المدرستان الكوفيَّة و المصرية زمن الفاروق رضي الله عنه؛ من نتائج الفتح العظيم لبلاد العراق ومصر
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الخامسة والثلاثون
1 ـ المدرسة الكوفيَّة:
نزل الكوفة ثلاثمئةٍ من أصحاب الشَّجرة، وسبعون من أهل بدرٍ، رضي الله عنهم أجمعين، وكتب عمر بن الخطَّاب إِلى أهل الكوفة قائلاً: يا أهل الكوفة ! أنتم رأس العرب، وجمجمتها، وسهمي الَّذي أرمي به إِن أتاني شيءٌ من ها هنا، وها هنا، قد بعثت إِليكم بعبد الله، وخِرْتُ لكم، واثرتكم به على نفسي.
وفي روايةٍ عنه: قال: أمَّا بعد فإِنِّي بعثت إِليكم عمَّاراً أميراً، وعبد الله معلِّماً، ووزيراً، وهما من النُّجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما، وإِنِّي قد اثرتكم بعبد الله على نفسي إِثرةً. وقد اهتمَّ عمر بالكوفة، ووجَّه ابن مسعود، فكتب إِليه: إنَّ القران نزل بلسان قريش فأقرأى النَّاس بلغة قريش، لا بلغة هذيل.
وعندما شيَّع جماعةً من الصَّحابة قاصدين الكوفة؛ قال لهم: إِنَّكم تأتون أهل قرية ـ يعني: الكوفة ـ لهم دويٌّ بالقران كدوي النَّحل، فلا تصدُّوهم بالأحاديث، فتشغلوهم، جرِّدوا القران، وأقلُّوا الرِّواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمضوا، وأنا شريككم، لقد كان عمر يفضِّل الاشتغال بالقران عن الاشتغال بالسُّنة، ويظهر لنا ذلك في أنَّه لمَّا أراد أن يكتب السُّنَّة؛ استشار أصحاب رسول الله في ذلك، فأشاروا عليه: أن يكتبها، فطفق يستخير الله فيها شهراً، ثمَّ أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: إنِّي كنت أريد أن أكتب السُّنن، وإِنِّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبُّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإِنِّي والله لا أُلَبِّس كتاب الله بشيءٍ أبداً.
لقد كانت منهجيَّة الفاروق تعتمد على ترسيخ القران الكريم في نفوس النَّاس وعدم صرفهم عنه، حتَّى تتأصَّل معانيه في حياة المجتمع، وتستقرَّ علومه، ويميِّز الناس بينه وبين سواه من العلوم الإِسلاميَّة الأخرى بما فيها الحديث النَّبوي، فالتَّأكيد على القران الكريم كان منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الانصراف إلى غيره كان منذ ذلك العصر أيضاً، وما كان عمر ـ رضي الله عنه ـ إِلا متَّبعاً لتعاليم النَّبي صلى الله عليه وسلم.
اجتهد عبد الله بن مسعودٍ في إِيجاد جيلٍ يحمل دعوة الله فهماً، وعلماً، وكان له الأثر البالغ في نفوس أصحابه الملازمين له، أو من جاء بعدهم، وقد شهد له الفاروق بالعلم، فعن زيد بن وهبٍ، قال: كنت جالساً في القوم عند عمر؛ إِذ جاء رجلٌ نحيف، قليلٌ، فجعل عمر ينظر إِليه، ويتهلَّل وجهه، ثمَّ قال: كنيفٌ ملأى علماً، كنيفٌ ملأى علماً، فإِذا هو ابن مسعودٍ.
وقد تأثرت مدرسة الكوفة بابن مسعودٍ، فقد كانت من أكثر المدارس اقتداءً، ومتابعةً لأستاذها حتَّى بعد موته، فإِنَّ تأثيره قد بقي في الكوفة بعده مدَّةً طويلةً، وقد تأثَّر رضي الله عنه بفقه عمر غاية التأثُّر، وكان يدع قوله لقوله، وكان يقول: لو أنَّ علم عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ وضع في كفَّة الميزان، ووضع علم أهل الأرض في كفةٍ؛ لرجح علم عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.
وقد برز ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ بين الصَّحابة، وسبق في علم القراءة، وقد تلقَّى من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورةً من القران، فعن شقيق بن سلمة، قال: خطبنا عبد الله بن مسعود، فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنِّي من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم.
وعن مسروقٍ: ذُكر عبد الله عند عبد الله بن عمروٍ، فقال: ذاك رجلٌ لا أزال أحبُّه بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « استقرئوا القران من أربعةٍ: من عبد الله بن مسعود ـ فبدأ به ـ وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيِّ بن كعبٍ، ومعاذ بن جبل».
وقد عرف عمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ لابن مسعودٍ قدره في علم القراءة، والإِقراء، فعن علقمة قال: جاء رجلٌ إلى عمر، وهو يعرفه، فقال: يا أمير المؤمنين ! جئت من الكوفة، وتركت بها من يملأ المصاحف عن ظهر قلبه قال: فغضب عمر، وانتفخ، حتَّى كاد يملأ ما بين شعبتي الرَّجل، ثمَّ قال: ويحك ! من هو ؟ قال: عبد الله بن مسعودٍ، فما زال يطفأى، ويسرِّي الغضب، حتَّى عاد إِلى حاله الَّتي كان عليها، ثمَّ قال: ويحك ! والله ما أعلمه بقي أحدٌ من المسلمين هو أحقُّ بذلك منه ! وقد ترك ابن مسعودٍ مجموعةً من التَّلاميذ اشتهروا بالفقه، والعمل، والزُّهد، والتَّقوى، منهم: علقمة بن قيس، مسروق بن الأجدع، عبيدة السَّلمانيُّ، أبو ميسرة بن شرحبيل، والأسود بن يزيد، الحارث الجعفيُّ، مرَّة الهمدانيُّ.
2 ـ المدرسة المصرية:
كان في جيش عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ الذي فتح مصر الكثير من الصَّحابة، إِلا أننا يمكن أن نعدَّ عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ أكثر الصَّحابة تأثيراً في مصر في النَّواحي العلميَّة، وقد أحبَّ أهل مصر عقبة، ورووا عنه، ولازموه حتَّى قال سعد بن إِبراهيم: كان أهل مصر يحدِّثون عن عقبة بن عامر، كما يحدِّث أهل الكوفة عن عبد الله، وتلقَّى المصريُّون العلم عن الصَّحابة، وكان من أشهرهم أبو الخير مرشد بن عبد الله اليزنيُّ، فقد أخذ العلم وتتلمذ على يد عقبة، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
هذه أهمُّ المدارس الَّتي كان لحركة الفتوحات أثرٌ في نشأتها، والَّتي أشرف على نواتها الأولى الفاروق ـ رضي الله عنه ـ وقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ إِذا اجتمع إِليه جيشٌ، بعث عليهم رجلاً من أهل العلم، والفقه؛ ليعلِّم الجند أمور دينهم، وما قد يعرض لهم من الأمور، والأحكام، والقواعد الفقهيَّة، والقران.
وعندما اتَّسعت الفتوحات الإِسلاميَّة؛ احتاجت للمؤسَّسات العلميَّة التَّربويَّة، فقد بنيت الأمصار الإِسلاميَّة، مثل الكوفة، والبصرة، والفسطاط، فبالإضافة إلى كونها قواعد عسكريَّة، ومراكز لتجمُّع الجند، وأسرهم؛ أصبحت أيضاً مقرّاً لتجمُّع العلماء، والفقهاء، والوعَّاظ، فقد كان الفاروق يعيِّن الدُّعاة، والمعلِّمين، ويرسلهم إِلى البلدان المفتوحة، وقد صرَّح الفاروق بأنَّ من أهمِّ مقاصد بعث الولاة، والأمراء إِلى الأمصار أن يقوموا بتعليم النَّاس، فقد خطب الفاروق ـ رضي الله عنه ـ وقال: اللَّهُمَّ إِنِّي أشهدك على أمراء الأمصار، وإنِّي إِنَّما بعثتهم عليهم؛ ليعدلوا بينهم، وليعلِّموا النَّاس دينهم، وسنَّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، ويقسموا فيهم فيئهم.
وقد فرض الفاروق الأرزاق من بيت مال المسلمين للمعلِّمين، والمفتين حتَّى يتفرَّغوا لأداء مهمَّتهم في التَّعليم، والإِفتاء، وحتَّى الَّذين يعلِّمون الأطفال تكفَّل الفاروق بأرزاقهم، فقد كان بالمدينة ثلاثةُ معلمين يعلِّمون الصِّبيان، فكان عمر يرزق كلاًّ منهم خمسة عشر (درهماً) في كلِّ شهر، فقد كان نشر التَّعليم من أهمِّ أهداف الخليفة عمر بن الخطاب، فقد أرسل في البوادي، والأمصار مَنْ يعلِّمهم دينهم، ولم يكتف عمر ـ رضي الله عنه ـ بجهود ولاة الأمصار في نشر التَّعليم، بل دعمها بالعلماء الَّذين كان يرسلهم من المدينة، محمَّلين بوصاياه، فقد بعث عشرةً من الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ وكان فيهم عبد الله بن مغفل المزنيُّ؛ ليفقِّهوا النَّاس بالبصرة، وكذلك بعث عمران بن حصين الخزاعيَّ ـ رضي الله عنه ـ إِلى البصرة؛ ليفقِّه أهلها، وكان من فقهاء الصَّحابة.
ويبدو: أنَّ التَّعليم في الشَّام كان أكثر مركزيَّةً من بقيَّة الأمصار؛ لأنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ لمَّا افتتح البلدان؛ كتب إِلى أبي موسى الأشعريِّ، وهو على البصرة، يأمره أن يتَّخذ للجماعة مسجداً، ويتَّخذ للقبائل مساجد، فإِذا كان يوم الجمعة؛ انضمُّوا إِلى مسجد الجماعة، وشهدوا الجمعة، وكتب إِلى سعد بن أبي وقاص؛ وهو على الكوفة بمثل ذلك، وكتب إِلى عمرو بن العاص؛ وهو على مصر بمثل ذلك، وكتب إِلى أمراء أجناد الشَّام: لا يتبدوا إِلى القرى، ويتركوا المدائن، وأن يتَّخذوا في كلِّ مدينةٍ مسجداً واحداً، ولا يتَّخذوا للقبائل مساجد كما اتَّخذ أهل الكوفة، والبصرة، ومصر، فقد اهتمَّ الفاروق بالكوادر العلميَّة المتخصِّصة، وبعثها إِلى الأمصار، وأرشد القادة، والأمراء مع توسُّع حركة الفتوحات بإِقامة المساجد في الأقاليم المفتوحة؛ لتكون مراكز للدِّين الجديد، ومراكز للعلم، والمعرفة، ونشر الحضارة الإِسلاميَّة، فقد كانت المساجد هي المؤسَّسات العلميَّة الأولى في الإِسلام، ومن خلالها تحرَّك علماء الصَّحابة لتعليم الأمَّة وفق الخطَّة الاستراتيجيَّة؛ الَّتي سار عليها الفاروق والَّتي وضعت منذ عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم. وقد وصلت المساجد التي يصلى فيها الجمعة في دولة عمر ـ رضي الله عنه ـ إِلى اثني عشر ألف منبرٍ، وكانت تقوم بدورها في تعليم النَّاس، وتربيتهم، وتهذيب نفوسهم، وعندما احتاج المسلمون إِلى فصل مكان تعليم الصِّبيان عن المساجد؛ أمر عمر ـ رضي الله عنه ـ ببناء بيوت المكاتب، ونصب الرِّجال لتعليم الصِّبيان، وتأديبهم، وشجَّع الفاروق الطُّلاب على تلقي العلوم، ويسَّر سبلها لهم، وأعطاهم المكافات الماليَّة تشجيعاً لهم، فقد كتب إِلى بعض عمَّاله بمنح الجوائز تشجيعاً للمتفوِّقين، وقد تجلَّى ذلك في أمره لسعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ بأن يعطي من يتعلَّم القران ممَّا بقي من المال، وهذا التَّشجيع من الفاروق لأبناء الأمَّة الَّذين إِن تفرغوا لتعلُّم كتاب الله، وحفظه؛ فلن يجدوا إِلا العون، والتَّشجيع، وخصوصاً في الأقاليم الَّتي أهلُها حديثو عهدٍ بالإِسلام، يفجر الطَّاقات الكامنة فيها من مقدرة أبنائها على حفظ، وفهم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد كان رضي الله عنه يهتمُّ بجميع العلوم الَّتي لها علاقة بالقران، والسُّنة وخصوصاً اللغة العربيَّة، ومن أقواله في ذلك: تعلَّموا العربيَّة، فإِنَّها تثبِّت العقل، وتزيد في المروءة.
وقوله: تعلَّموا النَّحو كما تتعلَّمون السُّنن، والفرائض. وقوله: تعلموا إِعراب القران كما تتعلَّمون حفظه.
وقوله: شرُّ الكتابة المشق، وشرُّ القراءة الهذرمة، وأجود الخطِّ أبينه.
بل نجد: أنَّ الفاروق يعاقب من يخطأى في العربية، وهو في مكانٍ هامٍّ ينبغي أن يكون فيه مجيداً لما كُلِّف به، وتحمَّله، فقد ورد أنَّ أبا موسى الأشعريَّ كتب إِلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كتاباً، فكتب إِليه عمر: إِنَّ كاتبك؛ الَّذي كتب إِلي لحن، فاضربه سوطاً.
وقد روى ابن الجوزي أيضاً: أنَّ كاتب عمرو بن العاص كتب إِلى عمر، فكتب: باسم الله، ولم يكتب السِّين، فكتب عمر إِلى عمرٍو: أن اضربه سوطاً، فضربه عمرو، فقيل له: في أيِّ شيءٍ ضربك ؟ قال: في سين.
إِنَّ الفاروق ـ رضي الله عنه ـ كان حريصاً على إِتقان كلِّ شيءٍ، ولذا لم يترك أمراً من الأمور الَّتي تتَّصل بالسِّياسة، أو الاقتصاد، أو الجيوش، أو التَّعليم، أو الأدب، أو غير ذلك مما يتَّصل بحياة الأمَّة، ومجدها، وعزَّتها، وقوَّتها، وحضارتها إِلا أبدع فيه، وأعطاه اهتمامه، ويدلُّنا على شمولية سياسته، وحسن رعايته للأمَّة باستعمال الشِّدَّة في موضعها، واللِّين في موضعه، والحفاظ على أن يكون مستوى الكتابة بين الولاة على مستوى الفصحى في أمَّةٍ دستورها القران الكريم؛ الذي نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين.
كانت خلف المؤسَّسة العسكرية الَّتي قامت بفتح العراق، وإيران، والشَّام، ومصر، وبلاد المغرب كوادر علميَّةٌ، وفقهيَّةٌ، ودعويَّةٌ متميِّزةٌ تربَّت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وقد استفاد الفاروق من هذه الطَّاقات، فأحسن توجيهها، ووضعها في محلِّها، فأسَّست تلك الكوادر الحركة العلميَّة، والفقهيَّة؛ الَّتي كانت مواكبةً لحركة الفتح، واستطاع علماء الصَّحابة؛ الَّذين تفرغوا لدعوة النَّاس، وتربيتهم أن ينشئوا جيلاً من العارفين بالدِّين الإِسلاميِّ من أبناء المناطق المفتوحة، وقد استطاعوا أن يتغلَّبوا على مشكلة إِعاقة الحاجز اللُّغوي، بل تعلَّم الكثير من الأعاجم لغة الإِسلام، وأصبح كثيرٌ من روَّاد حركة العلم بعد عصر الصَّحابة من العجم. لقد أثَّرت المدارس العلميَّة، والفقهيَّة في المناطق المفتوحة، وشكَّلت جيلاً من العلماء نقلوا إِلى الأمَّة علم الصَّحابة، وأصبحوا من ضمن سلسلة السَّند؛ الَّتي نقلت للأمَّة كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويرجع الفضل ـ بعد الله ـ في نقل ما تلقَّاه الصَّحابة من علمٍ من الرَّسول بالدَّرجة الأولى إِلى مؤسِّسي المدارس العلميَّة بمكَّة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، ومصر، وغيرها من الأقطار، وقد اهتمَّ الفاروق بأولئك العلماء، والفقهاء وتابع أحوالهم، وسعيهم؛ حتَّى بارك الله في جهودهم، وأثمرت تلك الثِّمار، فأصبحت يانعةً.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي