الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

بعض من القيم الدينية والاجتماعية التي حفظتها ذاكرة المسلمين عن الحسن بن علي (رضي الله عنهما)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة: الثالثة والثلاثون

رجب 1441 ه/ مارس 2020م

الحسد: قال الحسن: والحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل:
الحسد نقيض الحب الذي هو تمني الخير للآخرين، فهو تمني زوال النعمة عن المحسود، وهو مرض مهلك مذموم وقبيح، أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شر الحاسد كما أمره بالاستعاذة من شر الشيطان، فقال تعالى: ((وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)) (الفلق، الآية: 5)، وقد قال صلى الله عليه وسلم لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ، وقال أنس: كنا يوماً جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة قال فطلع علينا رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه، قد علّق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان الغد قال صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: إني لآحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تأويني إليك حتى تمضى الثلاث فعلت، فقال: نعم فبات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب عن فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم إلا لصلاة الفجر، قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث، وكدت أن أحتقر عمله فقلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هَجْر، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً، فما الذي بلغ بك ذاك؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله فقلت له هي التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق ،
والحسد له أسباب كثيرة منها العداوة والبغضاء والعجب وحب الرياسة، وخبث النفس وبخلها وغيرها من أمراض القلب الأخرى، فالحسد جامع الآفات والأمراض، وهو من أشدها مذهباً للدين والإيمان والحب والإخاء، وهو مفسدة وأي مفسدة ويكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، ويقع ذلك غالباً بين الأقران، والأمثال والإخوة وبني العم، وأصحاب المهن والأعمال، وبين العلماء والتجار، لأن سبب التحاسد توارد الأغراض على مقاصد يحصل فيها فيثور التنافر والتباغض، فأصل الحسد التزاحم على غرض واحد ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، والدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين .
- ـ علاج مرض الحسد:
هناك عدة أدوية تقي وتعالج من مرض الحسد منها:
ـ العلم بأن مرض الحسد ضرر على الحاسد في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود في الدين ولا في الدنيا، وأن النعمة لا تزول عن المحسود بحسد الحاسد، فماذا يستفيد الحاسد من حسده إلا البغض والألم والحسرة والانفعال وذهاب الدين والدنيا، فكيف يريد الحاسد زوال نعمة أنعمها الله عز وجل على المحسود، فالله أحب أن ينعم على عبده، والحاسد يحب زوالها فقد أحب ما كره الله وكره ما أحب الله وهذا داء مزيل للإيمان، لأن صاحبه لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
ـ التذكر الدائم لمساوئ هذا المرض في الدين والدنيا، وبغض الله عز وجل له وكراهية النبي صلى الله عليه وسلم له، والنتيجة التي ينالها الحاسد في الدنيا والآخرة كل يساعد على فهم حقيقة الحسد، والوقاية منه والبعد عنه وطلب العلاج.
ـ العبرة من الآيات والأحاديث والقصص وواقع الحاسدين، ونتائج حسدهم، كل ذلك يساعد على الوقاية والعلاج من هذا المرض الخطير.
ـ محاسبة النفس ومعاتبتها عند كل فكرة حسد تعرض عليه، ومحاولته كف نفسه عن المحسود، بل الثناء عليه، والدعاء له، بالحفظ والزيادة، ولا مانع من أن يتمنى لنفسه مثل ذلك دون حسد الآخرين.
ـ الرضا بعطاء الله ومنحه، والقناعة بذلك، والإيمان بأن الرزق والعطاء والفضل من الله يؤتيه من يشاء وكيفما يشاء، ولا أحد يستطيع أن يزيل نعمة أنعمها الله على عبد من عباده، وأنه لا ينال عطاء الله إلا بفضل الله وإرادته، ولا يملك العبد إلا الرضا والدعاء والالتجاء، فلِمَ لا يقف العبد على الباب الذي يجلب الخير؟ ولِمَ يبتعد عن المرض الذي يجلب الشر ؟ فالحسن بن علي رضي الله عنه يحذرنا من الحسد ولذلك قال: والحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل ، عندما حسد أخيه على تقبل الله منه ولم يتقبل منه هو.
1 ـ مقام الرضا بين الحسن وأبي ذر:
قال أبو العباس محمد بن يزيد المبّرِّدُ: قيل للحسن بن عليِّ: إن أبا ذرِّ يقول: الفقر أحبُّ إليَّ من الغنى، والسَّقم أحبُ إليَّ من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذرَّ، أما أنا فأقول: من اتَّكل على حسن اختيار الله له لم يتمنَّ أن يكون في غير الحالة التي اختار الله له وهذا حد الوقوف على الرِّضا بما تصرَّف به القضاء . إن الحسن بن علي رضي الله عنه في حديثه هذا يصف لنا شيئاً من أعمال القلوب وهذا دليل على معرفته بهذا العمل العزيز، فالرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فإنَّ كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان ، فالرضا ثمرة من ثمار المحبة ـ لله عز وجل ـ وهو أعلى مقامات المقرّبين، وحقيقته غامضة على الأكثرين. وهو باب الله الأعظم، ومستراح العارفين، وجنة الدنيا، فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه، وأن لا يستبدل بغيره منه ورضا الله على العبد أكبر من الجنة وما فيها، لأن الرضا صفة الله والجنة خلقه قال تعالى: ((وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)) (التوبة، الآية: 72)، بعد قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة، الآية: 72).
وهذا الرضا جزاء من رضاهم عنه في الدنيا، ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء، كان سببُه أفضال الأعمال، والسخط باب الهمِّ والغمِّ وشتات القلب، وكَسْف البال، وسُوء الحال، والظنَّ بالله خلاف ما هو أهله، والرضا يخلّصه من ذلك كلّه، ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، فالرضا يوجب له الطمأنينة وبَرد القلب وسكونه وقراره، والسُّخط يُوجب اضطراب قلبه، وريبته وانزعاجه، وعدم قراره، والسُّخط يوجب تلون العبد، وعدم ثباته مع الله، فإنه لا يرضى إلاَّ بما يلائم طبعه ونفسه، والمقادير تجري دائماً بما يلائمه وما لا يلائمه، وكلّها جرى عليها منه ما لا يلائمه أسخطه فلا تثبت له قدم على العبودية، فإذا رضي عن ربه في جميع الحالات استقرت قدمه في مقام العبودية، فلا يُزيل التلوُّن عن العبد شئٌ مثل الرضا، والرضا يفرِّغ القلب لله، والسُّخط يُفرِّغ القلب من الله، فإنّ من ملأ قلبه من الرضا، ملأ الله صدره غنىً وأمناً وقناعة وفرّغ قلبه لمحبّته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا امتلأ قلبه بضدّ ذلك واشتغل عمّا فيه سعادته وفلاحه، وبداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من جملة المقامات، ونهايته من جملة الأحوال وليس مكتسبة، فأوَّله مقام ونهايته حال وقد مدح الله أهله وأثنى عليهم وندبهم إليه، فدلّ ذلك على أنّه مقدور لهم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً. غفر الله له ما تقدم من ذنوبه . قال ابن القيم: وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، وإليهما ينتهي.وقد تضمّنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله، والانقياد له والرضا بدينه، والتسليم له. ومن اجتمعت له هذه الأربعة، فهو الصديق حقّاً، وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولاسيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادّها، من ذلك تبيّن أن الرضا كان لسانه به ناطقاً، فهو على لسانه لا على حاله.
ـ فارضا بإلهيته: يضمن الرضا بمحبته وحده وخوفه، ورجائه والإنابة إليه، والتبتُّل إليه، وانجذاب قوى الإرادة والحبّ كلها إليه، فعل الراضي بمحبوبه كلّ الرضا، وذلك يتضمّن عبادته والإخلاص له.
ـ والرضا بربوبيّته: يتضمّن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمّن إفراده بالتوكل عليه، والاستعانة به، والثقة به، والاعتماد عليه، وأن يكون راضياً لكل ما يفعل به، فالأول، يتضمن رضاه بما يؤمر به، والثاني: يتضمّن رضاه بما يُقدِّر عليه.
ـ وأما الرضا بنبيّه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه وأن يكون متميزاً بمكانته عن غيره من البشر فلا يشاركه أحداً مكانته ولا خصوصيته، فلا يتلقّى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكّم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، ولا في شئ من أسماء الربّ وصفاته وأفعاله، ولا في شئ من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شئ من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيَره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يعينُهُ إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله: أن يكون من باب التراب، الذي إنما يُتيمَّم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور، وأما الرضا بدينه، فإذا قال، أو حكم أو أمر، أو نهى: رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسَلَّم له تسليماً، ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواها أو قوْل مُقلِّده وشيخه وطائفته .. وقال: .. فإن الرضا آخر التوكّل، فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض حصل له الرضا ولابدّ، ولكن لعزَّته وعدم إجابة أكثر النفوس له، وصعوبته عليها ـ لم يُوجبه الله على خلقه، رحمة بهم، وتخفيفاً عنهم، لكن ندبهم إليه، وأثنى على أهله، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها، فمن رضي عن ربِّه رضي الله عنه، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده، رضا قلبه، أوجب له أن يرضى عنه، ورضاً بعده وهو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبّين، ونعيم العابدين، وقُرّة عيون المشتاقين.
كيف تحقق الرضا؟:
إن من أعظم أسباب حصول الرضا: أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضا ولابد. قيل ليحي بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ فقال:

إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يُعامل به ربَّه، فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت. وقال الجنيد: الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم، أدّاه إلى الرضا، وليس "الرضا والمحبة" كالرجاء والخوف، فإنّ الرضا والمحبة حالان من أحوال أهل الجنة، لا يفارقان المتلبِّس بها في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة، بخلاف الخوف والرجاء، فإنهما يفارقان أهل الجنة بحصول ما كانوا يرجونه، وأمّنهم مما كانوا يخافونه، وإن كان رجاؤهم لما ينالون من كرامته دائماً لكنّه ليس رجاءً مشوباً بشكٍّ، بل هو رجاء واثق بوعد صادق، من حبيب قادر، فهذا لون ورجاؤهم في الدنيا لون. وقال ابن عطاء: الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنَّه اختار له الأفضل، فيرضى به . وقال بعض العارفين: من يتوكل على الله، ويرضى بقدر الله، فقد أقام الإيمان، وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير، وأقام الأخلاق الصالحة التي تُصلح للعبد أمره والرضا يفتح باب حُسن الخلق مع الله تعالى ومع الناس، فإن حسن الخلق من الرضا، وسوء الخلق من السخط، وحسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وسوء الخلق يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب والرضا يُثمر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور وطيب النفس وسكونها في كل حال .. ولهذا سمَّي بعض العارفين الرضا: حسن الخلق مع الله، فإنه يوجب ترك الاعتراض عليه في ملكه، وحذف فضول الكلام التي تقدح في حسن خُلقه .
قال الشاعر:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر
والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع في ما اختار خالقنا
وفي اختياره سواه اللَّوْمُ والشُّومُ
وقال الشاعر:
إذا ارتحل الكرام إليك يوماً
ليلتمسوك حالاً بعد حال
فإنَّ رحالنا حطت لترضى
بحلمك عن حلول وارتحال
أنخنا في فنانك يا إلهي
إليك مُعَرَّضين بلا اعتلال
فسُسْنَا كيف شئت ولا تكلنا
إلى تدبيرنا يا ذا المعالي
فهذه بعض المعاني في مقام الرضا توضح قول أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنه عندما قال: من اتكل على حسن اختيار الله له، لم يتمنَّى أن يكون في غير الحالة التي اختار الله له وهذا حد الوقوف على الرضا بما تصرَّف به القضاء .
2 ـ قال أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنه: إني أخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان عظيم ما عظَّمه في عيني صِغرُ الدنيا في عينه، كان خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي مالا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجاً من سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه، وكان خارجاً من سلطان الجهلة، فلا يمد يداً إلا على ثقة المنفعة، كان لا يسخط ولا يتبرم، كان إذا جامع العلماء يكون على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا غُلِب على الكلام لم يُغلَب على الصمت، كان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال بذَّ القائلين، كان لا يشارك في دعوى، ولا يدخل في مراء، ولا يدلي بحجة حتى يُرى قاضياً يقول ما يفعل، ويفعل ما لا يقول تفضلاً وتكرماً، كان لا يغفل عن أخوانه، ولا يستخص بشئ دونهم، كان لا يلوم أحداً فيما يقع العُذر بمثله، كان إذا ابتدأه أمران لا يَرى أيهما أقرب إلى الحقِّ، نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه . ففي هذا الأثر ترشيد وتوضيح وتعليم للناس نحو صفات كريمة وأخلاق حميدة، وهذا منهج سلوكي رفيع ينبغي أن نربي عليه أنفسنا وأبنائنا حتى يتحول إلى واقع ملموس في الحياة، ونستفيد من ذلك الأثر دروساً وعبر منها:
ـ قول الحسن رضي الله عنه: وكان عظيم ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه : ولا تصغر الدنيا إلا في عين من عرف حقائق الأمور واستقر التصور الصحيح عن الله والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر واستوعب بعمق فقه القدوم على الله تعالى فعمل للباقي وترفع عن الفاني، وأيقن أن الدنيا دار اختبار وابتلاء وعليه، فإنه مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهراً وباطناً، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا، ومن هذه الحقائق.
* اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء أو عابري سبيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل .
* إن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ، وقال صلى الله عليه وسلم: الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً .
* إن عمرها قد قارب على الانتهاء، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين بالسبّابة والوسطى ، وتبدأ قيامة الإنسان بموته والعمر قصير، فإذا استثنينا منه فترة الطفولة والنوم والكدر فكم يصفى لنا منه.
* إن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون: ((يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ القرَار * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)) (غافر، الآية: 39، 40) فإذا استقرت هذه الحقائق في قلب الأخ المسلم تصغر الدنيا في عينه.
ـ قول الحسن رضي الله عنه: كان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي مالا يجد ولا يكثر إذا وجد ، ففي هذا التوجيه دعوة إلى ترك فضول الطعام، لأنه داع إلى أنواع كثيرة من الشرب، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شراً، فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، وكم من طاعة حال دونها، فمن وفي شر بطنه فقد وفي شراً عظيماً والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام ، ولذلك حذرنا ربنا سبحانه من إتباع وساوسه ومكائده التي تؤدي إلى طغيان شهوة البطان وعدم الاكتفاء بالحلال، فقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين)) (البقرة، الآية: 168)، كما أرشد سبحانه إلى الاعتدال في الطعام والشراب لئلا يؤدي ذلك إلى تسلط شهوة البطن وانحرافها قال تعالى ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرَِفين)) (الأعراف، الآية: 31). فالأمر التي تدل على تسلط شهوة البطن أن يُكثر صاحبها من الطعام والشراب فوق الحاجة، ويبالغ في الشبع ويفرط فيه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أخطار هذا الإسراف وضرره على الجسد والنفس، وذلك فيما رواه الترمذي عن مقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه .
وفي هذا الحديث النبوي بيان للمنهج السوي الذي ينبغي التمسك به في الإقلال من الطعام والشراب وعدم الإسراف في شهوة البطن لأن هذا الإسراف يؤدي إلى الشر الكبير، وليس المقصود بالشر هنا ما يتعلق بأمراض المعدة فحسب، وإنما المقصود أيضاً الشر الذي يصيب النفس حينما تعتاد الشرهَ في الطعام والشراب وشدة التعلق بهما فيتحول الطعام من وسيلة للغذاء وتقوية البدن إلى غاية وهدف يسعى صاحبه من أجله ويصبح ذلك السعي شغله الشاغل حتى تصبح همته مصروفة إليها، فمهما شبعت بطنه لا تشبع نفسه، لأن شهوة البطن أضحت عنده مقياس السعادة ، فطغيان شهوة البطن لا يعني كثرة الأكل فحسب لأن كثرة الأكل عرض ظاهري لهذا المرض، وإنما حقيقة المرض في شَرَه النفس وما دِّيتها وتحول الطعام من وسيلة إلى غاية حتى يصبح الإنسان كالبهائم التي تسيِّرها شهواتها وفي ذلك يقول الله عز وجل: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)) (محمد، الآية: 12)، وقد روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد .
ومعنى هذا الحديث أن من شأن المؤمنين التقليل من الأكل للاشتغال بأسباب العبادة، والكافر بخلاف ذلك كله لأنه تابع لشهوة نفسه مسترسل فيها غير خائف من تبعات الحرام، وإن أكل قليلا فليس ذلك لزهده في الدنيا وإنما لمراعاة الصحة ورياضة الجسم، فهو لشدة حرصه على الدنيا وتمسكه بها كأنه يأكل في سبعة أمعاء كما تقول: فلان يأكل الدنيا أكلاً وأما المؤمن فإنه يأكل في معي واحد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في هذا الحديث للمؤمن وزهده في الدنيا وللكافر وحرصه عليها ، وقد ذكر النووي ـ رحمه الله ـ توجيهاً آخر لهذا الحديث فقال: قيل: المراد بالسبعة سبع صفات، الحرص والشره، وطول الأمل، والطمع، وسوء الطبع، والحسد، والسمن . وقد قال: ابن القيم ـ رحمه الله ـ: لعينه وذاته كالمحرمات والثاني: ما يفسده بقدر وتعدي حده كالإسراف في الحلال والشبع المفرط، فإنه يثقله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولته حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها والتأذي بثقلها، وقوى عليه مواد الشهوة، وطرق مجاري الشيطان ووسعها، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فالصوم يضيق مجارية ويسد عليه طرقه والشبع يطرقها ويوسعها، ومن أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً فخسر كثيراً
قول الحسن رضي الله عنه: وكان خارجاً من سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه ، فالحسن رضي الله عنه يدعو إلى التحكم في شهوة الفرج ولا يكون إشباعاً إلا بما شرّع المولى عز وجل، الآن طغيانها يترتب عليه نتائج خطيرة، كقسوة القلب وضعف الإيمان، فكلما تمادت شهوة الفرج في الطغيات ازداد القلب قسوة وظلمة ووحشة ابتداء من النظر إلى ما حرم الله ثم الاختلاط بين الجنسين وما يتبعه من رجُّل النساء وتخنث الرجال، وما ينتج عنه من تهوين أمر الفاحشة والتمهيد لها حتى يقع فيها وعندها يتمكن المرض من القلب، وتبتعد عنه حقيقة الإيمان، ومصداق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن . قال البخاري ـ رحمه الله ـ عند روايته لهذا الحديث: أي لا يكون هذا مؤمناً تاماً ولا يكون له نور الإيمان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان فوق رأسه كالظُلة، فإذا أخرج من ذلك العمل رجع إليه الإيمان . فأصحاب الكبائر ينزع منهم نور الإيمان ويضعف تعظيم الرب سبحانه من قلوبهم، إذ لو استشعروا من أتى الكبائر مثل الزنى أو السرقة أو شرب الخمر وغير ذلك، فلا بدأ أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور، وإن بقى أصل التصديق في قلبه، وهذا من الإيمان الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة
ومن نتائج طغيان شهوة الفرج، كثرة الوقوع في المعاصي، فالمعصية ولو كانت صغيرة تمهد الطريق لأختها حتى تتابع المعاصي ويهون أمرها ولا يدرك صاحبها خطرها، فالنظرة تؤدي إلى الفكرة ثم يتولد الخاطر في القلب وتتحرك الشهوة وقد يؤدي ذلك إلى العزم على اقتراف الفاحشة، فإن تيسرت أسبابها وقع فيها ولهذا كانت النظرة مقدمة من مقدمات الزنى، وباباً من الأبواب الموصلة إليه، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش،، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ، وهكذا تتدرج المعاصي في تسربها إلى قلب العبد وتأثيرها عليه حتى لا يبالي بها ولا يقدر على مفارقتها ويطلب ما هو أكثر منها ، وفي ذلك يقول ابن اقيم ـ رحمه الله ـ: إن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضاً حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها .. حتى تصير هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة، ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاق صدره حتى يعاودها، حتى إن كثيراً من الفسَّاق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها، ولا داعية إليها إلا لما يجده من الألم بمفارقتها . ومن نتائج طغيان شهوة الفرج، ذهاب الحياء، فإذا اعتاد العبد على مقارفة الآثام نتيجة لطغيان شهوته، سيصل إلى حال لا يبالي فيه باطلاع الناس على أفعاله القبيحة، بل أن كثيراً من هؤلاء يخبرون الناس بما يفعلونه ويتباهون به لأنهم انسلخوا من الحياء .
وهكذا نجد أن التهاون في وقاية شهوة الفرج من الانحراف ولو كان يسيراً، سيؤدي شيئاً فشيئاً إلى ما هو أخطر وحتى لا يقع المرء فريسة طغيان الشهوة التي يصعب التخلص من شرودها، وتؤدي في النهاية إلى طمس قلب صاحبها وانسلاخه من الأخلاق الفاضلة بالإضافة إلى ما يصيبه من الأمراض النفسية والجسدية ، فقد شرع الإسلام تدابير وقائية من طغيان شهوة الفرج منها:

يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022