خطبة الفاروق لمَّا تولَّى الخلافة؛ محتوها والمستفاد منها
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الخامسة عشر
اختلف الرُّواة في أوَّل خطبةٍ خطبها الفاروق عمر، فقال بعضهم: إِنَّه صعد المنبر، فقال: اللَّهمَّ إِنِّي شديدٌ فليِّنِّي، وإِنِّي ضعيفٌ فقوِّني، وإِنِّي بخيلٌ فسخِّني. وروي أَنَّ أوَّل خطبةٍ كانت قوله: إِنَّ الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيءٌ من أمركم، فيليه أحدٌ دوني، ولا يتغيَّب عنِّي فالو فيه عن أهل الجزء ـ يعني: الكفاية ـ والأمانة، والله لئن أحسنوا، لأحسننَّ إِليهم ! ولئن أساؤوا؛ لأنكلنَّ بهم ! فقال من شهد خطبته، ورواها عنه: فوالله ! ما زاد على ذلك حتَّى فارق الدُّنيا، وروي: أنَّه لما ولي الخلافة صعد المنبر، وهمَّ أن يجلس مكان أبي بكرٍ، فقال: ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكرٍ. فنزل مرقاةً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ قال: اقرؤوا القران؛ تعرفوا به، واعملوا به؛ تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إِنَّه لم يبلغ حقُّ ذي حقٍّ أن يطاع في معصية الله ألا وإِنِّي أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم؛ إِن استغنيت؛ عففت، وإِن افتقرت؛ أكلت بالمعروف.
ويمكن الجمع بين هذه الرِّوايات إِذا افترضنا: أنَّ عمر ألقى خطبته أمام جمعٍ من الحاضرين، فحفظ بعضهم منها جزءاً، فرواه، وحفظ اخر جزءاً غيره، فذكره، وليس من الغريب أن يمزج الفاروق في أوَّل خطبةٍ له بين البيان السِّياسي، والإِداري، والعظة الدِّينيَّة، فذلك نهج هؤلاء الأئمَّة الأوَّلين؛ الذين لم يروا فارقاً بين تقوى الله، والأمر بها، وسياسة البشر تبعاً لمنهجه، وشريعته، كما أنَّه ليس غريباً على عمر أن يراعي حقَّ سلفه العظيم أبي بكرٍ، فلا يجلس في موضع كان يجلس فيه، فيساويه بذلك في أعين النَّاس، فراجع عمر نفسه ـ رضي الله عنه ـ ونزل درجةً عن مكان الصِّدِّيق رضي الله عنه. وفي رواية أخرى: أنَّه بعد يومين من استخلافه تحدَّث النَّاس فيما كانوا يخافون من شدَّته، وبطشه، وأدرك عمر: أنَّه لابدَّ من تجلية الأمر بنفسه، فصعد المنبر، وخطبهم، فذكر بعض شأنه مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وخليفته، وكيف أنَّهما توفيا وهما عنه راضيان.
ثمَّ قال:.. ثمَّ إِنِّي قد ولِّيت أموركم أيُّها النَّاس ! فاعلموا أنَّ تلك الشِّدَّة قد أضعفت، ولكنَّها إِنَّما تكون على أهل الظُّلم، والتَّعدي، ولست أدع أحداً يظلم أحداً، أو يتعدَّى عليه حتَّى أضع خدَّه على الأرض، وأضع قدمي على الخد الاخر حتَّى يذعن للحقِّ. وإِنِّي بعد شدَّتي تلك أضع خدِّي لأهل العفاف، وأهل الكفاف. ولكم عليَّ أيُّها النَّاس خصالٌ أذكرها لكم، فخذوني بها؛ لكم عليَّ ألا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولا ممَّا أفاء الله عليكم إِلا في وجهه، ولكم عليَّ إِذا وقع بين يدي ألا يخرج مني إِلا في حقِّه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم، وأرزاقكم ـ إِن شاء الله تعالى ـ وأسدَّ ثغوركم، ولكم عليَّ ألا ألقيكم في المهالك، ولا أجمركم في ثغوركم، وإِذا غبتم في البعوث؛ فأنا أبو العيال، حتَّى ترجعوا إِليهم، فاتَّقوا الله عباد الله ! وأعينوني على أنفسكم بكفِّها عنِّي، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وإِحضار النَّصيحة فيما ولاني الله من أمركم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي، ولكم. وجاء في روايةٍ: إِنَّما مثل العرب مثل جملٍ انفٍ اتَّبع قائده، فلينظر قائده حيث يقوده، أمَّا أنا فوربِّ الكعبة لأحملنَّكم على الطريق! وفي هذه الروايات لخطبة عمر ـ رضي الله عنه ـ لمَّا ولِّي الخلافة يتَّضح منهجه في الحكم الَّذي لم يحد عنه، وأبرز ملامحه:
1ـ أنَّه ينظر إِلى الخلافة على أنَّها ابتلاء ابتلي به، سيحاسب على أداء حقِّه؛ فالحكم عند الرَّاشدين تكليفٌ، وواجبٌ، وابتلاءٌ، وليس جاهاً، وشرفاً، واستعلاءً.
2ـ وهذا الاستخلاف يتطلَّب منه أن يباشر حمل أعباء الدَّولة فيما حضره من أمرها، وأن يولِّي على الرَّعية التي غابت عنه أفضل الأمراء، وأكفأهم، غير أنَّ ذلك ـ فيما يرى عمر ـ ليس كافياً لإِبراء ذمَّته أمام الله تعالى؛ بل يرى: أنَّ مراقبة هؤلاء العمَّال، والولاة فرضٌ لا فكاك منه، فمن أحسن منهم؛ زاده إِحساناً، ومن أساء؛ عاقبه، ونكَّل به. وسيأتي بيان ذلك بإِذن الله عند حديثنا عن مؤسسة الولاة، وفقه الفاروق في تطويرها.
3ـ إِنَّ شدَّة عمر الَّتي هابها النَّاس سيخلصها لهم ليناً، ورحمةً، وسينصب لهم ميزان العدل، فمن ظلم وتعدَّى؛ فلن يجد إِلا التَّنكيل، والهوان (ولست أدع أحداً يظلم أحداً، ويتعدَّى عليه حتَّى أضع خدَّه على الأرض..) أمَّا من اثر القصد، والدِّين، والعفاف، فسيجد من الرَّحمة ما لا مزيد عليه؛ أضع خدي لأهل العفاف، وسيتَّضح عدل عمر ـ رضي الله عنه ـ في رعيته من خلال المواقف واهتمامه بمؤسَّسة القضاء، وتطويرها بحيث سيطر العدل على كلِّ ولايات الدَّولة.
4ـ وتكفَّل الخليفة بالدِّفاع عن الأمَّة ودينها، وأن يسدَّ الثُّغور، ويدفع الخطر، غير أن ذلك لن يتمَّ بظلم المقاتلين، فلن يحبسهم في الثغور إِلى حدٍّ لا يطيقونه، وإِن غابوا في الجيوش فسيرعى الخليفة، وجهازه الإِداريُّ أبناءهم، وأسرهم. ولقد قام الفاروق بتطوير المؤسَّسة العسكريَّة، وأصبحت قوَّةً ضاربةً لا مثيل لها على مستوى العالم في عصره.
5ـ وتعهَّد الخليفة بأداء الحقوق الماليَّة للرَّعيَّة كاملةً.. من خراجٍ وفيءٍ، لا يحتجن منه شيئاً، ولا يضعه في غير محلِّه، بل سيزيد عطاياهم، وأرزاقهم باستمرار الجهاد، والغزو والحضِّ على العمل، وضبط الأداء الماليِّ للدَّولة، وقد قام بتطوير المؤسَّسة الماليَّة، وضبط مصادر بيت المال، وأوجه الإِنفاق في الدَّولة.
6ـ وفي مقابل ذلك يطالب الرَّعية بأداء واجبها من النُّصح لخليفتها، والسَّمع، والطَّاعة له، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر ممَّا يشيع الرَّقابة الإِسلاميَّة في المجتمع.
7ـ ونبَّه إِلى أنَّه لا يُعان على ذلك إِلا بتقوى الله، ومحاسبة النَّفس، واستشعار المسؤوليَّة في الاخرة.
8 ـ علَّق الشيخ عبد الوهاب النَّجار على قول عمر ـ رضي الله عنه ـ: إِنَّما مثل العرب كمثل جملٍ انف؛ بقوله: الجمل الانف: هو الجملُ الذَّلول المواتي الَّذي يأنف من الزَّجر والضَّرب، ويعطي ما عنده من السَّير عفواً سهلاً. وهذا تشخيصٌ حسن للأمَّة الإِسلاميَّة لعهده، فإِنَّها كانت سامعةً مطاوعةً، إِذا أُمرت؛ ائتمرت، وإِذا نهيت؛ انتهت. ويتبع ذلك المسؤوليَّة الكبرى على قائدها فإِنَّه يجب عليه أن يرتاد لها، ويصدر في شأنه بعقلٍ، ويورد بتمييز حتَّى لا يورِّطها في خطرٍ، ولا يقحمها في مهلكةٍ، ولا يهمل شأنها إِهمالاً يكون من ورائه البطر. وقد أراد بالطَّريق: الطَّريق الأقوم الَّذي لا عوج فيه. وقد برَّ بما أقسم به.
9ـ سنَّة الله في الفظاعة، والغلظة، والرِّفق: مضت سنَّة الله في أحوال الناس، واجتماعهم، وفي إِقبالهم على الشَّخص، واجتماعهم عليه، وقبولهم منه، وسماعهم قوله، وأنسهم به أن ينفضُّوا عن الفظِّ الغليظ القلب؛ حتَّى ولو كان ناصحاً، مريداً للخير لهم، حريصاً على ما ينفعهم، وقد دلَّ على هذا قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ *} [آل عمران: 159]. ولذلك كان دعاء الفاروق لمَّا تولى الخلافة: اللَّهمَّ إِنِّي شديدٌ فليِّنِّي !
وقد استجاب الله هذا الدُّعاء، وامتلأت نفس عمر بالعطف، والرَّحمة، واللِّين، وأصبحت من صفاته بعد توليته الخلافة، فقد عرف النَّاس عمر في عهدَي الرَّسول، وأبي بكرٍ شديداً، حازماً، وصوَّره لنا التاريخ على أنَّه الشَّخص الوحيد الَّذي مثَّل منذ دخل الإِسلام حتَّى تولَّى الخلافة دور الشِّدَّة، والقوَّة بجانب الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وبجانب أبي بكرٍ، حتَّى ال إِليه الأمر؛ انقلب رخاءً، ويسراً، ورحمةً.
10ـ كانت البيعة العامَّة في سيرة الخلفاء الرَّاشدين مقيَّدةً بأهل المدينة دون غيرهم. وربَّما حضرها، وعقدها الأعراب، والقبائل الَّتي كانت محيطةً بالمدينة، أو نازلةً فيها، أمَّا بقيَّة الأمصار، فكانت تبعاً لما يتقرَّر في مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يطعن بالبيعة، ولا يقلِّل من شرعيَّتها؛ لأن جمع المسلمين من كل الأقطار والأمصار كان أمراً مستحيلاً، ولابدَّ للدَّولة من قائم بها، ولا يمكن أن تعطَّل مصالح الخلق، أضف إِلى ذلك: أنَّ الأمصار الأخرى قد أيَّدت في بيعة أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان ما جرى في المدينة، تأييداً صريحاً، أو ضمنيّاً، ولا شكَّ أنَّ الأساليب الَّتي لجأ إِليها النَّاس في صدر الإِسلام كانت تجارب تصبُّ في حقل تطوير الدَّولة، ومؤسَّساتها.
11ـ المرأة والبيعة: لم أجد أثناء البحث إِشارةً إِلى أنَّ المرأة قد بايعت في زمن أبي بكرٍ، وعمر، وفي عصر الخلفاء الرَّاشدين، ولم تشر كتب السِّياسة الشَّرعيَّة القديمة إِلى حقِّ المرأة، أو واجبها في البيعة ـ على حدِّ علمي القاصر ـ والظَّاهر: أنَّ البيعة قد اقتصرت في معظم عصور التَّاريخ الإِسلامي على الرِّجال دون النِّساء، فلا الرِّجال دعوها إِليها، ولا هي طالبت بها، واعتبر تغيُّب المرأة عن البيعة أمراً طبيعياً، إِلى درجة أنَّ علماء الحقوق الدُّستوريَّة الإِسلاميَّة لم يشيروا إِليها في قليل، ولا كثير، غير أنَّ هذا الواقع التَّاريخيَّ، والفقهيَّ لا يغيِّر من حقيقة الحكم الشَّرعيِّ شيئًا، فليس في القران الكريم، ولا في السُّنَّة النَّبويَّة ـ وهما المصدران الرَّئيسان للشَّريعة ـ ما يمنع المرأة من أن تشارك الرَّجل في البيعة.
12ـ رد سبايا العرب: كان أوَّل قرار اتَّخذه عمر في دولته ردَّ سبايا أهل الردَّة إِلى عشائرهم، حيث قال: كرهت أن يكون السَّبي سنةً في العرب، وهذه الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً: أنَّهم أمام شريعة الله سواءٌ، وأنَّه لا فضل لقبيلةٍ على قبيلةٍ إِلا بحسن بلائها، وما تقدِّمه من خدمات للإِسلام، والمسلمين، وتلت تلك الخطوة خطوةٌ أخرى هي السَّماح لمن ظهرت توبتُهم من أهل الردَّة بالاشتراك في الحروب ضدَّ أعداء الإِسلام، وقد أثبتوا شجاعةً في الحروب، وصبراً عند اللِّقاء، ووفاءً للدَّولة لا يعدله وفاء.
13ـ تجذَّر منصب الخلافة في قلب الأمَّة، وأصبح رمزاً للوحدة، ولقوَّة المسلمين، ويرى الباحث القدرة الفائقة الَّتي كان يتمتَّع بها الصَّحابة الكرام، ومدى الأصالة في أعمالهم بحيث إنَّ ما أقاموه في سويعات قليلةٍ من نفس يوم وفاة الرَّسول صلى الله عليه وسلم احتاج هدمه إِلى ربع قرن في المخطَّط البريطاني، رغم أنَّ البريطانيين أنفسهم كانوا يطلقون على الخلافة في تلك الفترة الرَّجل العجوز، فأي شموخ هذا لتلك الخلافة، وأيُّ رسوخٍ لها حيث تحتاج لهدمها ـ وبعد أن أصبحت شكلاً لا موضوعاً ـ ربع قرنٍ كاملٍ، وبعد حياةٍ استمرت قروناً من الزَّمن.
14ـ الفرق بين الملك، والخليفة: قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: والله ما أدري أخليفةٌ أم ملك ؟ فإِن كنت ملكاً فهذا أمرٌ عظيمٌ، فقال له قائل: إِنَّ بينهما فرقاً، إِنَّ الخليفة لا يأخذ إِلا حقّاً، ولا يضعه إِلا في حقٍّ، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف النَّاس، فيأخذ من هذا، أو يعطي هذا. فسكت عمر. وفي روايةٍ: أنَّ عمر سأل سلمان الفارسي: أملكٌ أنا أم خليفةٌ ؟ فقال سلمان: إِن أنت جبيت من الأرض درهماً، أو أقلَّ، أو أكثر، ثمَّ وضعته في غير موضعه؛ فأنت ملكٌ غير خليفةٍ. فاستعبر عمر.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي