من سياسات التطوير العمراني زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الأربعون
قام عمر ـ رضي الله عنه ـ بتوسعة مسجد الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأدخل فيه دار العبَّاس ابن عبد المطلب، وامتدت التَّوسعة عشرة أذرع من جهة القبلة وعشرين ذراعاً من النَّاحية الغربية، وسبعين ذراعاً من الناحية الشَّمالية، وأعاد بناءه باللِّبِن والجريد، وجعل عُمُده من الخشب، وسقفه من الجريد، وكساه ليحمي النَّاس من المطر، ونهى عن زخرفته بحمرةٍ، أو صفرةٍ؛ لئلا يفتتن النَّاس في صلاتهم، وكان المسجد تراباً ففرشه بالحصى ليكون أنظف للمصلِّي، وألين على الماشي.
وأجرى عمر ـ رضي الله عنه ـ تعديلاتٍ يسيرةً في المسجد الحرام بمكَّة، فنقل مقام إِبراهيم، وكان ملصقاً بالكعبة إِلى مكانه اليوم بعيداً عنها للتَّيسير على الطَّائفين والمصلِّين، وعمل عليه المقصورة واشترى دوراً حول الحرم، وهدمها، وزادها فيه، وأبى قوم من جيران المسجد أن يبيعوا، فهدم بيوتهم، ووضع الأثمان حتَّى أخذوها بعد، واتَّخذ له جداراً قصيراً دون القامة، فكانت المصابيح توضع عليه، وكانت كسوة الكعبة في الجاهلية الجلود، فكساها صلى الله عليه وسلم بالثِّياب اليمانيَّة، ثمَّ كساها عمر القباطي، وهي ثيابٌ مصريَّة رقيقة بيضاء، كما عُمِّرت المساجد في الأمصار الجديدة في خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ فاختطَّ سعد بن أبي وقاص المسجد الجامع بالكوفة. واختطَّ عتبة بن غزوان المسجد الجامع بالبصرة.
واختط عمرو بن العاص المسجد الجامع في الفسطاط، فكانت هذه المساجد الكبيرة محلَّ صلاة المسلمين، وتعارفهم، وتدارسهم العلم، وقضائهم وتلقِّيهم أوامر الخليفة، والولاة.
الاهتمام بالطُّرق، ووسائل النَّقل البرِّي، والبحري:
رصد الخليفة الفاروق حصَّةً من بيت مال المسلمين لدعم التَّواصل بين أجزاء الدَّولة الإِسلاميَّة، وخصَّص عمر عدداً ضخماً من الجمال، بوصفها وسيلة المواصلات المتاحة آنذاك؛ لتيسير انتقال مَنْ لا ظهر له بين الجزيرة، والشَّام، والعراق، كما اتَّخذ ما يسمَّى (دار الدَّقيق) وهي مكانٌ يجعل فيه السَّويق، والتَّمر، والزَّبيب، ومتطلَّبات المعيشة الأخرى، يعين به المنقطع من أبناء السَّبيل، والضيف الغريب، ووضع في الطريق بين مكَّة والمدينة، ما يصلح به حاجة المسافر، وما يحمل عليه من ماءٍ إلى ماءٍ، فالفاروق ـ رضي الله عنه ـ يترسَّم الهدي القرآني المرشد إِلى أنَّ العمران يستلزم التَّواصل، ممَّا يوفِّر الأمن، ولا يجعل المسافر بحاجةٍ إِلى حمل ماءٍ، ولا زاد.
وكانت توجيهات عمر إِلى القبائل، والأمراء، والولاة تصبُّ في هذا الاتجاه، فعن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جدِّه قال: قدمنا مع عمر بن الخطاب في عمرته سنة سبع عشرة، فكلَّمه أهل المياه في الطريق أن يبنوا منازل لهم فيما بين مكَّة والمدينة لم تكن قبل ذلك، فأذن لهم، واشترط أنَّ ابن السبيل أحقُّ بالماءِ، والظِّلِّ، ونلاحظ اهتمام عمر بإِصلاح الطُّرق في معاهدات بعض ولاته مع البلدان الَّتي تمَّ فتحها، فلمَّا تم فتح نهاوند جاء أهل الماهين ماه بهرذان، وماه دينار، وطلبوا من حذيفة بن اليمان الأمان على أن يؤدُّوا الجزية، فكتب لأهل كلِّ ماهٍ عهداً هذه صورته: (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم: هذا ما أعطى حذيفة بن اليمان أهل ماه دينار، أعطاهم الأمان على أنفسهم، وأموالهم، وأرضيهم، لا يُغيَّرون عن ملَّةٍ، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدَّوا الجزية في كلِّ سنةٍ إِلى واليهم من المسلمين، على كلِّ حالمٍ في ماله، ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السَّبيل، وأصلحوا الطُّرق وقروا (أضافوا) جنود المسلمين من مرَّ بهم، فأوى إِليهم يوماً وليلةً، ونصحوا، فإِن غشُّوا، وبدَّلوا، فذمَّتنا منهم بريئةٌ. شهد القعقاع بن عمرو، ونعيم بن مقرِّن، وكتب في المحرم سنة 19 هـ.
ومما يستنبط من هذا الكتاب استيعاب ولاة عمر لأصول الحضارة، وسياسة الملك، فقد عرفوا لوازم العمران، فجعلوا إِصلاح الطُّرق الَّتي هي عون الأمم التِّجارية، والحَرْبيَّة إِجباريّاً على أهل البلاد المفتوحة، وقد انصرفت همَّة الفاروق منذ السَّنة السَّادسة عشرة للهجرة إِلى تمصير الأمصار في العراق، وشقِّ الأنهار، وإِصلاح الجسور، وقد جاء في عهد عياض بن غنم لأهل الرَّها ما يأتي: باسم الله، هذا كتابٌ من عياض بن غنم لأسقف الرَّها: إِنَّكم قد فتحتم لي باب المدينة على أن تؤدُّوا إِليَّ عن كلِّ رجلٍ ديناراً ومدي قمح، فأنتم امنون على أنفسكم، وأموالكم، ومن يتَّبعكم، وعليكم إِرشاد الضَّالِّ، وإِصلاح الجسور، والطُّرق، ونصيحة المسلمين. شهد الله، وكفى بالله شهيدًا. وعندما علم عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه: أنَّ خليجاً كان يجري بين النِّيل من قرب حصن بابليون إِلى البحر الأحمر، فكان يربط الحجاز بمصر، وييسر تبادل التِّجارة، ولكن الرُّوم أهملوه، فرُدم، فأمر الفاروق عامله على مصر عمرو بن العاص بشقِّ هذا الخليج مرَّة أخرى، فشقَّه، فيسَّر الطريق بين بلاد الحجاز وبين الفسطاط عاصمة مصر، وأصبح شريان تجارةٍ يتدفَّق منه الرَّخاء ما بين البحرين مرَّةً أخرى وقامت على هذا الخليج داخل الفسطاط منتزهاتٌ، وخمائل، ومساكن، وسمَّاه عمرو: خليج أمير المؤمنين.
وقد حمل والي مصر ما أراد من الطعام إِلى المدينة، ومكة، فنفع الله بذلك أهل الحرمين، ثمَّ لم يزل يحمل فيه الطَّعام حتَّى حمل فيه بعهد عمر بن عبد العزيز، ثمَّ ضيَّعه الولاة بعد ذلك، فترك، وغلب عليه الرَّمل، فانقطع فصار منتهاه إِلى ذنب التِّمساح من ناحية بطحاء القُلزم.
وحفر بالعراق قناةً مائية مسافة ثلاثة فراسخ من الخور إِلى البصرة لإِيصال مياه دجلة إِلى البصرة. وهذه المشاريع في حفر الأنهار، والخلجان، وإِصلاح الطُّرق، وبناء الجسور، والسُّدود، أخذت أموالاً ضخمةً من ميزانية الدَّولة في عهد عمر.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf