من حياة الحسن بن علي (رضي الله عنه) في المدينة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الحادية و الخمسون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
ترك الحسن الكوفة بعد تنازله لمعاوية ورجع بمن معه من أصحابه وبنى هاشم إلى المدينة واستقر بها، وكان الهاشميون محل الإجلال والتكريم والاحترام من معاوية رضي الله عنه، وكانت زعامتهم عند الحسن بن على رضي الله عنه، وكانت المدينة فى تلك الفترة يسكنها عدد كبير من علماء الصحابة يضاف إليهم عدد من التابعين ممن تتلمذوا على الصحابة العلماء وساروا بسيرتهم ونهجوا نهجهم، وهؤلاء كانوا خليطًا من المهاجرين والأنصار ومن غير المهاجرين والأنصار، وقد جعل هؤلاء القوم همهم العبادة وتعليم الناس ورواية ما حفظوه من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يدخلون فيما دخلت فيه الأمة ولا ينزعون يدًا من جماعة، ومن هؤلاء عبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس، وأبو هريرة وأبو سعيد الخدرى، وجابر بن عبد الله . كانت أجواء المدينة خيرًا على الحياة العلمية، حيث تفرغ طلاب العلم فيها لرواية الحديث، وتفسير القرآن، واستنباط الأحكام الفقهية فقصدها الناس من أجل العلم، فقد كان بها الهدوء والاطمئنان الذى يساعد على العلم والبحث .
1 - العلاقة بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما بعد الصلح:
كان الحسن بن على يقدم على معاوية فى خلافته، فقدم عليه ذات مرة فقال له معاوية: لأجيزنك بجائزة ما أجزت بها أحدًا قبلك ولا أجيز بها أحدًا بعدك، فأعطاه أربع مائة ألف فقبلها ، وجاء فى رواية: أن الحسن بن على كان يفد كل سنة إلى معاوية فيصله بمائة ألف درهم، فقعد سنة عنه ولم يبعث إليه معاوية بشىء فدعا بدواة ليكتب إليه فأغفى قبل أن يكتب فرأى النبى - صلى الله عليه وسلم - فى منامه كأنه يقول: يا حسن أتكتب إلى مخلوق تسأله حاجتك وتدع أن تسأل ربك؟ قال: فما أصنع يا رسول الله وقد كثر دينى؟ قال: قل اللهم إنى أسألك من كل أمر ضعفت عنه قوتى وحيلتى ولم تنته إليه رغبتى، ولم يخطر ببالى ولم يبلغه أملى، ولم يجر على لسانى من اليقين الذى أعطيته أحدًا من المخلوقين الأولين والمهاجرين والآخرين إلا خصصتنى يا أرحم الراحمين. قال الحسن: فانتبهت وقد حفظت الدعاء فكنت أدعو به فلم يلبث معاوية أن ذكرنى فقيل له: لم يقدم السنة، فأمر [له بمائتي ألف درهم] [وفي رواية أن الدعاء الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم -] للحسن فى المنام هو: اللهم اقذف فى قلبى رجاك، واقطع رجائى عما سواك حتى لا أرجو أحدًا غيرك. اللهم وما ضعفت عنه قوتى وقصر عنه عملى، ولم تنته إليه ركبتى، ولم تبلغه مسألتى ولم يجر على لسانى مما أعطيت أحدًا من الأولين والآخرين من اليقين فخصنى به يا رب العالمين، قال: فوالله ما ألححت به أسبوعًا حتى بعث إلىَّ معاوية بألف ألف وخمس مائة ألف، فقلت: الحمد لله الذى لا ينسى من ذكره، ولا يخيب من دعاه، فرأيت النبى -صلى الله عليه وسلم- فى المنام فقال: يا حسن كيف أنت؟ فقلت: بخير يا رسول الله وحدثته حديثى، فقال: يا بُنى هكذا من رجا الخالق ولم يرجُ المخلوق .
2 - صلات معاوية للحسن والحسين وابن الزبير وضى الله عنهم:
أمر معاوية للحسن بن على بمائة ألف فذهب بها إليه فقال لمن حوله: من أخذ شيئًا فهو له، وأمر للحسين بن على بمائة ألف فذهب بها إليه وعنده عشرة فقسمها عليهم عشرة آلاف عشرة آلاف، وأمر لعبد الله بن جعفر بمائة ألف . وكان معاوية إذا تلقى الحسن بن على قال له: مرحبًا وأهلاً بابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا تلقى عبد الله بن الزبير قال له: مرحبًا بابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر للحسن بن على بثلاثمائة ألف وعبد الله بن الزبير بمائة ألف ، وجاءت بعض الروايات بسند حسن بأن معاوية كان دائم الوصل للحسين ويسارع فى تلبية مطالبه وحاجاته، وكان يغدق عليه العطاء ، ولقد اعترف الشيعة أنفسهم بعطايا معاوية للحسن والحسين وعبد الله بن جعفر . ويبدو أن صلات الحسين بمعاوية كانت طيبة واستمرت العلاقات بين الطرفين تتسم بكل احترام وتقدير، ولم تنقطع علاقة أهل الكوفة بالحسن والحسين بعد خروجهما من الكوفة واستقرارهما فى المدينة، بل استمرت العلاقة بين الجانبين عن طريق الرسائل التى يبعث بها الكوفيون باستمرار، ولقد كانت تلك الرسائل -كما يبدو- تحمل دعوة لمعارضة الحكم القائم، كما تحمل تأكيدًا بأحقيتها فى الخلافة، واستنها هممهم إليها، وما كانت تلك الكتب لتؤثر على الحسن بل أعطته انطباعًا وتصورًا واضحًا عن أهل التشيع فى الكوفة، وأنهم أهل شر وفتنة، ولا يريدون اجتماع الأمة ووحدة كلمتها ، قال يزيد بن الأصم: جاءت الحسن إضبارة من الكتب فقال: يا جارية هات المخضب، فصبت فيه الماء وألقى الكتب فى الماء، فلم يفتح منها شيئًا ولم ينظر إليها، فقلت: يا أبا محمد: ممن هذه الكتب؟ قال: من أهل العراق من قوم لا يرجعون إلى حق ولا يقصرون عن باطل، أما إنى لست أخشاهم على نفسى ولكنى أخشاهم على ذلك وأشار إلى الحسين ، ولما توفى الحسن بن على اجتمعت الشيعة فى دار سليمان بن صرد وكتبوا إلى الحسين كتابًا بالتعزية فى وفاة الحسن وقالوا فى كتابهم: إن الله قد جعل فيك أعظم الخلق ممن مضى، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، والمسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك ، فرد الحسين على كتابهم: إنى لأرجو أن يكون رأى أخى رحمه الله فى الموادعة، ورأيه فى جهاد الظلمة رشدًا وسدادًا، فالصقوا بالأرض وأخفوا الشخص، واكتموا الهوى، واحترسوا فى الأضناء ما دام ابن هند حيًا، فإن يحدث به حدث وأنا حى يأتكم رأيي إن شاء الله ، ولقد كانت مكانة الحسين رضي الله عنه من المسلمين بعد وفاة الحسن مكانة لا تنكر، وأصبح هناك شعور قوى بأن المرشح الوحيد بعد وفاة معاوية للخلافة هو الحسين بن على رضي الله عنه، وقد كان يزوره كبار أهل الحجاز وزعماء الكوفة وهم لا يشكون فى أنه سيكون الخليفة بعد معاوية ، ولم تقتصر محاولات الكوفيين على طلب الحسين فقط، بل إنهم طلبوا من محمد بن الحنفية القدوم عليهم فانتبه إلى خطورة أهل الكوفة عليه وعلى آل على بن أبى طالب رضي الله عنهم، فأخذ يحذر الحسين من الانجرار وراءهم وتصديق مزاعمهم، ومما قاله للحسين: إن القوم يريدون أن يأكلوا بنا ويشيطوا دماءنا . ولقد أثارت تلك الرسائل المتبادلة بين الحسين وأهل الكوفة، مخاوف بنى أمية فى المدينة فكتبوا إلى معاوية يستشيرونه بشأن الحسين؛ فكتب إليهم بأن لا يتعرضوا له مطلقًا ، ولا يمكن أن تخفى تلك الرسائل على معاوية، ولا العلاقات الوثيقة التى تربط بين الحسين وبين الكوفيين، ولهذا فقد طلب معاوية من الحسين: أن يتقى الله عز وجل وأن لا يشق عصا المسلمين ويذكره بالله فى أمر المسلمين ، ولقد كان الحسن والحسين رضي الله عنهما مخلصين لعهدهما، والتزامًا ببيعتهما لمعاوية، وكان الحسين يرى أن الصلح له ملزم فى ظل حياة الحسن ومعاوية وكذلك بعد وفاة أخيه.
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي