملك ، ووافق ابن حجر خليفة والذهبى وقال ابن عبد البر: ... لزم قيس المدينة، وأقبل على العبادة حتى مات بها سنة ستين هجرية وقيل: سنة تسع وخمسين في آخر خلافة معاوية، وكان رجلاً طوالاً سُناطًا .
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf