الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

 السؤال: 

هل يوجد تناص في القرآن الكريم ؟

 

 الجواب: 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله .
حتى نتمكن من تحرير الجواب وبيان الحكم ينبغي وضع صورة المسألة في قالب سهل ميسر يمكن فهمه أولاً… ونتفق على مفهوم "التناص" حتى لا نتوسع في الجواب عن شيء، ويكون في ذهن السائل شيء آخر.
مصطلح " التناص" هو مصطلح معاصر، وإن كان مفهوم التناص العام معروفا في كل اللغات والأزمان، وأقصد بالتناص في جوابي على سؤالك هو تلك العلاقة التي تجعل كل نص واقع يأخذ من نص سابق أو يتأثر بألفاظه ومعانيه ومبانيه، سواء كان هذا النص السابق من المتكلم نفسه أو من غيره . فإن كان من نفس المتكلم سمي " تناص داخلي" بحيث يعيد المتكلم استعمال الكلمة التي قالها أو المعنى الذي قصده في أكثر من نصّ، وإن كان من غيره سمي " تناص خارجي" بحيث يكون هناك تشابه بين نص المتكلم أو المعاني التي ذكرها وبين نصوص غيره ومعانيهم.
وهي نظرية معاصرة تفيد أن المعاني لا تبدأ من عدم إنما يختلف الناس في التعبير عن تلك المعاني التي تعلموها، وهو ما عبر عنه عنترة بقوله: 
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ
أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
فكأنه يقول أن الشعراء قبلي لم يتركوا معنى يستحق الترقيع والإصلاح والتعبير إلا تناولوه ، أو كما يقال : لم يترك الأول للآخر شيئًا.
هذا التناص بشكل عام ،ولكن عندما نتحدث عن القرآن الكريم فمما لا شك فيه أن الأمر يختلف تمام الاختلاف، لأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، والفرق بين كلام الله تعالى وكلام البشر كالفرق بين الخالق والمخلوق، صحيح أن الله تعالى جعل القرآن بلفظ عربي يتداوله العرب، ولكن كما صيّر اللهُ تعالى من " الطين" بشراً وخلقا آخر، كذلك صارت تلك الحروف العربية خلقا آخر، ومن قاس كلام الله تعالى على كلام البشر كان كمن شبّه الإنسان بالتراب بحجة وحدة المادة التي تجمعهم .
والكلام بوجه عام يقوم على ثلاثة أشياء كما يقول الإمام الخطابي : "لفظ حامل، ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم." عليه فلا يمكن أن يجاري كلام البشر كلام الله تعالى من حيث اللفظ ولا المعنى القائم ولا الربط الناظم ، فألفاظ القرآن الكريم في غاية الشرف والفضل " حيث لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه، وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعومتها وصفاتها"
أما الجواب عن سؤالك بعد بيان مفهوم التناص، وبعد بيان الفرق بين كلام الخالق والمخلوق فأقول يمكن أن نقول بوجود التناص الداخلي على حد التعبير المعاصر، فالله عز وجل وصفا كتابه قائلا :"ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ"ومتشابها: أي يشبه بعضه بعضا ويصدّق بعضه بعضا ويدلّ بعضه على بعض.
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله : فمعانيه متشابهة في صحتها وأحكامها وابتنائها على الحق والصدق ومصادفة المحزّ من الحجة وتبكيت الخصوم وكونها صلاحاً للناس وهدى . وألفاظه متماثلة في الشرف والفصاحة والإِصابة للأغراض من المعاني بحيث تبلغ ألفاظه ومعانيه أقصى ما تحتمله أشرف لغة للبشر " ويقول : " فالقرآن مثاني لأنه مكرر الأغراض، وهذا يتضمن امتناناً على الأمة بأن أغراض كتابها مكررة فيه لتكون مقاصده أرسخ في نفوسها ، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبلُ "
وقد عبر عنه العلماء قديما عن هذا التشابه بتعبيرات متنوعة لإثبات نظرية النظم في القرآن ووجود ترتيب وروابط بين الآيات والسور حتى عدها الإمام الفخر الرازي من أعظم لطائف القرآن الكريم بقوله : إن " أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط»
وقريب من ذلك – حسب تقديري- علم المناسبات الذي برع فيه الإمام البقاعي رحمه الله، واصفا إياه بأنه :" سر البلاغة ؛ لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال ، وتتوقف الإجازة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها ، ويفيد ذلك في معرفة المقصود من جميع جملها ، فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة ، وكانت نسبته من علم التفسير كنسبة علم البيان من النحو»
أما التناص الخارجي في القرآن فيمكن القول بجزء منه فقط من باب التجوز، حيث ترد معاني في القرآن يعرفها العرب من قبل ولكن جاء بها القرآن بأكمل لفظ وأتم معنى، كقولهم : القتل أنفى للقتل، ويقصدون أن قتل القاتل هو الذي ينفي القتل لاحقا، فقد جاء في القرآن بلفظ معجز ومعنى أتم في قوله تعالى : "ولكم في القصاص حياة " ، ومن أسباب ذلك التناص- إن صح التعبير- هو أن النص القرآني نص " رسالي" إصلاحي، ومن تمام الرسالة مخاطبة الناس بمعان يعرفونها وتعبير يلامس فطرتهم السليمة ويبهر ذائقتهم اللغوية المستقرة . 
والحديث في هذا الأمر متشعب، ويكفي ما قلت في سياق الجواب . والله تعالى أعلم .

 

 

 المجيب: 

فضيلة الشيخ الدكتور ونيس المبروك جزاه الله خيراً


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022