الشِّعر يحوِّل حزم عمر رضي الله عنه إِلى لينٍ، وشفقة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثامنة والثلاثون
كان أميَّة بن الأسكر الكناني، وكان سيِّداً من سادات قومه، وله ابنٌ اسمه: كلاب، هاجر إِلى المدينة في خلافة عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فأقام بها مدَّةً، ثمَّ لقي ذات يومٍ طلحة بن عبيد الله، والزُّبير بن العوَّام، فسألهما: أيُّ الأعمال أفضل في الإِسلام ؟ فقالا له: الجهاد، فسأل عمر، فأغزاه في الجند قالا: الغازي إِلى الفرس. فقام أميَّة، وقال لعمر: يا أمير المؤمنين ! هذا اليوم من أيَّامي، ولولا كبر سنِّي. فقام إِليه ابنه كلاب، وكان عابداً زاهداً فقال: لكنِّي يا أمير المؤمنين ! أبيع نفسي، وأبيع دنياي باخرتي. فتعلَّق به أبوه، وكان في ظلِّ نخلٍ له، وقال: لا تدع أباك، وأمَّك شيخين ضعيفين ربَّياك صغيراً، حتَّى إِذا احتاجا إِليك؛ تركتهما. فقال: نعم أتركهما لما هو خيرٌ لي، فخرج غازياً بعد أن أرضى أباه، فأبطأ، وكان أبوه في ظلِّ نخلٍ له، وإِذا حمامة تدعو فرخها، فراها الشَّيخ فبكى، فرأته العجوز، فبكت، وأنشأ يقول:
لِمَنْ شَيْخَانِ قَدْ نَشَدَا كِلاَبَا كِتَابَ اللهِ لَوْ قَبِلَ الكِتَابَا
أُنَادِيْهِ فَيُعْرِضُ فِي إِبَاءٍ فَلاَ وَأَبي كِلاَبٍ مَا أَصَابَا
لِذَا هَتَفَتْ حَمَامَةُ بَطْن وَجٍّ عَلَى بَيْضَاتِهَا ذِكْراً كِلاَبَا
فَإِنَّ مُهَاجِرَيْنِ تَكَنَّفَاهُ فَفَارَقَ شَيْخَهُ خَطأً وَخَابَا
تَرَكْتَ أَبَاكَ مُرْعَشَةً يَدَاهُ وَأُمَّكَ مَاْ تُسِيْغُ لَهَا شَرَابا
تُنَقِّضُ مَهْدَهُ شَفَقَاً عَلَيْهِ وَتُجْنِبُهُ أباعِرَها الصِّعَابَا
فَإِنَّكَ قَدْ تَرَكْتَ أباكَ شَيْخاً يُطَارِقُ أَيْنَقاً شِرْباًطِرابا
إِذا ارْتَعَشْتْ لإِرْقالٍ سِرَاعاً أَثَرْنَ بِكُلِّ رَابِيَةٍ تُرابا
طَوِيلاً شَوْقُهُ يَبْكِيْكَ فَرْداً عَلَى حُزْنٍ وَلاَ يَرْجُو الإِيَابَا
فإِنَّك والْتِمَاسُ الأَجْرِ بَعْدِي كَبَاغِي المَاءِ يَتَّبِعُ السَّرَابَا
وكان أمية قد أضرَّ (أي: عمي) فأخذه قائده بيده، ودخل به على عمر؛ وهو في المسجد، فأنشده:
أَعَاذِلُ قَدْ عَذَلْتِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَمَا تَدْرِيْنَ عَاذِلُ مَا أُلاَقِي
فَإِمَّا كُنْتِ عَاذِلَتِي فَرُدِّي كِلاباً إِذْ تَوَجَّهَ لِلْعِرَاقِ
لَوْمٌ أَقَضَّ اللُّبَانَةَ مِنْ كِلابٍ غَدَاةَ غَدٍ وَاذَنَ بِالْفِرَاقِ
فَتَى الفِتْيَانِ في عُسْرٍ وَيُسْرٍ شَدِيْدَ الرُّكْنِ فِي يَوْمِ التَّلاقي
فَلا وأَبِيْكَ مَا بَالَيْتَ وَجْدِي ولا شَفَقِي عَلَيْكَ، ولا اشْتِيَاقِي
وَإِيْفَادِي عَلَيْكَ إِذَا شَتَوْنَا وَضَمُّكَ تَحْتَ نَحْرِي واعْتِنَاقي
فَلَوْ فَلَقَ الفُؤَادَ شَدِيْدُ وَجْدٍ لَهَمَّ سَوَادُ قَلْبِي بِانْفِلاقِ
سَأَسْتَعْدِي عَلَى الفَارُوق رَبّاً لَهُ دَفْعُ الحَجِيْجِ إِلَى بُسَاقِ
وَأَدْعُو الله مُجْتَهِداً عَلَيْهِ بِبَطْنِ الأخْشَبَيْنِإِلى دِقَاقِ
إِنِ الفَارُوقُ لَمْ يَرْدُدْ كِلاباً عَلَى شَيْخَيْنِ هَامَهُمَا زَوَاقِ
فبكى عمر بكاءً شديداً، وكتب إِلى أبي موسى يأمره بإِشخاص كلابٍ، فرحَّله على الفور، فقدم على عمر، فأمر به فأُدخل، ثمَّ أرسل إِلى أميَّة، فتحدَّث معه ساعةً، ثمَّ سأله: ما أحبُّ الأشياء إِليه في يومه، فقال: كلاب أحبُّ أنَّه عندي فأشمُّه، فأمر بكلاب، فأخرج إِليه، فوثب الشَّيخ فجعل يشمُّ ابنه، ويبكي، وجعل عمر ـ رضي الله عنه ـ يبكي، والحاضرون كذلك، وقالوا لكلاب: الزم أبويك، فجاهد فيهما ما بقيا، ثمَّ شأنك بنفسك بعدهما، وأمر له بعطائه، وصرفه مع أبيه، وتغنَّت الرُّكبان بشعر أبيه، فبلغه، فأنشأ يقول:
لَعَمْرُكَ مَا تَرَكْتُ أَبَا كِلاَبٍ كَبِيْرَ السِّنِّ مُكْتَئِباً مُصَابَا
وَأُمّاً لا َيَزَالُ لَهَا حَنِينٌ تُنَادِي بَعْدَ رَقْدَتِهَا كِلاَبَا
لِكَسْبِ المَالِ أَوْ طَلَبِ المَعَالي ولكنِّي رَجَوْتُ بِهِ الثَّوَابَا
وكان كلاب من خيار المسلمين، فلم يزل مقيماً عندهما حتَّى ماتا.
وهناك حادثةٌ مشابهةٌ حيث هاجر شيبان بن المخبَّل السَّعدي (الشَّاعر المعروف) وخرج مع سعد بن أبي وقَّاص لحرب الفرس، فجزع عليه والده « المخبَّل » جزعاً شديداً، وكان قد أسنَّ، وضعف، فلم يملك الصَّبر عنه، فأنشد قصيدةً يقول فيها:
أَيُهْلِكُنِي شَيْبَانُ في كُلِّ لَيْلَةٍ لِقَلْبِي مِنْ خَوْفِ الفِرَاقِ وَجِيْبُ
فَإِنِّي حَنَتْ ظَهْرِي خُطُوبٌ ألاَ تَرَى أَرَى الشَّخْصَ كالشَّخْصَيْنِ وَهُوَ قَرِيْبُ
وَيُخْبِرُني شَيْبَانُ أنْ لَنْ يعقَّني تَعِقُّ إِذَا فَارَقْتَنِي وَتَحُوبُ
فَلاَ تَدْخُلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حَوْبةٌ يَقَومُ بِهَا يَوْماً عَلَيْكَ حَسِيْبُ
فلمَّا سمعها عمر؛ رقَّ له، وبكى، وكتب إِلى سعدٍ بأن يرجع شيبان، فردَّه إِلى أبيه.
ولم تكن هذه الحادثة هي الأخيرة من نوعها حيث يتأثَّر عمر بالشِّعر، بل يذكر له حوادث مماثلة، منها: هاجر خراش بن أبي خراش الهُذليُّ في أيَّام عمر بن الخطاب، وغزا مع المسلمين، فأوغل في أرض العدوِّ، فقدم أبو خراش المدينة، فجلس بين يدي عمر، وشكا إِليه شوقه إِلى ابنه، وأنَّه رجلٌ قد انقرض أهلُه، وقتل إِخوته، ولم يبق له ناصرٌ، ولا معينٌ غير ابنه خراش، وقد غزا، وتركه، وأنشأ يقول:
ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ عنِّي خِرَاشاً وَقَدْ يَأْتِيكَ بالنَّبَأ البَعِيْدُ
وَقَدْ تَأْتِيْكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لاَ تُجَهِّزُ بالحِذَاء وَلا تَزيدُ
تُنَادِيْهِ لِيَعْقُبَهُ كُلَيْبٌ وَلاَ يَأتِي لَقَدْ سَفِهَ الوَلِيْدُ
فردَّ إِناءهُ لاَ شَيْء فِيْهِ كَأنَّ دُمُوْعَ عَيْنَيْهِ الْفَرِيْدُ
وَأَصْبَحَ دُونَ غَابِقِهِ وَأَمْسَى جِبَالٌ مِنْ جِرَارِ الشَّامِ سُوْدُ
ألا فَاعْلَمْ خِرَاشُ بِأنَّ خَيْرَ الـ ـمُهَاجِرِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ زَهِيْدُ
رَأَيْتُكَ وَابْتِغَاءَ البِرِّ دُونِي كَمَخْضُوبِ اللِّبَانِ وَلا يَصِيْدُ
فتأثَّر عمر، وكتب بعودة خراش إِلى أبيه، وأمر بأن لا يغزو من كان له أبٌ شيخٌ إِلا بعد أن يأذن له.
وهكذا نلاحظ تأثُّر أمير المؤمنين بالشِّعر، ولشدَّة تأثُّره يبكي، وهو الذي اشتُهر بالشِّدَّة، والحزم، وهذا يدلُّ على إِحساسه المرهف، وشعوره الإِنسانيِّ، حيث يشارك الاباء العاجزين توقهم، وحاجتهم إِلى أبنائهم، وكذلك يشارك كلَّ إِنسانٍ مظلومٍ، أو مغلوبٍ على أمره ما ينتابه من أحاسيس، ومشاعر، وقد مرَّ معنا موقفه من شعر الهجاء.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf