الأيام الأخيرة من حياة الحسن بن علي (رضي الله عنه)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الثالثة و الخمسون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
فى حياته بالمدينة سقى السم مرارًا، ثم لما كانت المرة الأخيرة جاء الطبيب فقال: هذا رجل قد قطع السم أمعاءه ، وقال عمير بن إسحاق: دخلت أنا ورجل من قريش على الحسن بن على، فقام فدخل المخرج، ثم خرج فقال: لقد لفظت طائفة من كبدى أقلبها بهذا العود، ولقد سقيت السم مرارًا وما سقيت السم مرة هى أشد من هذه، قال: وجعل يقول لذلك الرجل: سلنى قبل أن لا تسألنى، قال: ما أسألك شيئًا يعافيك الله، قال: فخرجنا من عنده، ثم عدنا إليه من غد وقد أخذ فى السَّوْق -أى نزع الموت- فجاء الحسين حتى قعد عند رأسه، فقال: أى أخى من صاحبك؟ قال: تريد قتله؟ قال: نعم، قال: لئن كان صاحبى الذى أظن لله أشد لى نقمة، وإن لم يكنه، ما أحب أن تقتل بى بريئًا .
أ- وصية الحسن للحسين رضي الله عنه:
قال ابن عبد البر: وروينا من وجوه أن الحسن بن على لما حضرته الوفاة قال: للحسين أخيه: يا أخى، إنا أبانا رحمه الله تعالى لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استشرف لهذا الأمر، رجا أن يكون صاحبه، فصرفه الله عنه، ووليها أبو بكر، فلما حضرت أبو بكر الوفاة تشوف لها أيضًا، فصرفت عنه، إلى عمر، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم، فلم يشك أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان، فلما هلك عثمان بويع، ثم نوزع حتى جرد السيف وطلبها، فما صفى له شىء منها، وإنى والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت، النبوة
والخلافة، فلا أعرفنك ما استخفك سفهاء الكوفة فأخرجوك ، ولم يذكر ابن عبد البر أسانيده فى الرواية، وأما المتن ففيه نكارة، كما أنه ينافى ما ثبت عن على رضي الله عنه فى تقديمه لأبى بكر وعمر فى الخلافة، وقد بينت ذلك فى كتبى عن أبى بكر وعمر رضي الله عنهم.
ب- تفكره فى ملكوت السماء واحتسابه نفسه عند الله:
لما حضر الحسن بن على قال: أخرجونى إلى الصحن حتى أنظر فى ملكوت السماوات -يعنى الآيات- فأخرجوا فراشه فرفع رأسه، فنظر فقال: اللهم إنى أحتسب نفسى عندك، فإنها أعز الأنفس علىَّ، قال: فكان مما صنع الله له أنه أحتسب نفسه عنده ، وجاء فى رواية: اللهم إنى أحتسب نفسى عندك، فإنى لم أصب بمثلها، غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويظهر فى هذا الموقف العظيم والمشهد الرهيب صدق توجه الحسن لله وحده المتفرد بالكبرياء والعظمة والجبروت، وفى هذه العبارات تتفجر معانى الخضوع والتذلل لله عز وجل مع كمال الرجاء وتعلق قلبه بالله وحده فلا ينبغى أن تتعلق قلوبنا بغير الله عز وجل، كما أنه وهو يودع هذه الدنيا لا ينسى عبادة التفكر فى ملكوت السماوات وما فيها من المخلوقات المتنوعة، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، ثم نظر إلى نفسه التى هى أعز الأنفس عليه غير رسول الله، فاحتسبها عند الله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. فإن التأمل والتفكر فى الكون والنفس وآيات الله المنظورة داع قوى للإيمان، لما فى هذه الموجودات من عظمة الله الخالق الدالة على قدرة خالقها وعظمته؛ وما فيها: من الحسن والانتظام، والإحكام الذى يحير الألباب، الدال على سعة علم الله، وشمول حكمته؛ وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التى لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله، وجوده وبره، وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها، وبارئها وشكره واللهج بذكره؛ وإخلاص الدين له، وهذا هو روح الإيمان وسره ، وإذا تأملنا فى مخلوقات الله كلها، نجدها مضطرة ومحتاجة إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغنى عنه طرفة عين خصوصًا ما تشاهده فى نفسك من أدلة الافتقار وقوة الاضطراب، وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله فى جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضره فى دينه ودنياه، ويوجب له قوة التوكل على ربه، وكمال الثقة بوعده، وشدة الطمع فى بره وإحسانه، وبهذا يتحقق الإيمان، ويقوى التعبد فإن الدعاء مخ العبادة وأصلها ، فالحسن بن على رضي الله عنه أتقن عبادة التفكر وهو فى لحظاته الأخيرة من هذه الحياة الدنيا، وعلمنا معنى عظيمًا وكبيرًا فى المفهوم الشامل للعبادة فقد احتسب نفسه عند ربه، وهكذا يفهم الصحابة معانى الاحتساب عند الله، وكان معاذ رضي الله عنه قد أجاب أبا موسى الأشعرى عندما قال له: فكيف تقرأ يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئى من النوم، فأقرأ ما كتب الله، فأحتسب نومتى كما أحتسب قومتى ، فالأكل وجماع الرجل لأهله، إذا احتسبه المسلم عند الله فيه الأجر والمثوبة من الله تعالى، والحسن ابن على يحتسب نفسه عند الله ويودع الدنيا بعبادة التفكر وعبادة الاحتساب فى المصائب، فقد كان رضي الله عنه لسان حاله قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
ج- يا أخى إنى أدخل فى أمر من أمر الله لم أدخل فى مثله قط، وأرى خلقًا من خلق الله لم أر مثله قط .قال أبو نعيم : لما اشتد بالحسن بن على الوجع جزع فدخل عليه رجل فقال له: يا أبا محمد، ما هذا الجزع؟ ما هو إلا أن تفارق روحك جسدك فتقدم على أبويك على وفاطمة، وعلى جديك النبى -صلى الله عليه وسلم- وخديجة، وعلى أعمامك حمزة وجعفر، وعلى أخوالك القاسم والطيب وإبراهيم، وعلى خالاتك رقية وأم كلثوم وزينب، قال: فسُرِّى عنه . وفى رواية أن القائل له ذلك الحسين، وأن الحسن قال له: يا أخى، إنى أدخل فى أمر من أمر الله لم أدخل فى مثله وأرى خلقًا من خلق الله لم أر مثله قط، قال: فبكى الحسين رضي الله عنه وفى رواية: يا أخى إنى أقدم على أمر عظيم وهول لم أقدم على مثله قط ، أى والله وقد بين المولى عز وجل فى كتابه وسنة رسوله تفصيل مسيرة الإنسان منذ خروج روحه إلى أن يستقر أهل الجنة فى الجنة وأهل النار فى النار، ولذلك كان السلف يخافون من سوء الخاتمة، فلا يدرى أحد بماذا يختم له، فالأعمال بالخواتيم، والمؤمنون يخافون من سوء الخاتمة عند كل خطوة وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله تعالى: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، ويخافون من سكرات الموت، وقبض الروح، ومعرفة المصير، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم هوِّن علىَّ سكرات الموت" . ومع الخوف من سكرات الموت يكون أيضًا الخوف من صورة ملك الموت، ودخول الروع والخوف منه على القلب ، يقول القرطبى: وأما مشاهدة ملك الموت - عليه السلام- وما يدخل على القلب منه من الروع والفزع، فهو أمر لا يعبر عنه لعظم هوله، وفظاعة رؤيته، ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الذى يتبدى له، ويطلع عليه ، ومع الخوف الذى ينبغى أن يلازمنا من سكرات الموت وصورة ملكه فإن الأمر الخطير الذى من شأنه أن يزيدنا خوفًا على خوفنا هو: ظهور نتيجة امتحان الدنيا فى ذلك الوقت فهل سنكون ممن تقول لهم الملاكة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. أم سنكون {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50]؟.
قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" فقالت عائشة: إنا نكره الموت، فقال: "ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان من الله وكرامته فليس شىء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموت بُشِّر بعذاب الله وعقوبته فليس شىء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه" . وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها -فذكر من طيب ريحها- ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه فيُنطلق به إلى ربه ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحه -فذكر من نتنها- ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل" .
وللقبر ضمة وضغطة لا ينجو منها أحد كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن للقبر ضغطة لو نجا أحد منها لنجا سعد بن معاذ" ، والقبر -كما قال - صلى الله عليه وسلم -- "حفرة من حفر جهنم أو روضة من رياض الجنة" ، وأمامنا الحشر ومجيء الساعة وقيام القيامة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] فالجميع سيحشر بداية من أبي البشر حتى آخر إنسان تقوم عليه الساعة ، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] وقد تحدث القرآن الكريم والرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أهوال يوم القيامة قال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 21 - 24]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" فيا له من مشهد مهيب تنفطر منه القلوب ، ولذلك قال الحسن بن على رضي الله عنه: "العار خير من النار" ، وذلك خشي على نفسه الزكية أن تحاسب بين يدى الله يوم القيامة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء" ، ومن مشاهد يوم القيامة المفزعة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخبُ دمًا فيقول: يا رب سل هذا فيما قتلنى؟ حتى يُدينه من العرش" ، نعم إنها أهوال عليها قادمون، فإذا كان سيد شباب أهل الجنة يخشى على نفسه فى دخوله على أمر من أمر الله لم يدخل فى مثله قط، فكيف بأمثالى وأمثالك يا أيها القارئ الكريم، فيجب أن نعتبر ونعمل لمثل هذا الموقف العصيب، نسأل الله أن يرحمنا ويعفو عنا برحمته وعفوه إنه كريم حليم وودود رحيم.
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf