موقف عمر رضي الله عنه من مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثانية عشر
1ـ في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال عبد الله بن زمعة: لمَّا استعزَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفرٍ من المسلمين؛ دعاه بلالٌ إِلى الصَّلاة، فقال صلى الله عليه وسلم : « مروا مَنْ يصلِّي للنَّاس »، قال: فخرجت فإِذا عمر في النَّاس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر ! قم فصلِّ بالنَّاس، فتقدَّم، فكبَّر، فلمَّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً، قال: « فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون ! يأبى الله ذلك والمسلمون ! » قال: فبعث إِلى أبي بكرٍ، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصَّلاة، فصلَّى بالناس، قال: قال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك !! ماذا صنعت بي يا بن زمعة ؟ والله ما ظننت حين أمرتني إِلا أنَّ رسول الله أمر بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالنَّاس ! قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكنِّي حين لم أر أبا بكر رأيتك أحقَّ مَنْ حضر بالصَّلاة بالنَّاس. وقد روى ابن عباسٍ بأنَّه: لما اشتدَّ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وجعه قال: « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده » قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: إِن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا، وكثر اللَّغط قال: « قوموا عنِّي، ولا ينبغي عندي التَّنازع » فخرج ابن عبَّاس يقول: إِنَّ الرزيَّة كلَّ الرزيَّة ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه.
وقد تكلَّم العلماء على هذا الحديث بما يشفي العليل، ويروي الغليل، وقد أطال النَّفس في الكلام عليه النَّوويُّ في شرح مسلم، فقال: اعلم: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب، ومن تغيير شيءٍ من الأحكام الشَّرعيَّة في حال صحَّته، وحال مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصوماً من الأمراض، والأسقام العارضة للأجسام، ونحوها ممَّا لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهَّد من شريعته، وقد سُحِر صلى الله عليه وسلم حتَّى صار يخيَّل إِليه أنَّه فعل الشيء ولم يكن فعله، ولم يصدر منه صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحال كلامٌ في الأحكام مخالفٌ لما سبق من الأحكام الَّتي قرَّرها، فإِذا علمت ما ذكرناه فقد اختلف العلماء في الكتاب الَّذي همَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم به، فقيل: أراد أن ينصَّ على الخلافة في إِنسانٍ معيَّنٍ لئلا يقع نزاعٌ، وفتنٌ. وقيل أراد كتاباً يبيِّن فيه مهمات الأحكام ملخصةً، ليرتفع النِّزاع فيها، ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم همَّ بالكتاب حين ظهر له أَنَّه مصلحة، أو أوحي إِليه بذلك، ثمَّ ظهر: أنَّ المصلحة تركه، أو أوحي إِليه بذلك، ونسخ ذلك الأمر الأوَّل.
وأمَّا كلام عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد اتَّفق العلماء المتكلِّمون في شرح الحديث على أنَّه من دلائل فقه عمر، وفضائله، ودقيق نظره؛ لأنَّه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها، واستحقُّوا العقوبة عليها لأنَّها منصوصةٌ لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله، لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فعلم: أنَّ الله تعالى أكمل دينه، فأمن الضَّلال على الأمَّة، وأراد التَّرفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان عمر أفقه من ابن عباس، وموافقيه.
قال البيهقيُّ: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنَّه توهَّم الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ظنَّ به غير ذلك ممَّا لا يليق به بحالٍ، لكنَّه لما رأى ما غلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجع، وقرب الوفاة، مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول ممَّا يقوله المريض ممَّا لا عزيمة له فيه، فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إِلى الكلام في الدِّين، وقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيمٍ، كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف، وفي كتاب الصُّلح بينه وبين قريش، فأمَّا إِذا أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالشَّيء أمر عزيمةٍ؛ فلا يراجعه فيه أحدٌ منهم. وقول عمر رضي الله عنه: حسبنا كتاب الله، ردٌّ على من نازعه، لا على أمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
وعلَّق الشَّيخ علي الطَّنطاويُّ على ذلك، فقال: والَّذي أراه أن عمر قد تعوَّد خلال صحبته الطَّويلة للرَّسول أن يبدي له رأيه لما يعلم من إِذنه له بذلك، ولرضاه عنه، وقد مرَّ من أخبار صحبته مواقف كثيرةٌ، كان يقترح فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أموراً، ويطلب منه أموراً، ويسأله عن أمورٍ، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرُّه على ما فيه الصواب، ويردُّه عن الخطأ، فلمَّا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « ائتوني أكتب لكم كتاباً » اقترح عليه عمر على عادته الَّتي عوَّده الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن يكتفي بكتاب الله، فأقرَّه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو كان يريد الكتابة؛ لأسكت عمر، ولأمضى ما يريد.
2ـ موقفه يوم قُبض الرَّسول صلى الله عليه وسلم :
لمَّا بلغ النَّاسَ خبر وفاة رَسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حدثت ضجَّةٌ كبيرةٌ، فقد كان موت الرَّسول صلى الله عليه وسلم صدمةً لكثيرٍ من المسلمين خاصَّة ابن الخطَّاب، حدَّثنا عن ذلك الصَّحابيُّ الجليل أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: لمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قام عمر بن الخطَّاب فقال: إِنَّ رجالاً من المنافقين يزعمون: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، وإنَّ رسول الله ما مات، ولكنَّه ذهب إِلى ربِّه، كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلةً، ثمَّ رجع إِليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعنَّ أيدي رجالٍ، وأرجلهم زعموا: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
وأقبل أبو بكر حتَّى نزل على باب المسجد ـ حين بلغه الخبر ـ وعمر يكلِّم الناس، فلم يلتفت إِلى شيءٍ حتَّى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجَّى في ناحية البيت، عليه بردةٌ حبرة، فأقبل حتَّى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ أكبَّ عليه، فقبَّله، ثمَّ بكى، فقال: بأبي أنت، وأمي ! لا يجمع الله عليك موتتين، أمَّا الموتة التي كتب الله عليك؛ فقد ذقتها، ثمَّ لن تصيبك بعدها موتةٌ أبداً. قال: ثمَّ رد البردة على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ خرج، وعمر يكلِّم النَّاس، فقال: على رسلك يا عمر ! أنصت، فأبى إِلا أن يتكلَّم، فلما راه أبو بكر لا ينصت؛ أقبل على النَّاس، فلمَّا سمع الناس كلامه؛ أقبلوا عليه، وتركوا عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ قال: أيُّها الناس ! إِنَّه من كان يعبد محمَّداً؛ فإِنَّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإِنَّ الله حيٌّ لا يموت، ثمَّ تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ *} [آل عمران: 144].
قال أبو هريرة: فوالله لكأنَّ النَّاس لم يعلموا: أنَّ هذه الآية نزلت حتَّى تلاها أبو بكر يومئذٍ، قال: وأخذها النَّاس عن أبي بكرٍ، فإِنَّما هي في أفواههم. قال: فقال أبو هريرة: قال عمر: فوالله ! ما هو إِلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت؛ حتَّى وقعتُ إِلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت: أنَّ رسول الله قد مات.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي