الفاروق رضي الله عنه زمن خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم؛ مواقف قيادية وقرارات حكيمة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثالثة عشر
أولاً: مقامه في سقيفة بني ساعدة، ومبايعته الصِّدِّيق:
عقب وفاة النَّبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار إِلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منَّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، فذهب إِليهم أبو بكر، وعمر بن الخطَّاب، وأبو عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلَّم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إِلا أنِّي قد هيَّأت كلاماً قد أعجبني خشيت ألا يبلغه أبو بكر، ثمَّ تكلَّم أبو بكر، فتكلَّم أبلغ النَّاس، فقال في كلامه: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء. فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل ! منَّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، فقال أبو بكر: لا، ولكنَّا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايِعوا عمر، أو أبا عبيدة. فقال عمر: بل نبايعك أنت، وأنت سيِّدنا، وخيرنا، وأحبُّنا إِلى رسول الله، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه النَّاس، فرضي الله عن عمر، وأرضاه، فإِنَّه عندما ارتفعت الأصوات في السَّقيفة، وكثر اللَّغط، وخشي عمر الاختلاف، ومن أخطر الأمور الَّتي خشيها عمر أن يبدأ بالبيعة لأحد الأنصار، فتحدث الفتنة العظيمة؛ لأنَّه ليس من اليسير أن يبايع أحدٌ بعد البدء بالبيعة لأحد الأنصار، فأسرع عمر ـ رضي الله عنه ـ إِخماداً للفتنة، وقال للأنصار: يا معشر الأنصار ! ألستم تعلمون: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤمَّ النَّاس، فأيُّكم تطيب نفسه أن يتقدَّم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر! ثمَّ بادر رضي الله عنه وقال لأبي بكر: ابسط يدك، فبسط يده، فبايعه، وبايعه المهاجرون، ثمَّ الأنصار.
وعندما كان يوم الثلاثاء جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلَّم قبل أبي بكر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمَّ قال: أيُّها الناس! إِنِّي كنت قلت لكم بالأمس مقالةً ما كانت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إِليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنِّي قد كنت أرى: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا ـ يقول: يكون اخرنا ـ وإِنَّ الله قد أبقى فيكم كتابه الَّذي به هدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فإِن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإِنَّ الله قد جمع أمركم على خيركم صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثاني اثنين إِذ هما في الغار، فقوموا، فبايعوا، فبايع النَّاس أبا بكر ببيعته العامَّة بعد بيعة السَّقيفة، فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يذود، ويقوِّي، ويشجِّع النَّاس على بيعة أبي بكر حتَّى جمعهم الله عليه، وأنقذهم الله من الاختلاف والفرقة، والفتنة، فهذا الموقف الذي وقفه عمر مع النَّاس من أجل جمعهم على إِمامة أبي بكر موقفٌ عظيمٌ من أعظم مواقف الحكمة؛ الَّتي ينبغي أن تسجَّل بماء الذَّهب.
لقد خشي أن يتفرَّق أمر المسلمين، وتشبَّ نار الفتن، فأخمدها بالمبادرة إِلى مبايعة أبي بكرٍ، وتشجيع النَّاس على المبايعة العامَّة فكان عمله هذا سبباً لنجاة المسلمين من أكبر كارثةٍ كانت تحلُّ بهم، لولا يمن نقيبته، وصحَّة نظره بعد معونة الله تعالى.
ثانياً: مراجعته لأبي بكر في محاربة مانعي الزَّكاة، وإِرسال جيش أسامة:
قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: لمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر بعده، وكفر مَنْ كفر مِنَ العرب، قال عمر: يا أبا بكر ! كيف تقاتل النَّاس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا: لا إِله إِلا الله. فمن قال: لا إِله إِلا الله؛ عصم منِّي ماله، ونفسه إِلا بحقِّه، وحسابه على الله » ؟! قال أبو بكر: والله لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصَّلاة، والزَّكاة، فإِن الزَّكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عَناقًا، كانوا يؤدُّونها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ! ما هو إِلا أن رأيت أنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قد شرح صدر أبي بكرٍ للقتال، فعرفت: أنَّه الحقُّ.
وعندما اقترح بعض الصَّحابة على أبي بكرٍ بأن يبقى جيش أسامة حتَّى تهدأ الأمور؛ أرسل أسامةُ من معسكره من الجرف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إِلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالنَّاس، وقال: إِنَّ معي وجوه المسلمين وجلَّتهم، ولا امن على خليفة رسول الله، وحرم رسول الله، والمسلمين أن يتخطَّفهم المشركون. ولكنَّ أبا بكرٍ خالف ذلك، وأصرَّ على أن تستمرَّ الحملة العسكريَّة في تحرُّكها إِلى الشَّام مهما كانت الظُّروف، والأحوال، والنَّتائج، وطلبت الأنصار رجلاً أقدم سنّاً من أسامة يتولَّى أمر الجيش، وأرسلوا عمر بن الخطَّاب ليحدِّث الصِّدِّيق في ذلك، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: فإِنَّ الأنصار تطلب رجلاً أقدم سنّاً من أسامة ـ رضي الله عنه ـ فوثب أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وكان جالساً، وأخذ بلحية عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال: ثكلتك أمك يا بن الخطاب ! استعمله رسول الله، وتأمرني أن أعزله، فخرج عمر ـ رضي الله عنه ـ إِلى النَّاس، فقالوا: ما صنعت ؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمَّهاتكم ! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله.
ثالثاً: عمر، ورجوع معاذ من اليمن، وفراسةٌ صادقةٌ في أبي مسلمٍ الخولاني، ورأيه في تعيين أَبان بن سعيد على البحرين:
1ـ عمر ورجوع معاذ من اليمن:
مكث معاذ بن جبل باليمن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له جهاده الدَّعويُّ، وكذلك ضدَّ المرتدِّين، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم إِلى المدينة، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ لأبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: أرسل إِلى هذا الرَّجل، فدع له ما يُعَيِّشُه، وخذ سائره منه. فقال أبو بكر: إِنَّما بعثه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليجبره، ولست باخذٍ منه شيئاً إِلا أن يعطيني، ورأى عمر: أنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ لم يأخذ برأيه، ولكنَّ عمر مقتنعٌ بصواب رأيه، فذهب إِلى معاذ لعلَّه يرضى، فقال معاذ: إِنَّما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبرني ولست بفاعلٍ. إِنَّ عمر لم يذهب إِلى أبي بكر مستعدياً، ولكنَّه كان يريد الخير لمعاذٍ، وللمسلمين، وها هو معاذ يرفض نصيحة عمر، ويعلم عمر: أنَّه ليس بصاحب سلطانٍ على معاذٍ، فينصرف راضياً، لأنَّه قام بواجبه من النَّصيحة، ولكن معاذًا رأى رفضه نصيحة عمر ما جعله يذهب إِليه قائلاً: قد أطعتك، وإني فاعلٌ ما أمرتني به، فإني رأيت في المنام أني في خوضة ماء قد خشيت الغرق، فخلصتني منه يا عمر ! ثمَّ ذهب معاذ إِلى أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ فذكر ذلك كلَّه له، وحلَّفه: أنَّه لا يكتمه شيئاً. فقال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: أنا لا اخذ شيئاً، وقد وهبته لك. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: هذا حين حلَّ، وطاب. وقد جاء في روايةٍ: أنَّ أبا بكرٍ قال لمعاذ: ارفع حسابك. فقال معاذ: أحسابان: حساب الله، وحسابٌ منكم ؟ والله لا ألي لكم عملاً أبداً!
2ـ فراسة صادقة في أبي مسلم الخولاني:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يتمتَّع بفراسةٍ يندر وجودها في هذه الحياة، فقد روى الذَّهبيُّ: أنَّ الأسود العنسي تنبَّأ باليمن ـ ادَّعى النُّبوَّة ـ فبعث إِلى أبي مسلم الخولاني، فأتاه بنارٍ عظيمةٍ، ثُمَّ إِنَّه ألقى أبا مسلمٍ فيها، فلم تضرَّه.. فقيل للأسود: إِن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتَّبعك، فأمره بالرَّحيل، فقدم المدينة، فأناخ راحلته، ودخل المسجد يصلِّي، فبصر به عمر ـ رضي الله عنه ـ فقام إِليه، فقال: ممَّن الرجل ؟ قال: من اليمن. قال: وما فعل الَّذي حرقه الكذَّاب بالنار ؟ قال: ذاك عبد الله بن ثُوَب. قال: نشدتك بالله ! أنت هو ؟ قال: اللَّهُمَّ نعم ! فاعتنقه عمر، وبكى، ثمَّ ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصِّدِّيق، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتَّى أراني في أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْ صُنع به كما صُنع بإِبراهيم الخليل.
3ـ رأيه في تعيين أَبان بن سعيد على البحرين:
انتهج أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ خط الشُّورى في تعيين الأمراء، فقد ورد: أنَّه شاور أصحابه فيمن يبعث إِلى البحرين، فقال له عثمان: ابعث رجلاً قد بعثه رسول الله، فقدم عليه بإِسلامهم، وطاعتهم، وقد عرفوه، وعرفهم، وعرف بلادهم ـ يعني: العلاء بن الحضرمي ـ فأبى ذلك عمر عليه، وقال: أكره أَبان بن سعيد بن العاص، فإنَّه رجلٌ قد حالفهم. فأبى أبو بكرٍ أن يكرهه، وقال: لا أكره رجلاً يقول: لا أعمل لأحدٍ بعد رسول الله. وأجمع أبو بكرٍ بعثة العلاء بن الحضرميِّ إِلى البحرين.
رابعاً: رأي عمر في عدم قبول دية قتلى المسلمين، واعتراضه على إِقطاع الصِّديق للأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن:
1ـ رأي عمر في عدم قبول دية قتلى المسلمين في حروب الردة:
جاء وفد بزاخة من أسدٍ، وغطفان إِلى أبي بكر يسألونه الصُّلح، فخيَّرهم بين الحرب المجلية، والسِّلم المخزية، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها؛ فما المخزية ؟ قال: تنزع منكم الحلقة، والكراع، ونغنم ما أصبنا منكم، وتردون علينا ما أصبتم منَّا، وَتَدُون قتلانا، وتكون قتلاكم في النَّار، وتُتركون أقواماً يتَّبعون أذناب الإِبل حتَّى يري الله خليفة رسوله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين أمراً يعذرونكم به. فعرض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطَّاب، فقال: قد رأيت رأياً سنشير عليك، أمَّا ما ذكرت من الحرب المجلية، والسِّلم المخزية؛ فنعم ما ذكرت، وأمَّا ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم، وتردُّون ما أصبتم منَّا؛ فنعم ما ذكرت، وأمَّا ما ذكرت تدون قتلانا، وتكون قتلاكم في النَّار، فإِنَّ قتلانا قاتلت، فقتلت على أمر الله، أُجورها على الله، ليس لها دياتٌ. فتبايع القوم على ما قال عمر.
2ـ اعتراضه على إِقطاع الصِّدِّيق للأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن:
جاء عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس إِلى أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فقالا: يا خليفة رسول الله ! إِنَّ عندنا أرضاً سبخةً، ليس فيها كلأٌ، ولا منفعةٌ، فإِن رأيت أن تقطعنا لعلَّنا نحرثها، أو نزرعها، لعلَّ الله أن ينفع بها بعد اليوم. فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا، إِن كانت أرضاً سبخة لا يُنتفع بها ؟ قالوا: نرى أن تقطعهما إِيَّاها، لعلَّ الله ينفع بها بعد اليوم. فأقطعهما إِيَّاها، وكتب لهما بذلك كتاباً، وأشهد عمر، وليس في القوم، فانطلقا إِلى عمر يشهدانه، فوجداه قائمًا يهنأ بعيراً له، فقالا: إِنَّ أبا بكرٍ أشهدك على ما في الكتاب، فنقرأ عليك، أو تقرأ ؟ فقال: أنا على الحال الَّذي تريان، فإِن شئتما فاقرأا وإِن شئتما فانظرا حتَّى أفرغ، فأقرأ عليكما، قالا: بل نقرأ، فقرأا فلمَّا سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما، ثمَّ تفل عليه، فمحاه، فتذمَّرا، وقالا مقالةً سيئةً. فقال: إِنَّ رسول الله كان يتألَّفكما، والإِسلام يومئذٍ ذليلٌ، وإِنَّ الله قد أعزَّ الإِسلام، فاذهبا، فاجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إِن رعيتما. فأقبلا إِلى أبي بكرٍ، وهما يتذمَّران، فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر ؟! فقال: لا بل هو لو كان شاء. فجاء عمر ـ وهو مغضبٌ ـ فوقف على أبي بكر، فقال: أخبرني عن هذه الأرض الَّتي أقطعتها هذين؛ أرض هي لك خاصَّة أم للمسلمين عامَّة ؟ قال: بل للمسلمين عامَّة. قال: فما حملك أن تخصَّ بها هذين دون جماعة المسلمين ؟ قال: استشرت هؤلاء الَّذين حولي فأشاروا عليَّ بذلك. قال: فإِذا استشرت هؤلاء الَّذين حولك، فكلُّ المسلمين أوسعتهم مشورةً، ورضاً؟ فقال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: قد كنت قلت لك: إِنَّك على هذا أقوى منِّي، ولكن غلبتني.
هذه الواقعة دليلٌ لا يقبل الشَّكَّ: أنَّ حكم الدولة الإِسلاميَّة في عهد الخلفاء الرَّاشدين كان يقوم على الشُّورى، فهي تظهر لنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حريصاً على استشارة المسلمين في الصَّغيرة والكبيرة، وما كان ليبرم أمراً دون مشورة إِخوانه.
إِنَّ الخبر السَّالف الذِّكر يؤكِّد لنا: أنَّ خليفة رسول الله ـ رضي الله عنه ـ كان يمضي الشُّورى في كلِّ شأنٍ من شؤون المسلمين، بل وكان ينزل عن رأيه، وهو مَنْ هو ـ رضي الله عنه ـ إِنَّها صورةٌ للشُّورى الحقيقيَّة المنضبطة مع أوامر الله، مع الحلال والحرام، لا الشُّورى المزيَّفة الَّتي تجري تحت قباب مجالس دستورية، لم تجن من ورائها الشُّعوب إِلا المرارة، والاستبداد، والظُّلم، والضَّياع.
خامساً: جمع القران الكريم:
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثيرٌ من حفظة القران، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بمشورة عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ بجمع القران حيث جُمع من الرِّقاع، والعظام، والسَّعف، ومن صدور الرِّجال، وأسند الصِّدِّيق هذا العمل العظيم إِلى الصَّحابيِّ زيد بن ثابتٍ الأنصاريِّ، قال زيد بن ثابتٍ ـ رضي الله عنه ـ: أرسل إِليَّ أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ مقتل أهل اليمامة، فإِذا عمر بن الخطَّاب عنده، قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: إِنَّ عمر أتاني، فقال: إِنَّ القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرَّاء القران، وإِنِّي أخشى أن يستحرَّ القتل بالقرَّاء بالمواطن فيذهب كثيرٌ من القران، وإِنِّي أرى أن تأمر بجمع القران. قلتُ لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال عمر: هذا والله خيرٌ، فلم يزل عمر يراجعني حتَّى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الَّذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إِنَّك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ، لا نتَّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القران، فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلَّفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممَّا أمرني به من جمع القران.
ونستخلص من واقعة جمع القران الكريم بعض النَّتائج، منها:
1ـ إِنَّ جمع القران الكريم جاء نتيجة الخوف على ضياعه؛ نظراً لموت العديد من القرَّاء في حروب الردَّة، وهذا يدلُّ على أنَّ القرَّاء، والعلماء كانوا وقتئذٍ أسرع النَّاس إِلى العمل، والجهاد لرفع شأن الإسلام والمسلمين بأفكارهم وسلوكهم وسيوفهم، فكانوا خير أمةٍ أخرجت للنَّاس ينبغي الاقتداء بهم لكلِّ مَنْ جاء بعدهم.
2ـ إِنَّ جمع القران تمَّ بناءً على المصلحة المرسلة، ولا أدلُّ على ذلك من قول عمر لأبي بكرٍ حين سأله: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّه والله خيرٌ. وفي بعض الرِّوايات:
أنَّه قال له: إِنَّه والله خيرٌ، ومصلحةٌ للمسلمين، وهو نفس ما أجاب به أبو بكر زيد بن ثابتٍ حين سأل نفس السؤال. وسواء صحَّت الرواية التي جاء فيها لفظ المصلحة، أو لم تصحَّ، فإِنَّ التَّعبير بكلمة: خير، يفيد نفس المعنى، وهو مصلحة المسلمين في جمع القران، فقد جمع القران مبنيّاً على المصلحة المرسلة أوَّل الأمر، ثم انعقد الإِجماع على ذلك بعد أن وافق الجميع بالإِقرار الصَّريح، أو الضِّمني، وهذا يدلُّ على أنَّ المصلحة المرسلة يصحُّ أن تكون سنداً للإِجماع بالنِّسبة لمن يقول بحجِّيتها، كما هو مقرَّر في كتب أصول الفقه.
3ـ وقد اتَّضح لنا من هذه الواقعة كذلك كيف كان الصَّحابة يجتهدون في جوٍّ من الهدوء، يسوده الودُّ، والاحترام، هدفهم الوصول إِلى ما يحقِّق الصَّالح العام لجماعة المسلمين، وأنَّهم كانوا ينقادون إِلى الرأي الصَّحيح، وتنشرح قلوبهم له بعد الإِقناع، والاقتناع، فِإذا اقتنعوا بالرأي؛ دافعوا عنه، كما لو كان رأيهم منذ البداية، وبهذه الرُّوح أمكن انعقاد إِجماعهم حول العديد من الأحكام الاجتهاديَّة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي