مسألة الشورى زمن خلاقة الفاروق... آلية ضرورية للحكم خلال الفترة الراشدة؛
مواقف قيادية وقرارات حكيمة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السادسة عشر
إِنَّ من قواعد الدَّولة الإِسلاميَّة حتمية تشاور قادة الدَّولة، وحكَّامها مع المسلمين، والنُّزول على رضاهم، ورأيهم، وإِمضاء نظام الحكم بالشُّورى، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ *} [آل عمران: 159].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *} [الشورى:38]. لقد قرنت الآية الكريمة الشُّورى بين المسلمين بإِقامة الصَّلاة، فدلَّ ذلك على أنَّ حكم الشُّورى كحكم الصَّلاة، وحكم الصَّلاة واجبة شرعاً، فكذلك الشُّورى واجبة شرعاً، وقد اعتمد عمر ـ رضي الله عنه ـ مبدأ الشُّورى في دولته، فكان رضي الله عنه لا يستأثر بالأمر دون المسلمين، ولا يستبدُّ عليهم في شأنٍ من الشؤون العامة، فإِذا نزل به أمر؛ لا يبرمه حتَّى يجمع المسلمين، ويناقش الرأي معهم فيه، ويستشيرهم.
ومن مأثور قوله: (لا خير في أمر أبرم من غير شورى) ، وقوله: (الرأي الفرد كالخيط السَّحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثَّلاثة مرارٌ لا يكاد ينتقض) . وقوله: (شاور في أمرك مَنْ يخاف الله عز وجل) . وقوله: (الرِّجال ثلاثة: رجلٌ ترد عليه الأمور، فيسدِّدها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه، وينزل حيث يأمره أهل الرأي، ورجل حائرٌ بائر، لا يأتمر رشداً، ولا يقطع مرشداً) . وقوله: (يحقُّ على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم، وبين ذوي الرأي منهم، فالنَّاس تبعٌ لمن قام بهذا الأمر ما اجتمعوا عليه، ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعاً لهم ومن أقام بهذا الأمر تبع لأولي رأيهم ما رأوا لهم، ورضوا به لهم من مكيدةٍ في حرب كانوا فيه تبعاً لهم) .
وكان يحثُّ قادة حربه على الشُّورى، فعندما بعث أبا عبيد الثَّقفي لمحاربة الفرس بالعراق؛ قال له: (اسمع، وأطع أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأشركهم في الأمر خاصَّةً من كان منهم من أهل بدرٍ) .
وكان يكتب إِلى قادته بالعراق يأمرهم أن يشاوروا في أمورهم العسكريَّة عمرو ابن معد يكرب، وطلحة الأسدي قائلاً: (استشيروا، واستعينوا في حربكم بطلحة الأسديِّ، وعمرو بن معد يكرب، ولا تولوهما من الأمر شيئاً فإِنَّ كلَّ صانعٍ أعلم بصناعته) .
وكتب إِلى سعد بن أبي وقَّاصٍ: (وليكن عندك من العرب أوَّل من أهل الأرض مَنْ تطمئنُّ إِلى نصحه وصدقه، فإِن الكذوب لا ينفعك خبره؛ وإِن صدقك في بعضه، والغاشُّ عينٌ عليك، وليس عيناً لك) . وممَّا قاله عمر ـ رضي الله عنه ـ لعتبة بن غزوان حين وجَّهه إِلى البصرة: (قد كتبتُ إِلى العلاء الحضرميِّ، أن يمدَّك بعرفجة بن هرشمة، وهو ذو مجاهدةٍ للعدوِّ، ومكايدته، فإِذا قدم عليك فاستشره، وقرِّبه) .
وكان مسلك الفاروق في الشُّورى جميلاً: فإِنَّه كان يستشير العامَّة أوَّل أمره فيسمع منهم، ثمَّ يجمع مشايخ أصحاب رسول الله، وأصحاب الرأي منهم، ثم يفضي إِليهم بالأمر، ويسألهم أن يخلصوا فيه إِلى رأيٍ محمودٍ، فما استقرَّ عليه رأيهم؛ أمضاه.
وعمله هذا يشبه الأنظمة الدُّستورية في كثيرٍ من الممالك النِّظامية، إِذ يعرض الأمر على مجلس النُّواب مثلاً، ثم بعد أن يقرَّر بالأغلبية يعرض على مجلس اخر يسمَّى في بعضها مجلس الشيوخ، وفي بعضها مجلس اللُّوردات، فإِذا انتهى المجلس من تقريره أمضاه الملك. والفرق بين عمل عمر وعمل هذه الممالك: أنَّ هنا الأمر كان اجتهاداً منه، وبغير نظامٍ متَّبعٍ، أو قوانين مسنونةٍ، وكثيراً ما كان عمر يجتهد في الشَّيء، ويبدي رأيه فيه، ثم يأتي أضعف النَّاس فيبيِّن له وجه الصَّواب، وقوَّة الدَّليل، فيقبله، ويرجع عن خطأ ما رأى إِلى صواب ما استبان له.
وقد توسَّع نطاق الشُّورى في خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ لكثرة المستجدَّات، والأحداث، وامتداد رقعة الإِسلام إِلى بلادٍ ذات حضاراتٍ، وتقاليد، ونظمٍ متباينة، فولدت مشكلاتٌ جديدةٌ احتاجت إِلى الاجتهاد الواسع، مثل معاملة الأرض المفتوحة، وتنظيم العطاء وفق قواعد جديدة لتدفع أموال الفتوح إِلى الدَّولة، فكان عمر يجمع للشُّورى أكبر عددٍ من الصَّحابة الكبار، وكان لأشياخ بدر مكانتهم الخاصَّة في الشُّورى لفضلهم، وعلمهم، وسابقتهم، إِلا أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ أخذ يشوبهم بشبابٍ، فإِنَّهم على دربهم ماضون لأجَلهم، ورحمةِ ربِّهم، ومغفرته، والدَّولة لابدَّ لها من تجديد رجالاتها، وكان عمر العبقريُّ الفذُّ قد فطن إِلى هذه الحقيقة، فأخذ يختار من شباب الأمَّة مَنْ علم منهم علماً، وورعاً وتقىً، فكان عبد الله بن عبَّاس من أوَّلهم، وما زال عمر يجتهد متخيِّراً من شباب الأمَّة مستشارين له، متَّخذاً القران فيصلاً في التخيُّر حتَّى قال عبد الله بن عبَّاس: وكان القرَّاء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا، أو شبانًا.
وقد قال الزُّهريُّ لغلمان أحداث: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإِنَّ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان إِذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان، فاستشارهم يبتغي حدَّة عقولهم. وقال محمَّد بن سيرين: إِن كان عمر رضي الله عنه ليستشير في الأمر حتَّى إِن كان ليستشير المرأة، فربما أبصر في قولها الشَّيء يستحسنه، فيأخذه. وقد ثبت: أنَّه استشار مرة أمَّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها.
وقد كان لعمر ـ رضي الله عنه ـ خاصَّةٌ مِنْ عِلْيَة الصَّحابة، وذوي الرأي، منهم: العبَّاس بن عبد المطلب، وابنه عبد الله، وكان لا يكاد يفارقه في سفرٍ، ولا حضرٍ، وعثمان بن عفَّان، وعبد الرحمن بن عوف، وعليُّ بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب، ويزيد بن ثابتٍ، ونظراؤهم، فكان يستشيرهم، ويرجع إِلى رأيهم، وكان المستشارون يبدون اراءهم بحريَّةٍ تامَّة، وصراحةٍ كاملةٍ، ولم يتَّهم عمر ـ رضي الله عنه ـ أحداً منهم في عدالته، وأمانته.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يستشير في الأمور الَّتي لا نصَّ فيها من كتابٍ، أو سنَّةٍ، وهو يهدف إِلى معرفة إِن كان بعض الصَّحابة يحفظ فيها نصّاً من السُّنَّة، فقد كان بعض الصَّحابة يحفظ منها ما لا يحفظه الاخرون، وكذلك كان يستشير في فهم النُّصوص المحتملة لأكثر من معنى لمعرفة المعاني، والأوجه المختلفة، وفي هذين الأمرين قد يكتفي باستشارة الواحد أو العدد القليل، وأمَّا في النَّوازل العامَّة؛ فيجمع الصَّحابة، ويوسِّع النِّطاق ما استطاع، كما فعل عند وقوع الطَّاعون بأرض الشَّام متوجِّهاً إِليها، وبلغ عمر خبره، فوافاه الأمراء بسرغ ـ موضع قرب الشَّام ـ وكان معه المهاجرون، والأنصار، فجمعهم مستشيراً: أيمضي لوجهه، أم يرجع ؟ فاختلفوا عليه: فمن قائل: خرجت لوجه الله فلا يصدنَّك عنه هذا. ومن قائل: إِنَّه بلاء، وفناءٌ، فلا نرى أن تقدم عليه.
ثمَّ أحضر مهاجرة الفتح من قريشٍ، فلم يختلفوا عليه، بل أشاروا بالعودة، فنادى عمر في النَّاس: إِنِّي مصبِّحٌ على ظهرٍ. فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله ؟. فقال: نعم، نفرُّ من قدر الله إِلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إِبلٌ، فهبطت وادياً له عدوتان: إِحداهما مخصبةٌ، والأخرى جدبةٌ، أليس إِن رعيت الخصبة؛ رعيتها بقدر الله، وإِن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ فسمع بهم عبد الرَّحمن بن عوف، فجاءهم، وقال: إِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: « إِذا سمعتم به بأرضٍ؛ فلا تقدموا عليه، وإِذا وقع بأرضٍ وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه ».
وكانت مجالات الشُّورى في عهد عمر متعددةً، منها في المجال الإِداريِّ، والسِّياسي، كاختيار العمَّال، والأمراء، والأمور العسكريَّة، ومنها في المسائل الشَّرعيَّة المحضة، كالكشف في الحكم الشَّرعيِّ من حيث الحلُّ، والحرمة، والمسائل القضائيَّة، وستتَّضح مجالات الشُّورى، وتطبيقاتها وبحث عمر ـ رضي الله عنه ـ عن الدَّليل الأقوى من خلال هذا البحث كلٌّ في موضعه بإِذن الله تعالى.
والَّذي نحبُّ أن نؤكد عليه: أنَّ الخلافة الرَّاشدة كانت قائمةً على مبدأ الشُّورى المستمدَّة من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تكن في عهد عمر فلتةً استنبطها، ولا بدعةً أتى بها، ولكنَّها قاعدةٌ من قواعد المنهج الربَّانيِّ.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي