نشأة وتطور المدرسة الشَّاميَّة زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السادسة والثلاثون
بعد فتح الشام كتب يزيد بن أبي سفيان إِلى عمر بن الخطَّاب كتاباً جاء فيه: إِنَّ أهل الشَّام كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إِلى مَنْ يعلِّمهم القران ويفقِّههم، فأعنِّي يا أمير المؤمنين ! برجالٍ يعلِّمونهم. فدعا عمر معاذ بن جبل، وعبادة بن الصَّامت، وأبا الدَّرداء ـ رضي الله عنهم ـ فأرسلهم لهذه المهمَّة، وقال لهم: ابدؤوا بحمص فإِنَّكم ستجدون النَّاس على وجوهٍ مختلفة، منهم من يتعلَّم بسرعةٍ، فإِذا رأيتم ذلك، فعلِّموا طائفةً من النَّاس، فإِذا رضيتم منهم، فليقم بها واحدٌ، ويخرج واحدٌ إِلى دمشق، والاخر إِلى فلسطين، وقدموا حمص، فكانوا بها حتَّى إِذا رضوا من أناسٍ ما وصلوا إِليه من مستوىً علميٍّ أقام بها عبادة، وخرج أبو الدَّرداء إِلى دمشق، ومعاذ إِلى فلسطين.
كانت المدارس العلميَّة الَّتي أنشأ نواتها الفاروق في البلدان المفتوحة تقوم بدورٍ في تعليم النَّاس، وتربيتهم. فالمدرسة الشَّاميَّة قامت على أكتاف معاذٍ، وأبي الدَّرداء، وعبادة بن الصَّامت ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم من الصَّحابة، فأبو الدَّرداء ـ رضي الله عنه ـ كانت له حلقةٌ عظيمة في مسجد دمشق يحضرها ما يزيد على ألف وستمئة شخص، يقرؤون عشرةً، عشرةً، ويتسابقون عليه، وأبو الدَّرداء واقفٌ يفتي النَّاس في حروف القران، ويعدُّ أبو الدَّرداء أكثر الصَّحابة أثراً في الشَّام، ودمشق. يقول الذَّهبي: وكان أبو الدَّرداء عالم أهل الشَّام، ومقرأى أهل دمشق، وفقيههم، وقاضيهم.
وكان رضي الله عنه من قرَّاء الصَّحابة المعدودين، وكان رضي الله عنه يحثُّ أهل الشَّام على طلب العلم قائلاً: مالي أرى علماءكم يذهبون وأرى جهَّالكم لا يتعلَّمون ؟! اعلموا قبل أن يرفع العلم، فإِنَّ رفع العلم ذهابُ العلماء، وَمِنْ حثِّه على طلب العلم قوله: كن عالماً، أو متعلِّماً، أو محبَّاً، أو متَّبعاً، ولا تكن الخامسة فتهلك ! قال الحسن البصريُّ: الخامسة: المبتدع. وقوله: اطلبوا العلم فإِن عجزتم؛ فأحبُّوا أهله، فإِن لم تحبُّوهم؛ فلا تبغضوهم، ألا فتعلَّموا، وعلِّموا، فإِنَّ العالم والمتعلِّم في الأجر سواءٌ، ولا خير في النَّاس بعدها، ولن تكون عالماً حتَّى تكون متعلماً، ولا تكون متعلماً حتَّى تكون بما علمت عاملاً، وكان يقول: لا تفقه كلَّ الفقه حتَّى ترى للقران وجوهاً. وقيل لأبي الدَّرداء: ما لك لا تقول الشعر ؟ فإِنَّه ليس رجل له بيت من الأنصار إِلا وقد قال الشِّعر ؟ قال: وأنا قد قلت، فاسمعوا:
يُرِيْدُ المَرْءُ أن يُعْطَى مُنَاهُ وَيَأبَى الله إِلا مَا أَرَادَا
يَقُولُ المَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا
وقد جاء في روايةٍ: أنَّ أبا الدَّرداء عندما أراد عمر أن يولِّيه في الشام، فأبى، فأصرَّ عليه، فقال أبو الدَّرداء: إِذا رضيت منِّي أن أذهب إِليهم لأعلِّمهم كتاب ربِّهم، وسنَّة نبيِّهم، وأصلِّي بهم؛ ذهبتُ. فرضي عمر منه بذلك.
ومن إِلمام أبي الدَّرداء بكثيرٍ من العلم ازدادت مكانته في نفوس المسلمين، فاجتمع حوله كثيرٌ من طلاب العلم، فمن سائلٍ عن فريضة، ومن سائلٍ عن حسابٍ، وسائل عن حديثٍ، وسائل عن معضلةٍ، وسائلٍ عن شعرٍ، ولهذا كان أثره العلميُّ واسعاً في الشَّام، ولا سيَّما في تعليم القران، وكذلك أثره الوعظيُّ، فقد قام في أهل الشام ذات يومٍ، فقال لهم: يا أهل الشام ! ما لكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، ألا وإِنَّ عاداً وثمود، كانوا قد ملؤوا ما بين بصرى، وعدن أموالاً وأولاداً، ونعماً، فمن يشتري منِّي ما تركوه بدرهمين ؟! وقد كانت مثل هذه التَّعاليم تنسجم مع السِّياسة العمريَّة الرَّامية إِلى تهيئة الأمَّة، وإِدامة جاهزيَّتها الجهاديَّة.
وأمَّا معاذ بن جبل الخزرجي ـ رضي الله عنه ـ فقد استفاد منه أهل اليمن، ثمَّ أهل الشَّام وكان عبد الله بن مسعودٍ يثني على معاذ بن جبل، فيحدِّث أصحابه قائلاً: إِنَّ معاذاً {كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *}: وما الأمَّة ؟ قال: الَّذي يعلِّم النَّاس الخير، ثمَّ قال: هل تدرون ما القانت ؟ قالوا: لا ! قال: القانت: المطيع لله، وإِنَّ معاذاً كان كذلك. فقد كان ابن مسعود يشبِّه معاذاً بالنَّبي إِبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ لما هو عليه من السُّموِّ العلميِّ، والمكانة الفقهيَّة، والخلقيَّة، وذلك لما امتاز به معاذٌ من فهمٍ عميقٍ للفقه الإِسلاميِّ، أعطاه قدرة على الإِجابة عن المعضلات مما أوجد له القبول والإِعجاب بين المسلمين، قال عنه عمر: عجزت النِّساء أن يلدْنَ مثل معاذٍ.
وكان عمر إِذا حزبه أمر؛ يستشير أهل الشُّورى، ومعهم من الأنصار: معاذ بن جبل، وأبي بن كعبٍ، وزيد بن ثابتٍ؛ لما يتمتَّعون به من الفقه، والتَّفسير الواقعيِّ، والعلميِّ للأحداث، ولما كان لديهم من خبرةٍ في ذلك؛ إِذ كانوا يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يحبُّ سماع حديث معاذٍ، وأبي الدرداء، فيقول: حدِّثونا عن العاقِلَيْن، فيقال: من العاقلان ؟ فيقول: معاذٌ، وأبو الدَّرداء الأنصاريَّان.
ولمَّا خطب الخليفة عمر بن الخطاب بالجابية؛ قال: من كان يريد أن يسأل عن الفقه؛ فليأت معاذ بن جبلٍ.
وكان رأي عمر في بداية عهد الصِّدِّيق: أنَّ الخلافة لا تستغني عن وجود معاذ ابن جبل في عاصمتها، وكان معارضاً لخروجه من المدينة، فكان يقول بعد خروج معاذ إِلى الشَّام: لقد أخلَّ خروجه بالمدينة، وأهلها في الفقه، وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلَّمت أبا بكر أن يحبسه لحاجة النَّاس إِليه، فأبى عليَّ، وقال: رجلٌ أراد الشَّهادة، فلا أحبسه. فقلت: والله إِنَّ الرَّجل ليرزق الشَّهادة وهو على فراشه، وفي بيته، عظيم الغنى عن مصره. ويبدو أنَّ الفاروق غيَّر رأيه فيما بعد، فقد أرسله لتعليم أهل الشَّام، وأقرَّه على البقاء فيها.
وقد كان لخروج معاذ بن جبلٍ إِلى الشَّام أثرٌ كبيرٌ لما ترك من العلم، والفقه، ولما أثبت من جدارةٍ في ذلك، قال أبو مسلم الخولاني: دخلت مسجد حمص، فإِذا فيه نحو من ثلاثين كهلاً من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإِذا فيهم شابٌّ أكحل العينين، براق الثَّنايا، ساكتٌ لا يتكلَّم، فإِذا امترى القوم في شيءٍ؛ أقبلوا عليه، فسألوا، فقلت لجليسٍ لي: من هذا ؟ قال: معاذ بن جبل. وكان معاذ ـ رضي الله عنه ـ يحثُّ على طلب العلم، فيقول: تعلَّموا العلم، فإِنَّ تعلُّمه لله خشيةٌ، وطلبه عبادةٌ، ومذاكرته تسبيحٌ والبحث عنه جهادٌ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقةٌ، وبذله لأهله قربةٌ؛ لأنه معالم الحلال، والحرام، ومنار أهل الجنَّة، والأنس في الوحشة، والصَّاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والدَّليل على السَّراء والضَّراء، والسِّلاح على الأعداء، والدِّين عند الأجلاء، يرفع الله تعالى به أقواماً، ويجعلهم في الخيرة قـادةً، وأئمـةً تُقتبس اثارُهـم، ويُقتدى بفعالهـم، ويُنتـهى إِلى رأيهم.
وقد بقي في الشَّام يعلِّم النَّاس دينهم إِلى أن أصيب في طاعون عمواس، فبكاه أصحابه، فقال: ما يبكيكم، قالوا: نبكي على العلم الذي ينقطع عنا عند موتك. قال: إِنَّ العلم والإِيمان مكانهما إِلى يوم القيامة، ومن ابتغاهما؛ وجدهما في الكتاب، والسُّنَّة، فاعرضوا على الكتاب كلَّ الكلام، ولا تعرضوه على شيءٍ من الكلام. فالقران عنـد معـاذ هو الميـزان الَّذي يقـاس عليـه كلُّ شيءٍ، ولا يقاس هو على غيره.
هذه هي منهجيَّة معاذٍ في تعليمه للقران، بقي متمسِّكاً بذلك إِلى اخر لحظةٍ في حياته، فكان وهو في غمرات الموت كلَّمَا أفاق فتح عينيه، ثمَّ قال: ربي اخنقني خنقك ! فوعزَّتك إِنَّك لتعلم أنَّ قلبي يحبُّك!
وأمَّا عبادة بن الصَّامت ـ رضي الله عنه ـ فقد وجَّهه عمر الفاروق إِلى الشَّام قاضياً ومعلِّماً، فأقام بحمص، ثمَّ انتقل إِلى فلسطين، فولي قضاءها، واستقرَّ به المقام فيها، فكان أوَّل من تولَّى قضاء فلسطين، وكان أيضاً يعلِّم أهلها القران، وظلَّ على هذا النَّحو إِلى أن مات بها، وقد أسهم عبادة بنصيبٍ كبيرٍ في تنفيذ سياسة الفاروق العلميَّة، والتربويَّة، والجهاديَّة، وكان رضي الله عنه من أهل الزُّهد، والخشونة، فعندما وصل إلى حمص؛ قال لأهلها: ألا إِنَّ الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ، وإنَّ الآخرة وعدٌ صادقٌ.. ألا وإِنَّ للدُّنيا بنين، وإِن للاخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدُّنيا، فإِنَّ كلَّ أمٍّ يتبعها بنوها.
فهذه المعاني كان عمر يحرص على ترسيخها في نفوس المسلمين، ويختار من الصَّحابة الكرام من يستطيع أن يذكِّر النَّاس بها، وتتجسَّد هذه المعاني في سيرته، وكان رضي الله عنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولا تأخذه في الله لومة لائم، فعندما كان قاضياً في فلسطين أنكر على والي الشَّام شيئاً، وقال: لا أساكنُك بأرضٍ، فرحل إِلى المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك ؟ فأخبره، فقال: ارحل إِلى مكانك، فقبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك، فلا إِمرة له عليك! فعاد إِلى الشَّام داعيةً، ومعلِّماً، وقدوةً في مجتمعه.
وبعث عمر ـ رضي الله عنه ـ أيضاً ـ عبد الرحمن بن غنم الأشعريَّ إِلى الشَّام يفقِّه الناس، فمعاذ، وأبو الدرداء، وعبادة ـ رضي الله عنهم ـ هم الأعمدة الرَّئيسية الَّتي اعتمد عليها عمر في تأسيس المدرسة الشَّاميَّة؛ الَّتي قامت بالدَّعوة، والتَّعليم؛ والتَّربية في تلك الديار، وكان معهم مجموعةٌ خيِّرةٌ من الصَّحابة الكرام، وعلى يد هؤلاء الصَّحب الكرام تعلَّم التَّابعون بالشَّام، وكانوا كثيرين إِلا أنَّ أشهرهم عائد الله بن عبد الله أبو إِدريس الخولانيُّ، ومكحول أبو عبد الله الدِّمشقيُّ، وغيرهم كثير.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf