من نتائج الصلح بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنهما)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: التاسعة والأربعون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
أولاً: توحد الأمة تحت قيادة واحدة:
سجل فى ذاكرة الأمة عام الجماعة وأصبح هذا الحدث من مفاخرها التى تزهو به على مر العصور، وتوالى الدهور، فقد التقت الأمة على زعامة معاوية، ورضيت به أميرًا عليها، وابتهج خيار المسلمين بهذه الوحدة الجامعة، بعد الفرقة المشتتة، وكان الفضل فى ذلك لله ثم للسيد الكبير مهندس المشروع الإصلاحى العظيم الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، ويعد عام الجماعة من علامة نبوة المصطفى وفضيلة باهرة من فضائل الحسن، ولا يلتفت إلى ما قاله العقاد فى عام الجماعة فى هجومه الخاطئ على المؤرخين الذين سمّوا سنة إحدى وأربعين هجرية بعام الجماعة، فقد قال: فليس أضل ضلالاً، ولا أجهل جهلاً من المؤرخين الذين سموا سنة إحدى وأبعين هجرية بعام الجماعة لأنها السنة التى استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحد فيها، لأن صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما تفرقت فى تلك السنة، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها . والعقاد رحمه الله لم يأت بجديد فى حكمه الخاطئ بل سبقه إليه كثير من مؤرخي الشيعة الرافضة، ويكفى معاوية فخرًا أن كل الصحابة الأحياء فى عهده بايعوه، فقد بايع معاوية جم غفير من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وفى ذلك يقول ابن حزم: فبويع الحسن ثمّ سُلِّم الأمر إلى معاوية، وفى بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم؛ أولهم عن آخرهم بايع معاوية، ورأى إمامته ، ونتعلم من فقه الحسن وموقف الصحابة من بيعة معاوية فهمهم العميق لآيات النهى عن الاختلاف، قال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154] فالصِّراط المستقيم هو: القرآن، والإسلام، والفطرة التى فطر الله النَّاس عليها، والسٌّبل هى: الأهواء، والفرق، والبدع، والمحدثات، قال مجاهد: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] يعنى: البدع، والشُبهات، والضلالات ، ونهى الله سبحانه وتعالى هذه الأمة عمّا وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف والتفرق من بعد ما جاءتهم البينات، وأنزل الله إليهم الكتب، فقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105]. ونهى الأمّة أن تكون من المشركين، الذين فرّقوا دينهم، وكانوا شيعًا، فقال عز من قائل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32] وأخبر سبحانه وتعالى: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بريء منِ الذين يفرقون دينهم ويكونون شيعًا وأحزابًا ، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، وقد أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. لقد تحقق بفضل الله تعالى ثم بنجاح الحسن بن علي فى صلحه مع معاوية مقصد عظيم من مقاصد الشريعة من وحدة المسلمين واجتماعهم، وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى، ونحن مأمورون بالتواصى بالحقِّ والتواصى، بالصبر، فلابدَّ من تضافر الجهود بين الدُّعاة، وقادة الحركات الإسلاميّة، وبين علماء المسلمين، وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحًا حقيقيًا لا تلفيقيًا، لأن أنصاف الحلول تفسد أكثر ممَّا تصلح، وقد تحدث الشيخ عبد الرحمن السعدى عن الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة، واتفاق الكلمة، وبعد أن ذكر الآيات، والأحاديث الدّالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال: فإن من أعظم الجهاد السَّعى فى تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم، ومصالحهم الدِّينيَّة والدنيوية ، إن الأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين، وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، لأن هذه الخطوة مهمة جدًا فى إعزاز المسلمين، وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم، وهذا من فقه الخلفاء الراشدين، ويتجلى فى أبهى صورة فى تنازل الحسن بن على رضى الله عنه لمعاوية رضى الله عنه من أجل وحدة الأمة، وحفظ دمائها، والأجر والمثوبة عند الله.
ثانيًا: عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه:
إن دعوة الناس للدخول فى دين الله تعالى من مقاصد الإسلام الكبرى، ومن الوسائل التى استخدمت فى عهد الراشدين حركة الفتوحات المباركة، وتعد الفتنة التى أدت إلى استشهاد عثمان رضى الله عنه أكبر معوق أصاب الدعوة الإسلامية بعد حركة الردة أيام أبى بكر رضى الله عنه، حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم فى فتنة كادت تعصف بالأمة الإسلامية لولا أن تداركتها رحمة الله سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن على رضى الله عنه مع معاوية رضى الله عنه، وقد امتلأت المصادر بالنصوص التى تبين أثر الفتنة فى انحسار حركة الجهاد وفيما يلى بعضها:
1 - عن الحسن بن على رضى الله عنه أنه قال: قد رأيت أن أعمد على المدينة فأنزلها وأخلى بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء، وقطعت فيها الأرحام، وقطعت السبل، وعُطَّلت الفروج -يعنى الثغور .
2 - ما أخرجه أبو زرعة الدمشقي بإسناده، قال: لما قبل عثمان، واختلف الناس، لم تكن للناس غازية، ولا صائفة، حتى اجتمعت الأمة على معاوية .
3 - قول أبى بكر المالكى: فوقعت الفتنة .. واستشهد عثمان رضى الله عنه، وولى بعده على رضى الله عنه، وبقيت إفريقية على حالها إلى ولاية معاوية رضى الله عنه .
فمن نتائج الصلح عودة حركة الفتوحات إلى ما كانت عليه وأصبحت فى عهد معاوية ثلاث جبهات رئيسية هى:
1 - جبهة الروم:
وتعتبر هذه الجبهة من أهم الجبهات، وأخطرها، نظرًا لقوة الروم، ومجاورتهم لبلاد المسلمين، هذا فضلاً عن امتلاكهم لجيوش برية وأساطيل بحرية على درجة كبيرة من التنظيم والخبرة، مما دفع المسلمين والروم فى البر والبحر معًا.
2 - جبهة المغرب:
وهذه الجبهة ترتبط بجبهة الروم برباط وثيق، وذلك لوجود مستعمرات رومية على بلاد المغرب كان لها أثر كبير فى عرقلة حركة الفتوحات الإسلامية فى المنطقة.
3 - جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر :
تعتبر سجستان وخراسان من أوائل البلاد التى انتقضت على المسلمين بعد استشهاد عثمان رضى الله عنه. وقد ترك معاوية رضى الله عنه معالم واضحة فى سياسته الجهادية أوردها خليفة بن خياط فى تاريخه حيث قال: كان آخر ما أوصاهم به معاوية أن شُدوا خناق الروم، فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم ، وقد سلك معاوية خطوات لتحقيق هذه السياسة فى أثناء خلافته:
أ- التركيز على عمليات الصوائف والشواتى، من أجل تحقيق عدة أهداف منها:
* استنزاف قوى الروم.
* انتزاع زمام المبادرة من الروم وجعلهم فى حالة دفاع مستمر.
* إرغام الروم على توزيع قواتهم بحيث لا يستطيعون القيام بهجمات حاسمة وقوية ضد الدولة الإسلامية.
ب- مهاجمة الروم فى عقر دارهم ومحاصرة عاصمتهم، وما يترتب على ذلك من إضعاف معنوياتهم، وقذف الرعب فى قلوبهم.
ج- تقليص النفوذ البحرى للروم عن طريق فتح الجزر الواقعة فى بحر الشام، وما يترتب على ذلك من حرمان سفن الروم من قواعدها البحرية، وأما سياسة معاوية رضى الله عنه فى جبهة المغرب فكانت كالتالى:
1 - أولى معاوية رضى الله عنه جبهة المغرب اهتمامًا خاصًا تمثل بارتباط هذه الجبهة به شخصيًا، حيث كان معاوية رضى الله عنه المرجع المباشر لقيادة هذه الجبهة إلى سنة 47هـ، وهى السنة التى ضمت فيها جبهة المغرب إلى والى مصر.
2 - عمل معاوية رضى الله عنه على إقامة قاعدة جهادية متقدمة فى قلب بلاد المغرب تكون عزّا للإسلام والمسلمين وذلك ببناء مدينة القيروان .
وأما سياسة معاوية رضى الله عنه فى جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر فكانت:
1 - استعانة معاوية رضى الله عنه بفاتح سجستان وخراسان أيام عثمان رضى الله عنه، وهو عبد الله بن عامر رضى الله عنه، وتكليفه بإعادة فتحها مرة أخرى.
2 - العمل على تثبيت الحكم الإسلامى، ونشر دعوة الإسلام فى هذه المنطقة عن طريق إسكان خمسين ألفًا من العرب بعيالاتهم فى خراسان ، فلولا الله سبحانه وتعالى ثم تنازل الحسن بن على لمعاوية ما عادت حركة الجهاد والفتوحات إلى ما كانت عليه، فمن نتائج الصلح تحقيق هذا المقصد الشرعى العظيم، فالوحدة بين المسلمين على كتاب الله وسنة رسوله لها ثمار طيبة فى دنيا المسلمين، فلو استوعبت الأمة عمومًا وقيادتها خصوصًا هذا المقصد العظيم وطبقته فى حماتها لكان حالها فى صعود وارتقاء.
ثالثًا: تفرغ الدولة للخوارج:
من نتائج الصلح تفرغ الدولة الإسلامية للخوارج، فقد استطاع معاوية أن يضعف من شوكتهم وقوتهم، وتصدى لحركة فروة بن نوفل الأشجعى، وحركة المستورد بن عُلف التيمى، وحركة حيان بن ظبيان السلمى، وهذه الحركات ظهرت فى الكوفة ، وأما حركة يزيد الباهلى وسهم الهجيمى، وحركة قريب الأزدى وزحاف الطائى، وغيرهم فكانت بالبصرة . ولسنا فى محل تفصيل هذا الصراع بين الدولة الإسلامية والخوارج، ولكننا فى محل تقرير نتيجة طبيعية من نتائج الصلح، وهى التضييق والتصدى للخوارج، ولذلك اتسمت حركة الخوارج فى عهد معاوية رضى الله عنه بالعشوائية والارتجال وقلة التنظيم، وكانت أشبه ما يكون بعمليات انتحار جماعى، لأنهم يخرجون بفئات قليلة لا تلبث أن تستأصل، افتقارهم إلى قيادة واعية ومحنكة تستطيع استثمار شجاعتهم وفروسيتهم لتحقيق أهدافهم، تكرارهم لأخطاء بعضهم وعدم استفادة كل حركة من تجربة سابقتها، استبعادهم لأسلوب الحوار والمناظرة فى دعوتهم، ومحاولة فرض فكرهم على المجتمع المسلم بالقوة، اختلاط الدوافع الدينية التى دعتهم للخروج -بزعمهم- مع دوافع العصبية الجاهلية فى حركاتهم، والمتمثلة بخروج بعضهم ثأرًا لمن قتل من أصحابهم، شعورهم بالغربة داخل المجتمع المسلم، ونفورهم منه، واقتناعهم أن قتال أهل القبلة أولى من جهاد الكفار، عدم بحثهم عن أرض جديدة لنشر دعوتهم، واقتصارهم على بعض مدن العراق، وخاصة الكوفة والبصرة ، فمن نتائج الصلح الملموسة التضييق على حركة الخوارج.
- انتهاء عهد الخلافة الراشدة:
انتهى عهد الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بتنازل الحسن بن على لمعاوية رضى الله عنه، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء أن تكون، يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت" . وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتى الله الملك، أو ملكه من يشاء" ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخلافة فى أمتيى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية فى ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه توفى فى ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليمًا ، وبذلك تكون مرحلة خلافة النبوة قد انتهت بتنازل الحسن رضى الله عنه عن الخلافة لمعاوية فى شهر ربيع الأول من سنة 41هـ ، فالحديث النبوى الكريم أشار إلى مراحل تاريخية وهى:
1 - عهد النبوة.
2 - عهد الخلافة الراشدة.
3 - عهد الملك العضوض .
4 - عهد الملك الجبرى.
5 - ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.
وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ، ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكًا، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخارى ومسلم فى صحيحهما عن أبى هريرة رضى- الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانت بنو إسرائيل يسوسمهم الأنبياء، كلما هلك نبى خلفه نبى وإنه لا نبي بعدى، وستكون خلفاء فتكثر". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "وفوا ببيعة الأول، فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" ، فقوله: فتكثر دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيرًا، وأيضًا قوله: وفوا بيعة الأول فالأول دل على أنهم يختلفون؛ والراشدون لم يختلفوا، وقوله: فأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم دليل على مذهب أهل السنة؛ فى إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم ، فمعاوية رضى الله عنه أفضل ملوك هذه الأمة، والذين كانوا قبله خلفاء نبوة، وأما هو فكانت خلافته ملكًا، وكان ملكه ملكًا ورحمة، وكان فى ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيرًا من ملك غيره ، ومعاوية رضى الله عنه وإن كان عالمًا ورعًا عدلاً، دون الخلفاء الأربعة فى العلم والورع والعدل، كما ترى من التفاوت بين الأولياء؛ بل الملائكة والأنبياء، فإمارته وإن كانت صحيحة بإجماع الصحابة وتسليم الحسن - رضى الله عنه- إلا أنها ليست على منهاج خلافة من قبله، فإنه توسع فى المباحات، وتحرز عنها الخلفاء الأربعة، وأما رجحان الخلفاء الأربعة فى العبادات: والمعاملات فظاهر مما لا سترة فيه . وقد حدد ابن خلدون مدى التغير الذى حدث، فقرر أن الخلافة وإنما كانت تحولت إلي ملك، فإن معانى الخلافة قد بقيت -بعضها- وإنما كان التغير فى الوازع فبعد أن كان دينًا انقلب عصبية وسيفًا؛ يقصد بذلك أنه بعد أن كان الناس يتصرفون بوازع الدين، والخلافة شورى، صار الحكم مستندًا إلى العصبية والقوة، ولكن معانى الخلافة أى مقاصدها وأهدافها
بقيت أى أن غايات هذا الملك كانت لا تزال تحقق مقاصد الدين والحكم وفق الشريعة الإسلامية بالعدل وتنفيذ الواجبات التى يأمر بها الإسلام: أى أن الحكم أو الملك استمر إسلاميًا وشرعيًا ، ولخص الأدوار التى مرت بها الخلافة فقال: فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً، ثم التبست معانيها واختلطت بالملك، ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبية الخلافة والله مقدر الليل والنهار ، فالدور الأول الذى يشير إليه هو عصر الخلفاء الراشدين وهو عصر الخلافة الخالصة أو الكاملة، والدور الثانى هو عصر الخلفاء الأمويين والعباسيين-ولا يمنع كذلك العثمانيين- وهذا عصر الخلافة المختلطة بالملك أو الملك المختلط بالخلافة: أى الذى يحقق فى الوقت نفسه مقاصد الخلافة، أما الدور الثالث فهو عصر الملك المحض الذى صار بقصد لذات الملك والأغراض الدنيوية، وانفصل عن حقيقة الخلافة أو معانيها الدينية، فهذا وصف أو تفسير ابن خلدون المؤرخ الفقيه للتطور الذى حدث والأدوار التى مرت بها الخلافة .
إن الخلافة الحقيقية أو الكاملة أو خلافة النبوة استمرت ثلاثين عامًا وهو عصر الخلفاء الراشدين، ثم تحولت إلى ملك، ولكن لكى نعبر عن الحقيقة يجب أن يراعى هذا التحديد، وهو أن الخلافة لم تنته أو تذهب كلية، وإنما بقيت معانيها أو مقاصدها، وأن التغيير حصل فى الأساس الذى قامت عليه، أما حقيقتها فقد بقيت، فالتغيير إذن لم يكن كليًا ولكن جزئيًا: أى أن الخلافة فى العصر الأول كانت هى الخلافة الكاملة المثالية، ثم نقصت عن المثال من وجه أو بعض الوجوه، لكن معظم عناصرها بقيت، فهى خلافة أقل من الرتبة أو خلافة مختلطة بالملك ، والرأى العام فى الإسلام يتمسك بالمثال، أو خلافة النبوة، أو الخلافة الكاملة، وهى تلك التى تقوم على الشورى والاختيار التام من الأمة، وأنه إذا كانت الظروف الواقعية والعوامل الاجتماعية قد حتمت أو أدت إلى هذا التطور، فإن تحمل ذلك أو قبوله لا يكون إلا مؤقتًا أو من باب الضرورة، ولكن يلزم أن يكون المثل الكامل حاضرًا دائمًا فى فكر الرأى العام، وبمجرد أن تزول تلك العوامل والظروف تجب العودة إلى تحقيق المثل الكامل، ولذا فإن الكتابات الإسلامية الأصيلة ظلت ملتزمة ومتشبثة بالمثال الكامل ولا تستخلص مبادئها إلا منه، وتفرق بين الخلافة وهى الخلافة الحقيقية الشرعية، والخلافة الواقعية التى بعدت قليلاً أو كثيرًا عن الحقيقة . وقد ذكر ابن تيمية: أن مصير الأمر -أى الخلافة- إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة والأمراء ليس لنقص فيهم فقط، بل لنقص فى الراعى والرعية جميعًا، فإنه كما تكونوا يؤوَّل عليكم وقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام: 129]. لقد ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وصار ملكًا ظهر النقص فى الأمراء، وكذلك فى أهل العلم والدين وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يبق من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا فى أواخر عصر أصاغر الصحابة فى إمارة الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعى التابعين انقرضوا فى أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية .
- هل معاوية رضي الله عنه يعتبر أحد الخلفاء الاثني عشر؟
عن جابر بن سمرة رضى الله عنه: دخلت مع أبى على النبى - صلى الله عليه وسلم -، فسمعته يقول: "إن هذا الأمر لا ينقضى حتى يمضى فيم اثنا عشر خليفة"، قال: ثم تكلم بكلام خفى علىَّ، قال: فقلت لأبي: ما قال، قال: "كلهم من قريش" ، وفى رواية أخرى عن جابر: "لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثنى عشرة خليفه .. كلهم من قريش" ، وفى رواية أخرى: "لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا إلى اثنى عشر خليفة .. كلهم من قريش" ، زاد أبو داود فى سننه، بإسناده عن جابر رضى الله عنه قال: فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: "ثم يكون الهرج" .
وقد شرح ابن كثير هذا الحديث فقال: ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثنى عشر خليفة صالحًا يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بنى العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدى المُبشَّر به فى الأحاديث الواردة بذكره .. وليس هذا بالمنتظر الذى تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامراء ، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هوس العقول السخيفة، وتوهم الخيالات الضعيفة - وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثنى عشر الأئمة الاثنى عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم . وإضافة لمن ذكرهم ابن كثير نضيف خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين الحسن رضى الله عنه، وقد ناقشت معتقد أهل السنة والشيعة الإمامية فى المهدى المنتظر فى كتابى أسمى المطالب فى سيرة أمير المؤمنين على بن أبى طالب شخصيته وعصره، فمن أراد التفصيل فليرجع إليه مشكورًا، وبالنسبة لمرحلة الخلفاء الاثنى عشر فإنه استنادًا إلى الوجه الذى ذكره ابن كثير، فإن هذه المرحلة تمتاز بأن مداها الزمنى يتخلل المراحل الأخرى كلها، وخلفاء. هذه المرحلة يكون ظهورهم فى الأمة متتابعًا ومتفرقًّا وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمهّ- ويبدأ ظهورهم من وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -- أى بخلافة أبى بكر رضى الله عنه، وتكتمل هذه المرحلة بظهور آخرهم فى آخر الزمان حيث يعقب خلافته الهَرْج ، وقد ذكر ابن كثير أن من خلفاء هذه المرحلة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ولما كان معاوية رضى الله عنه أفضل من عمر بن عبد العزيز فهذا يعنى دخول معاوية رضى الله عنه فى خلفاء هذه المرحلة، هذا والله تعالى أعلم. وقد تقدم بيان شىء من فضائل معاوية رضى الله عنه.
-
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf